مبادئ العمل الخيري الدولي الفعال والمؤثر

أشكال العطاء العالمي
فريق من غرب إفريقيا يزور الهند للتعرف على تقييم (ASER)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أشكال كثيرة من العطاء العالمي قد تقوّض في واقع الأمر قدرات المجتمعات المحلية على محاسبة صناع القرار داخلها وترسّخ هيمنة المؤسسات غير الحكومية  التابعة لدول الشمال.  وتقدم شبكة العمل الشعبي من أجل التعلم (PAL Network) نموذجاً لما يجب أن يقوم عليه العمل الخيري عالمي التوجه وحتى محليّ التوجه من مبادئ.

في شهر يوليو/تموز من عام 2020 تمكّنا للمرة الأولى من مقارنة القدرات الرياضية للطلاب داخل المدارس وخارجها في 13 دولة مختلفة موزعة على قارات آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. حيث طور علماء القياس النفسي تقييمات قابلة للمقارنة بين 11 لغة وفي سياقات متعددة، وزار المسؤولون عن الاستقصاء أكثر من 15,000 أسرة وقيّموا أكثر من 20,000 طفل من 779 مجتمعاً ريفياً. حّلل الباحثون البيانات ونقحّوها، وصاغوا التقارير، ونظموا حدثاً لعرض نتائج الدراسة، وقد تم كل هذا في خضم الجائحة.

من برأيك يقف وراء كل هذه الجهود؟  ما المؤسسات والأفراد الذين يخطرون ببالك؟ قد تخطر ببالك مؤسسة دولية ضخمة مثل اليونيسكو، والعديد من الخبراء “العالميين”، وملايين الدولارات من ورائهم؟

في الواقع،  كان هذا الجهد بتعبير  أحد المراقبين “مثالاً ملهماً على أن التعاون بين دول الجنوب ليس ممكناً فحسب، بل قادر على منافسة مبادرات دول الشمال التي غالباً ما لا تتلاءم مع السياقات (المحلية)… و[تتضمن]” خبرات “[خارجية] مُكلفة”. لقد كان التقييم الدولي المشترك للمهارات الحسابية (ICAN) أحد نتاجات شبكة العمل الشعبي من أجل التعلم (PAL Network)، وهي تحالف مكون من 15 مؤسسة تُعنى بالتعليم في 14 دولة مختلفة من الجنوب العالمي يركز على التقييم المجتمعي لمخرجات العملية التعليمية. قاد الجهد خبراء من الهند وكينيا و13 دولة أخرى من الدول التي تضمها شبكة (PAL)، وقد استثمروا خبرات شركاء الشبكة، مثل مؤسسة براثام (Pratham) والمجلس الأسترالي للبحوث التعليمية.

تقدم لنا شبكة (PAL) أيضاً مثالاً على أفضل المساهمات التي يمكن أن يحققها العمل الخيري العالمي التوجه. في حين أن العديد من الأشكال التقليدية للعطاء العالمي تقوّض في الواقع المسؤولية المحلية وترسّخ المركز المهيمن للمؤسسات غير الحكومية لدول الشمال. وكشف تقرير أُعد مؤخراً أن العطاء الدولي الذي تقدمه المؤسسات بلغ أعلى حد له الآن، لكن التمويل قُدم في الغالب إلى المؤسسات الموجودة في الشمال العالمي: تم منح 12% فقط من إجمالي التمويل الدولي مباشرة إلى مؤسسات متمركزة في البلدان التي تنفذ فيها مشروعاتها، في حين أن المنح المقدمة مباشرة إلى المؤسسات “المحلية” تميل إلى أن تكون أقل قيمةً ويتم منحها بعد تدقيق أكثر.

ما هو نوع العطاء الذي يمكننا تشجيعه إذاً؟ كيف يمكن للمؤسسات الخيرية ألا تدرك فقط قيمة دعم المؤسسات المحلية ولكن أيضاً أن تتابعها وتوفر لها التمويل بطريقة داعمة؟ وكيف يمكن لهذه المؤسسات الخيرية توسيع فهمها لما يشكل المعرفة والأدلة الأكثر صلة ووثوقية وصلابةً ثم التمويل على أساسها؟ في الوقت الذي تُحاسب فيه مؤسسات عدة على ما تفعله بشكل خاطئ، نقدم أمثلة على العطاء الدولي الذي مُنح بطرائق تدعم المجتمعات التي تم تمكينها.

العطاء الدولي لدعم المجتمعات التي تم تمكينها

يعود الفضل في ولادة شبكة (PAL) إلى مؤسسة براثام، وهي مؤسسة غير حكومية أُسست عام 1995، وأحد الأعضاء المؤسسين لشبكة (PAL)، والتي أخذت على عاتقها مهمة بسيطة لقياس مهارات القراءة والحساب الأساسية عند الطلاب في بعض قرى الهند. اكتشفت براثام بناءً على هذه التجربة المبكرة أن العديد من الأطفال الذين يرتادون المدرسة لم يكونوا قادرين على القراءة والكتابة؛ فعلى الرغم من أن المشكلة الأكثر بديهية المتمثلة في عدم ذهاب الأطفال إلى المدرسة تم حلها، لا تزال مشكلة تتفاقم في الخفاء: النتاج التعليمي المتدني. إن تسليط الضوء على هذه المشكلة – باستخدام أدوات سهلة الإدارة بحيث يمكن للمجتمع نفسه أن يشارك في التقييم – سمح للمجتمعات بفهم المشكلة المطروحة والبدء في معالجتها. في عام 2005، أجرت براثام التقييم ذاته على مستوى البلاد، حيث حشدت ما يقرب من 25,000 مواطن من جميع أنحاء الهند لزيارة الأسر في جميع أنحاء البلاد واختبار أكثر من نصف مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و16 عاماً لمعرفة ما إذا كانوا يستطيعون القراءة والحساب أم لا. ثم نشرت النتائج في تقرير “الوضع السنوي للتعليم” (ASER) ودفعت النظام المدرسي للالتزام بمنهجيات التعلم التأسيسية.

بعد عدة سنوات، كانت مجموعة من قادة التعليم من شرق إفريقيا تبحث عن حلول لمواجهة تدني مستوى التعليم المدرسي في بلدانهم، وتمكنت من السفر إلى الهند والتعلم من تجربة (ASER) بفضل منحة سفر صغيرة قدمتها مؤسسة هيوليت (Hewlett). عاد الفريق إلى موطنه مفعماً بالإلهام وأطلق مشروع أويزو (Uwezo)، وهو نسخة من تجربة (ASER) تم تكييفها بما يتناسب مع السياق السائد في هذه البلدان.

لنتقدم بالزمن عدة سنوات أخرى، حين كانت 13 مؤسَّسة محلية في ثلاثة بلدان مختلفة تحشد المواطنين العاديين لإجراء تقييمات حول مخرجات العمليات التعليمية واستخدام هذه النتائج في محاسبة حكوماتها وتحميلها مسؤولية رفع مستوى المدارس. تمكنت هذه المؤسسات بمفردها من تغيير أولويات حكوماتها الدولية والأنظمة المدرسية لتضع التعلم الفعلي على رأس القائمة، وليس فقط الاهتمام بوجود المدارس. وقد سمح التمويل الذي قدمته مؤسسة هيوليت لهذه المؤسسات بتقاسم ما كانوا يتعلمونه.  كانت تلك التبادلات مثمرة للغاية لدرجة أن هذه المؤسسات تجمعت رسمياً مشكّلة شبكة (PAL) لتتعلم من بعضها بعضاً وتستفيد من النتائج المشتركة للمخرجات التعليمية المُحبطة في سبيل الدعوة لتحسين التعليم على مستوى العالم. ساعدت هذه المؤسسات مجتمعةً على تغيير الأولويات العالمية، عبر تضمين التعليم كهدف أساسي في أهداف التنمية المستدامة. وقد تُوّج عملها مؤخراً بابتكار أول تقييم رياضي قابل للمقارنة دولياً يمكن تطبيقه على الأطفال في المدرسة وخارجها من خلال التقييم الدولي المشترك للمهارات الحسابية (ICAN).

وتوضح شبكة العمل الشعبي من أجل التعلم (PAL Network) كيف يبدو العمل الخيري الموجه عالمياً (ومحلياً أيضاً):

  1. تمويل الفاعلين المعنيين مباشرةً بعائدات المبادرات التي ينفذونها.
  2. زيادة مساءلة صناع السياسات العامة أمام مواطنيهم.
  3. البدء بتنفيذ ما هو ملائم محلياً واستخدام ذلك لتوجيه جداول الأعمال العالمية وليس العكس.
  4. تيسير التعلم المستمر والتبادل المشترك الذي يعتمد على أنواع متعددة من المعرفة والخبرة.

1. تمويل الفاعلين المعنيين مباشرةً بعائدات المبادرات التي ينفذونها

“إذا كان هناك درس رئيس واحد يمكن تعلمه من تجربة التنمية الدولية حتى الآن، فهو أن السياسات العامة تعمل بشكل أفضل عندما يتم تصميمها وتنفيذها من قبل الجهات الفاعلة المحلية… على الرغم من أن المانحين الدوليين يدركون حالياً أن الملكية المحلية أمر بالغ الأهمية للتدخلات الإنمائية الناجحة، فإنهم غالباً ما يفشلون في الاستثمار بالمؤسسات المحلية التي يمكنها إجراء البحث والتحليل المستمر الذي يحتاج إليه واضعو السياسات والناشطون لإحداث تحسينات في البرنامج بمرور الوقت”.

هذه هي الحجة التي استخدمها طاقم البرنامج في مؤسسة هيوليت لبناء قضيته من أجل توفير الدعم الضخم غير المقيد لمراكز التفكير المتمركزة في الدول التي يريدون التأثير فيها وتُدار من قبل مواطني هذه الدول. قدمت مبادرة مركز التفكير
لعقود من الزمان الدعم غير المقيد لأكثر من 40 مركزاً فكرياً في 20 دولة، ونتيجة للدعم الكبير الطويل الأمد والمستقر الذي تلقته هذه المراكز، تمكنت الغالبية العظمى المدعومة منها من العمل بشكل استراتيجي ومتعمد على تعزيز جودة أبحاثهم لتحقيق تأثير في السياسة.

إن الفاعلين الذين يمتلكون فهماً قوياً للسياق الذي يطورون الحلول من أجله، ولديهم مصلحة شخصية في نجاح حلولهم، هم أكثر عرضة لمعرفة ما يجب القيام به وأكثر عرضة للمساءلة إذا فعلوا ذلك بشكل خاطئ.

في حالة شبكة (PAL)، فإن كل عضو هو مؤسسته المستقلة الخاصة به، التي يقع مقرها في البلدان التي يجرون فيها تقييماتهم ويقودها قادة من هذه البلدان. وعلى الرغم من أن أعضاء الشبكة اتفقوا جميعاً على مبادئ تقييمات مهارات القراءة والرياضيات الخاصة بهم، التي تظل ثابتة في جميع البلدان، فقد تمكنت كل مؤسسة من إجراء تعديلات على عملية التقييم اللازمة لتسريع التأثير على السياق السائد في بلدها. على سبيل المثال، وسعت مؤسسة (ASER) في باكستان تقييمها ليشمل المناطق الحضرية، متجاوزة نموذج (ASER) المطبق في أرياف الهند من أجل تزويد صانعي السياسات بفهم كامل لمشهد التعلم في بيئة سريعة التحضر. وفي شرق إفريقيا، تبنت أويزو نهجاً مماثلاً في تبني نظام ( ASER) وتكييفه حسب السياق المحلي عبر إضافة العديد من أسئلة القراءة والفهم لتقييم قراءة الأطفال، نظراً لأن العديد من الأطفال في هذه المناطق كانوا يقرؤون بلغة مختلفة عن لغتهم الأم.

كما أن تمويل الفاعلين الذين لهم مصلحة شخصية في نجاح المبادرات التي يشرفون عليها يعني أيضاً توفير مستوى هادف من الدعم لهؤلاء الفاعلين حتى يتمكنوا من إنجاز العمل. فالمانحون الدوليون يقدمون للمؤسسات “المحلية” منحاً أصغر من تلك المقدمة للمؤسسات الدولية أو المؤسسات التي يقودها  المغتربون. عندما حللت مؤسسة عائلة سيغال نمو إيرادات أزيد من  200 مؤسسة شريكة في إفريقيا جنوب الصحراء، وجدت أن تلك التي يقودها المغتربون نمت بوتيرة أسرع بمرتين من المؤسسات التي يقودها الأفارقة. في الواقع، إن اللغة نفسها التي نتحدث بها عن المؤسسات “المحلية” تكشف عن تحيزنا تجاه ما هو ممكن من حيث توسع ونطاق طموحاتهم. وغالباً ما يتذرع المانحون بضعف قدرة الاستيعاب الخاصة بالمؤسسات “المحلية” دون التورع في إغداق منح سخية على مؤسسات جديدة كلياً يقودها أصحاب البشرة البيضاء.

مع ذلك، فإن نطاق وحجم المشكلات التي تعالجها المؤسسات “المحلية” كبير، ويجب أن يكون التمويل متناسبا معه. وفي حالة أعضاء شبكة (PAL)، كان من الأساسي الحصول على تمويلات وصلت قيمتها إلى مئات الآلاف من الدولارات لإطلاق التقييمات الجديدة، ما مكن المؤسسات من تحصيل الدعم الذي كانت تحتاجه لتقود مشاريعها بجرأة وطموح. ففي شرق إفريقيا، على سبيل المثال، كان أول تقييم تعليمي لمؤسسة أويزو عضو شبكة (PAL) على مستوى دولي وقد تم في كينيا وأوغندا وتنزانيا – وليس على نطاق صغير في عدد قليل من المناطق الفرعية. إن البصمة التي تركتها تقييمات أويزو على صعيد المنطقة وعلى الصعيد الدولي هي التي جعلتها مقياساً موثوقاً للتعلم في كل من هذه البلدان ووفر منصة للتأثير على السياسات الوطنية.

أحد التحديات التي يواجهها الممولون العالميون هو الحصول على معلومات كافية عن سياق المشروع في سبيل فهم كيف سيؤثر الدعم الخارجي على بنى عمل السياسة، والمناصرة، والبحث. يمتلك الممولون القدرة على “انتقاء الرابحين”، الأمر الذي قد يزعزع استقرار قطاع المؤسسات غير الحكومية المحلية، لا سيما في السياقات التي تكون فيها الموارد شحيحة. يمكن للفرق جيدة الاطلاع التي تشتغل من داخل البلدان أو المستشارين أو هما معاً  تقييم الديناميكيات السياسية والمساعدة في التخفيف من بعض مخاطر اختيارات الممولين. كما يمكن للممولين تمويل عدة مؤسسات تعمل على نفس المشكلات لتشجيع تطوير أفضل الأفكار، ويمكنهم أيضاً تمويل مؤسسات من مختلف القطاعات. لذا ينبغي لهم البحث عن أدلة التأثير الذي تحققه تلك المؤسسات والاعتراف على الملأ بالأثر السلبي المحتمل لهذا الأمر على مجتمع المؤسسات غير الحكومية المحلية والسياسات المحلية وما إلى ذلك.

2. زيادة تحمل المسؤولية والمحاسبة لواضعي السياسات العامة أمام مواطنيهم

ينبغي أن يعزز العطاء الدولي تحمل المسؤولية بين البلدان، لا أن يقلل من شأنه. ولكن كما ذكرت روث ليفاين: “نظراً لكون مؤسسة أميركية تقدم أجندة سياسية لا تتحمل مسؤولية عملها أمام مواطني البلدان الأخرى، فقد تقوّض عن غير قصد العلاقة بين المواطنين وحكومتهم”.

إن تقييمات التعلم التي قام بها أعضاء شبكة (PAL) هي تقييمات محلية ويتم تنفيذها من قبل متطوعين من المواطنين مدربين تدريباً جيداً. حيث يحشد كل عضو من أعضاء شبكة (PAL) المواطنين داخل دولته لإجراء تقييمات التعلم من أجل فهم حقائق أنظمة التعليم وإبرازها على أرض الواقع. كما يُراعى انخراط الأسر والمجتمعات المتأثرة بالمشكلات التعليمية في عملية إجراء التقييمات وعملية الدعوة إلى التغيير.

النساء في جهات العمل غير الرسمية: العولمة والتنظيم (WIEGO) هي شبكة أخرى تجسد هذا المبدأ. تجمع شبكة (WIEGO) مؤسسات العمال في الجهات غير الرسمية، والباحثين المبتكرين والملتزمين، وممارسي التنمية “لتحسين وضع الطبقة العاملة الفقيرة، وخاصة النساء في الجهات الاقتصادية غير الرسمية”. يتمثل جوهر عمل (WIEGO) في توفير المساحات وتنشيطها حيث يمكن لمجموعات العمال غير الرسميين أن يتحدوا معاً لتقديم مطالبهم لحكومتهم. تحقق النساء حضوراً فاعلاً بطرائق متعددة من خلال الانتظام في مجموعات منظمة، وانتخاب ممثلين للتحدث نيابة عنهن إلى السلطات البلدية وحتى إلى الجهات من مستوى أعلى، وإيصال أصواتهن إليها. حيث عملت (WIEGO) في غانا مع جامعي النفايات الذين كانوا يعانون تجاهل الحكومة لهم بغض النظر عن مساهماتهم شديدة الأهمية في إدارة النفايات الصلبة في أكرا. وقد دعمت (WIEGO) جامعي النفايات لتكوين مؤسسات ديمقراطية قوية يمكنهم من خلالها تحديد أولوياتهم ومطالبهم والتعبير عنها. وفي النهاية، طور قادة جامعي النفايات صوتاً قوياً وثقة كبيرة لدرجة أنهم بدؤوا بتشكيل الخطاب الوطني حول السياسة المتعلقة بالنفايات.

إن تقديم الدعم اللازم للمؤسسات هو عنصر أساسي لتعزيز تحمل المسؤولية المحلية. من المستحيل على مؤسسة مثل (WIEGO) أن توضح للمتبرع ما هي الاحتياجات المحددة لجامعي النفايات وكيف سيحلونها. فالمشكلات أمور مرنة متغيرة، تماماً مثل فرص التأثير على السياسات. لقد تمكنت (WIEGO) من المراقبة والتعلم مباشرة من جامعي النفايات والبائعين والاستفادة من نوافذ الفرص الضيقة مع الحكومة بفضل الدعم غير المقيد الذي قدمته مؤسسة هيوليت. كان اتباع نهج برمجة مرن وقابل للتكيف أمراً بالغ الأهمية خاصة بعد بداية أزمة كوفيد-19. فقد كيّفت (WIEGO) استراتيجيات جديدة بسرعة، وتحولت لدعم مطالب العمال في أن تشمل أموال التحفيز الحكومية للأعمال الصغيرة الباعةَ الجائلين وتجار السوق. استجابةً لدعوة العمال، وسّعت الحكومة عملية استقبال الطلبات لزيادة إمكانية الوصول إلى الأموال.

وبالمثل، كانت إحدى المشكلات التي سعت مبادرة (Think Tank Intiative) إلى حلها من خلال الدعم غير المقيد هي حقيقة أن معظم المؤسسات الفكرية في البلدان المنخفضة الدخل تلقت دعماً لمشاريع غير قابلة للتكرار، والتي غالباً ما يتم تحديدها (إن لم تكن مصممةً بالكامل) من قبل الوكالة المانحة التي تمول المشروع. ونتيجةً لذلك، كانت المراكز الفكرية عالقة في إجراء أبحاث تستجيب لاحتياجات الجهات المانحة بدلاً من تحديد أولوياتها البحثية الخاصة بها ومساعدة حكوماتها على إنشاء وصقل السياسات التي تستجيب لمطالب المواطنين. على سبيل المثال، عندما انهار مبنى كان يضم خمسة مصانع للملابس في بنغلادش عام 2013 وقتل 1,130 شخصاً، لم يتعين على مركز الحوار السياسي حشد الأموال للاستجابة. فقد كانوا يتمتعون بالدعم المرن الذي كانوا يحتاجون إليه للتنظيم السريع ومراقبة ما إذا كانت الحكومة ملتزمة بتقديم ما يلزم للمجتمعات المتضررة لدعم الضحايا واتخاذ الإجراءات اللازمة بعد الكارثة.

3. الانطلاق مما هو متناسب محلياً للتأثير على الأجندة العالمية

إن مجال التنمية الدولية مليء بمحاولات “التأثير على الأجندة العالمية” في المحادثات بين الفاعلين “العالميين” والفاعلين “العالميين” الآخرين. ينبغي أن تنطلق هذه المحادثات من الاحتياجات الحقيقية للأشخاص على الأرض، والمؤسسات غير الحكومية المحلية، لا سيما تلك المرتبطة بمحادثات دولية وإقليمية وعالمية من خلال الشبكات الرسمية، ويمكن أن تكون مصدراً لا يقدر بثمن للإلهام والمعلومات حول الإجراءات التي يمكن للجهات الفاعلة الدولية اتخاذها للتأثير بشكل هادف على الحياة وسبل العيش.

بدأت شبكة (PAL) بمشكلة متناسبة محلياً، وهي حقيقة أن العديد من الأطفال المرتادين للمدرسة لم يكونوا يتعلمون القراءة والحساب، وعملت على معالجتها في بلدها. وعندما تواصلت مع المؤسسات الأخرى التي كانت تتعامل مع قضايا مماثلة في بلدانهم واجتمعوا معاً كشبكة (PAL) ليتعلم بعضهم من بعض، أدركوا أن القضايا التي كانت متناسبة محلياً في كل دولة منها كان لها صدى عالمي أيضاً. ومعاً تمكنوا من بناء جسر يصل بين الجهود المحلية والتأثير العالمي. فعلى سبيل المثال، عملوا على ضمان أن تتضمن أهداف التنمية المستدامة أهدافاً تعليمية تركز على تعلم الأطفال – والتي تمثل تطويراً للأهداف الإنمائية للألفية التي اهتمت فقط بما إذا كان الأطفال يلتحقون بالمدارس ويتمّون سنوات الدراسة. كانوا يترافعون عن قضايا وثيقة الصلة بالواقع المُعاش للمواطنين في بلدانهم، ما جعل التغيير الذي كانوا يسعون لتحقيقه هادفاً.

وزيادة على ما يقدمونه من منح مالية، يمكن أن يضطلع الممولون بدور مهم في تيسير هذه الجهود. فعلى سبيل المثال، في حالة شبكة PAL، بذل مسؤولو البرامج بمؤسسة هيوليت قصارى جهودهم لإيصال أصوات المؤسسات الأعضاء إلى محافل النقاش “العالمية” حيث يمتلك المموّلون علاقات متشعبة، وهو ما لم يكن ليتم لولا هذه الجهود.

إن منهجية تغيير السياسات التي تنطلق من القواعد الشعبية إلى صناع القرار هي إحدى السمات المميزة أيضاً لعمل شبكة WIEGO. فقد أدركت شبكة WIEGO أهمية معايير العمل للنساء العاملات في القطاع غير الرسمي استناداً إلى عملها مع العمال في الجهات غير الرسمية لمدة فاقت عقداً من الزمن. حيث دعمت WIEGO في عام 2016 على سبيل المثال بعض العمال الأكثر احتياجاً في أكرا، وهم نساء كاياي (النساء اللواتي تنقلن الأحمال على رؤوسهن)، وأسست بنجاحٍ حملةً من أجل إنهاء رسوم العمل اليومية، ما يؤكد أن عمال القطاع غير المنظم يجب ألا يتحملوا جميع التكاليف والمخاطر المرتبطة بأعمالهم. كما دعمت WIEGO العمال في الجهات غير الرسمية لضمان الوصول الموسع للضمان الاجتماعي وحسنت البنية التحتية والخدمات في الأسواق. بالاستناد إلى مبادئ من هذه الالتزامات – وتحديداً أن الانتقال إلى القطاع المنظم يجب أن يكون داعماً لهؤلاء العمال وليس عقابياً – دعت WIEGO منظمة العمل الدولية لاعتماد توصية منظمة العمل الدولية رقم 204، وهي معيار العمل الدولي الأول على الإطلاق المخصص للاقتصاد غير الرسمي، وخارطة طريق السياسات التي تسهل الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد المنظم في الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية البالغ عددها 186 دولة.

تتضمن التوصية العديد من المطالب التي قدمتها منصة شبكة WIEGO، وهي خارطة طريق للسياسة تم إنشاؤها بالاشتراك مع مؤسسات العمال غير الرسمية من أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، مثل: الحقوق والضمانات والحوافز للعمال غير الرسميين، وذلك لإضفاء الطابع الرسمي والاعتراف بأهمية وجود بيئة قانونية وسياسية ودية، وديمومة الوظائف الرسمية وتوسيعها والحماية من إضفاء الطابع غير الرسمي على الوظائف الرسمية، والاعتراف بالفضاء العام كمكان عمل، وتوسيع الحماية الاجتماعية للعمال غير الرسميين، بما في ذلك تغطية التأمين الاجتماعي والصحة والسلامة المهنية، والاعتراف بضرورة تمثيل المؤسسات القائمة على العضوية للعمال غير الرسميين في مفاوضات أو مشاورات ثلاثية حول القضايا التي تمسهم.

يساعد عمل المؤسسات أمثال شبكة PAL و WIEGO على تحقيق الوعود وإلزام الهيئات العالمية بالاستفادة من مجتمعات الخبراء في الأماكن التي من المفترض أن يكون عمل المؤسسات متناسباً معها. كما يوضح أهمية تحديد الأهداف محلياً، وحشد الدعم لها عالمياً.

4. تيسير التعلم المستمر والتبادل المشترك الذي يعتمد على أنواع متعددة من المعرفة والخبرة

غالباً ما يفترض الممولون أن المؤسسات القائمة في البلدان منخفضة الدخل تحتاج إلى خبرات خارجية في سبيل القيام بعملها. وبينما لا ضير في تحصيل الدعم الخارجي من أجل التعلم، يكمن خطر التركيز المحموم على “بناء القدرات” في حقيقة أن الممولين قد يفشلون في التعرف على نقاط القوة العديدة لهذه المؤسسات واستغلالها: مثل الفهم العميق للحاجات المحلية، وأنواع الحلول التي قد تنجح في حل المشكلة، والاقتصاد السياسي في بيئة العمل، وغيرها الكثير. وعندما يستخدم الممولون التقييمات للمساءلة أو لأهداف بيروقراطية، فربما كانوا يلبون حاجاتهم الشخصية عوضاً عن توفير فرصة للتعلم للمؤسسات لتتمكن من تكرار التجارب وتحسينها.

إن الممولين الذين يرون أن كل مؤسسة لديها شيء لتتعلمه وشيء لتعليمه (بما في ذلك للممول!)، يفتحون مساحة لتبادل ثري وهادف مشترك. وقد تعلمت مبادرة تينك تانك هذا الدرس في منتصف الطريق. ففي البداية، قدمت المبادرة جلسات بناء قدرات للحاصلين على المنح ضمن الشبكة. ووجدت أن قادة مراكز التفكير لم يكونوا يكتسبون الشيء الكثير من هذه الجلسات قياساً إلى ما كانوا يكتسبونه خلال المحادثات مع مسؤولي البرامج وأقرانهم في مراكز الأبحاث الأخرى؛ لذلك تحولت المبادرة من تقديم جلسات بناء القدرات إلى تيسير جلسات التبادل بين الأقران، التي وجدها قادة مراكز التفكير أكثر فائدة. ساعدت جلسات تبادل الأقران بين مراكز التفكير على تيسير نشر الأفكار الناجحة مثل إثراء النقاش الانتخابي في أمريكا اللاتينية.

ينتشر الدعم ضمن شبكة WIEGO أفقياً عبر فرق مختلفة تشتغل داخل المدن وتتبادل الآراء حول مجالات محددة، وعبر الاجتماعات ربع السنوية داخل البلدان التي تجتمع فيها جميع القطاعات، والاتصالات بين الزملاء عندما يحتاجون إلى الدعم. يوجد فريق صغير واحد لشبكة WIEGO داخل الدولة، إلا أنهم قادرون على الاستفادة من الشبكة العالمية الكبيرة للحصول على الدعم التقني الموجه، سواءً في مجالات محددة أو عندما تطلبه الفرق المحلية. وهذا الأمر يضع كل الأعضاء ضمن شبكة WIEGO على قدم المساواة. وبشكل مشابه يتعلم أعضاء شبكة PAL من بعضهم البعض، وكما أشار أحد الأعضاء: “تهتم شبكة PAL بالمحبة كما تهتم بالتعلم. فهي تهتم بالإشراك العاطفي للمستهدفين بتقييماتها بطريقة لا نجدها في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA) [وهو برنامج دولي لتقييم قدرات الطلبة تشرف عليه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)]”.

بالإضافة إلى التبادل المشترك، يعد تمويل التقييمات الخارجية والبحث أداة أخرى لتسهيل التعلم المستمر داخل المؤسسات عندما يتم إثراء البحث باستخدام مدخلات المؤسسة التي يتم تقييمها. فقد استفاد أعضاء شبكة PAL من بحث أجراه فريق من جامعة كامبريدج ومُوِّل بأموال المنحة. نظر البحث في كيفية استخدام تقييمات التعلم التي أنشأها أعضاء الشبكة لحث الإجراءات التي من شأنها تحسين هذه النتائج. ووجدوا فرصاً لربط التقييمات التي يقودها المواطنون بالإجراءات التي يقودها المواطنون، ما شجع شبكة PAL على دعم أعضائها وتشجيعهم ليتعلموا المزيد عن برامج مثل برنامج التدريس على المستوى الصحيح (Teaching at the Right Level).

يمكن لوجهات النظر الخارجية أن تكون مفيدة، إلا أن الأمر الأساسي الذي يتعين على الممولين فعله هو فهم أن كل مؤسسة تمتلك شيئاً لتتعلمه وشيئاً لتُعلّمه، وأن المعرفة تأتي من مصادر مختلفة (الخبرات الحياتية والتحليل التجريبي مثلاً). وهذا يفتح آفاقاً واسعةً لإغناء التعلم والتكيف والتحسن على كافة الأصعدة.

نهاية الأعمال الاعتيادية

من السهل جداً على فاعلي الخير على مستوى العالم الوقوع في فخ افتراض أن الخبرة الغربية مطلوبة لجعل الأمور احترافية، وأن الأفكار الجيدة تتدفق فقط من “الشمال” إلى “الجنوب”، وأن المعايير الصارمة للمشروع مطلوبة لتحمل المسؤولية. في الواقع، غالباً ما تكون أفضل الخبرات مدمجةً ضمن السياق. يواجه العمال غير الرسميين في غانا إخفاقات السياسات والأنظمة الحالية وقد توصلوا إلى حلول مبتكرة في مجالات متنوعة مثل إدارة النفايات الصلبة وحقوق العمل. وقد غذّت المقترحات الشعبية المقدمة عبر شبكة WIEGO نقاشات السياسة العالمية، مشكلةً قواعد ومعايير قادمة من أسفل إلى أعلى. أما في حالة شبكة PAL، فإن تقييمات التعلم لديهم على وجه التحديد قد تم تطويرها ضمن الإطار الراهن حيث يمتلكون خصائص تجعلها أفضل – فهي بسيطة ومفهومة، ما يجعلها قابلة للتنفيذ. لا ينبغي أن تكون المعرفة معقدة لتكون ذات مغزى.

على الرغم من هذه الخصائص التي ميزت شبكة PAL و شبكة WIEGO ومراكز التفكير المحلية عن الجهود الأخرى، إلا أن إيجاد التمويل لعملهم لم يكن أمراً سهلاً. فهل سيحدث كوفيد والدعوات إلى العدالة العرقية رجة قوية بما يكفي لـزعزعة “إجراءات العمل الاعتيادية” بحيث يستطيع الممولون البدء في استكشاف أساليب جديدة؟

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.