كيف تُنفق أموالك بالأعمال الخيرية بأساليب مختلفة؟

أساليب تمويل مختلفة
(الرسم التوضيحي: ميلندا بيك) 
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في عصرنا الذي نحتاج فيه إلى عمل خيري ضخم، ما زال بإمكان المؤسسات الخيرية الصغيرة الحجم إيقاع أثر هائل، فيما يلي 7 أساليب تمويل مختلفة لتحقيق فائدة أكبر من التمويل الخيري.

التقيت بيل كلارك للمرة الأولى في شهر أغسطس/آب من عام 2013 في اجتماع على الفطور في باحة فندق صغير بمدينة واشنطن العاصمة. بيل هو رئيس مؤسسة أوسبري فاونديشن (Osprey Foundation) وممولها، وهي مؤسسة خيرية عائلية يقع مقرها الرئيس خارج مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند. كان أكبر قطاع تستهدفه المؤسسة ببرامجها يحظى باهتمام بيل الشديد: تحسين خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة (WASH) المقدمة للفقراء في إفريقيا وأميركا اللاتينية، وكانت لديّ خبرة في هذا القطاع إذ أطلقت برنامجاً لخدمات الماء والصرف الصحي والنظافة وعملت على قيادته في سنوات خدمتي لدى مؤسسة بيل ومليندا غيتس فاونديشن (Bill & Melinda Gates Foundation) بين عامَي 2005 و2013.

في الأشهر التالية تعمقت معرفتي لبيل ولاستراتيجية مؤسسة أوسبري ومجموعة المؤسسات المستفيدة من مِنحها، وبحلول نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول، كنت قد اكتسبت ما يكفي من المعارف حول المؤسسات المستفيدة وأهدافها لتقديم نصيحة لبيل

قلت له: “يمكنك اتباع نهج مختلف في التمويل”.

فسألني: “ماذا تعني؟”

فأجبته: “أنت تنفق اليوم غالبية أموالك على أعمال تقديم الخدمات المباشرة، مثل توصيل خدمات الماء والصرف الصحي للفقراء. هذا جيد بلا شك، ولكن المؤسسات غير الحكومية التي تمولها تحصل على الدعم المالي من مؤسسات مانحة أكبر، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس أيد) (USAID) أو الوكالات المكافئة لها في المملكة المتحدة أو هولندا، وهذه المؤسسات المانحة الرسمية تنفق غالبية أموالها على حفر الآبار وبناء المراحيض لأن هذا ما يطلبه السياسيون والناخبون. وبالتأكيد، تعتمد المؤسسات غير الحكومية على هذا التمويل ولكنه يقيد طرائق عملها ويقيّد حصولها على الموارد غير المرتبطة بتسليم الخدمات، لذلك ما تحتاج إليه المؤسسات غير الحكومية حقاً هو التمويل المرن الذي يتيح لها تجربة أساليب جديدة أو التفكير فيما تفعله”.

سأل بيل: “ما الفائدة؟”

قلت له: “ثمة فائدتان في الحقيقة؛ أولاً، إذا رغبت في تقديم التمويل غير المقيد لإحدى المؤسسات فعليك تقبّل طريقتها في إدارته بصدر رحب، وهذا يشمل استراتيجيتها وقدرتها على التنفيذ وإدارته وحوكمته وأعماله. وبالنسبة لمجموعة المؤسسات المستفيدة الحالية، أشعر بالرضا عن طرائق عمل بعضها أكثر من البعض الأخر. ثانياً، لن تتمكن بوصفك ممولاً من رؤية نتيجة مباشرة لاستثمارك، وإذا كنت ترى أن النتيجة المباشرة مهمة فلا تتبع هذا النهج؛ أما إذا لم يكن لديك مانع في أداء دور غير مباشر في دعم أنشطة المؤسسات غير الحكومية، فهذا النهج هو الخيار المنطقي، والأفضل هو أنك سترفع فاعلية ملايين الدولارات التي تدفعها المؤسسات المانحة الكبيرة الرسمية، فضلاً عن الأموال التي تنفقها الأسر وحكومات الدول على هذه الخدمات الأساسية”.

فأجاب بيل: “بل تعجبني الفاعلية”.

بدأنا نتيجة لذاك الاجتماع مجموعة حوارات حول استراتيجيات التمويل التي اتبعناها طوال الأعوام التسعة الماضية، وعن طريق إعادة النظر في الأدوار التي يمكن أن تؤديها المؤسسة المانحة غيّرنا الطرائق التي تتبعها مؤسسة أوسبري في إنفاق أموالها وتقديم المشورة للمؤسسات المستفيدة من برامجها واستثماراتها المؤثرة واستخدام نفوذها لدعم القطاعات المستهدَفة الأساسية. وبذلك استطعنا تطوير مجموعة من أساليب التمويل التي تمكّننا من إيقاع تأثير أكبر بكثير مما كنا نتوقعه عادة من أي مؤسسة خيرية صغيرة (أعني بكلمة “صغيرة” هنا المؤسسات التي يبلغ مجموع ما تدفعه سنوياً 5-6 ملايين دولار وتتراوح المنَح التي تقدمها بين 100 ألف و300 ألف دولار سنوياً).

كانت مرونة مؤسسة أوسبري في طريقة تقديم المنَح نادرة بحسب ما رأيته في سنوات عملي، ولم تكن ستتحقق لولا الميزات التي أبداها ممولها بيل، فهو حريص على تقييم كل حالة على نحو موضوعي ضمن سياقه الواقعي من دون وضع الكثير من الافتراضات، ويطبق معارفه القائمة على خبرته المهنية في القطاع المالي ولكنه لا يشكّل آراءه من هذا المنظور الضيق، ويصغي بإمعان لكل من المؤسسات المستفيدة من المنَح والشركاء والموظفين. كما أنه لا يتبنى عقلية خيرية؛ أي أن هدف مؤسستنا لا يتمثل في التبرع بالموارد بل في مساعدة الناس والأسر والمجتمعات على دعم أنفسهم، وهو صبور يتعاون مع الآخرين ويحب التشارك مع من يسعى لتحقيق الأهداف ذاتها، وأخيراً وليس آخراً، يدرك بيل أنه من النادر أن تنفّذ جهة فاعلة واحدة أساليب ثابتة لمواجهة تحديات التنمية الدولية عن طريق إجراء إصلاحات تكنولوجية سريعة.

أطرح فيما يلي 7 أساليب تمويل مختلفة ذات أثر كبير يمكن للمؤسسات المانحة الصغيرة، والكبيرة أيضاً، التي تسعى لرفع فاعليتها المالية تنفيذها، علماً أنه بالإمكان تطبيق هذه الأساليب على نطاق واسع ضمن عدة قطاعات واستراتيجيات، وذلك بناء على ما تعلمناه من خلال حواراتنا مع قادة المؤسسات المانحة الأخرى والمؤسسات المستفيدة من التمويل. سأقدم كل أسلوب على شكل حوار دار بيني وبين بيل، بدءاً بالحوار المذكور أعلاه (لم أنقل أحاديثنا حرفاً بحرف، ولكن لخصت زبدة الكلام الذي دار بيننا).

1. التمويل المرن للمهنيين الممارسين المتوافقين مع استراتيجيتنا

بالعودة إلى حواراتي مع بيل حول تقديم دعم غير مقيد بدلاً من التمويل الموجه، أدركت الفائدة الكبيرة التي ستجنيها مؤسسة تبلغ ميزانيتها 15 مليون دولار من الحصول على تمويل مرن بقيمة 250 ألف دولار؛ ولكن نجاح هذا الأسلوب يتوقف على التوافق الاستراتيجي الذي تبديه المؤسسة المستفيدة مع منظور المؤسسة المانحة حول طرائق تحقيق النجاح في مجال معين. خذ مثلاً قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة، حيث تتمسك مؤسسة أوسبري بفكرة أن النجاح يتمثل في تقديم خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة الميسورة التكلفة والمستدامة بحقّ لجميع أفراد المجتمع المستهدف، ويتطلب مزيجاً من تغيير الأنظمة والعمل الجماعي.

إلى جانب توافق جوهر استراتيجيات المؤسسات المستفيدة في هذه الفئة مع استراتيجيتنا، فهي تشاركنا في سِمَتَين أخريَين: الأولى هي أنها تستوعب تماماً السياق الاستراتيجي الذي تعمل ضمنه؛ أي أنها تفهم كلاً من الأنظمة الأشمل التي تعمل ضمنها ودورها المحدد فيها، وتستطيع في محادثات التأسيس تحديد الاختلاف بين “نظرية التغيير” الشاملة لقطاعها و”نظرية العمل” التي تتبناها مؤسستها؛ فعدد مذهل من المؤسسات غير الحكومية والشركات الاجتماعية لا يدرك هذا الاختلاف، ويؤدي ذلك إلى تشويش الاستراتيجيات. ثانياً، تملك هذه المؤسسات المستفيدة من المِنح غايات سامية وهي قادرة على التعلم بصورة مذهلة، كما أنها تملك الرغبة والقدرة على التعلم من تجاربها وتجارب أقرانها ومشاركة ما تتعلمه مع الآخرين وتكرس لذلك ميزانية خاصة، وتملك العزم والقدرة على تعديل مسارها بناءً على ما تتعلمه.

هذه هي المؤسسات المؤهلة بجدارة للحصول على التمويل المرن (على افتراض أنها تفي أيضاً بالمعايير المعتادة فيما يتعلق بالحوكمة والقيادة والإدارة والتنفيذ وما إلى ذلك)، وكان ذلك ينطبق على بضع مؤسسات مستفيدة من مِنح مؤسسة أوسبري، وأضفنا بضع مؤسسات جديدة أيضاً. وبالنتيجة، أصبح لدينا مجموعة صغيرة من المؤسسات المستفيدة المتوافقة مع استراتيجيتنا تلقت تمويلاً مرناً على مدى عامين أو ثلاثة أعوام مع احتمال كبير لتجديده. وإلى جانب نقل هذه المؤسسات من الدعم المقيّد إلى الدعم غير المقيّد، عملنا بالتشارك مع فرق إدارتها وحتى إننا شغلنا مقعداً في مجلس إدارة واحدة منها.

2. المناصرة الداخلية لتوافق المهنيين الممارسين مع الاستراتيجية

كانت مؤسسة أوسبري تتعامل مع مؤسسات أخرى تستفيد من مِنحها أيضاً، منها مؤسسات لم تتبع ممارسات سليمة حسب ما رأيته ولم يبدُ أنها ستتغير (عملنا على استبعاد هذه المؤسسات تدريجياً)، ولكن لاحظنا مجموعة مؤسسات في المنتصف تدعو لاتباع نهج مختلف ولذا عقدت عدداً من جلسات الحوار مع بيل كانت شبيهة بالحوار التالي.

سألني بيل: “ماذا عن المؤسسات المستفيدة من مِنحنا في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي التي لا تتوافق بالكامل مع نهجنا المفضل؟ كيف أتعامل معها؟”

أجبت: “هذا سؤال وجيه، خذ مؤسسة كير (CARE) مثلاً، إذ تعمل في عدة عشرات من الدول؛ إنها تتبع النهج المناسب في بعض الدول وتتميز فعلياً باتباع أفضل الممارسات في تغيير الأنظمة والعمل الجماعي، ولكن في دول أخرى تراها تتبع مساراً تقليدياً بدرجة أكبر، ولعل ذلك بسبب رغبة المؤسسة الممولة بزيادة عدد الآبار المحفورة بغضّ النظر عن قدرتها على الاستمرار مع مرور الوقت. ما يميّز هذه الحالة هو أن الفريق العالمي في مؤسسة كير يدرك الاختلاف بين هذه الأساليب وعمل على تعديل استراتيجية المؤسسة مؤخراً كي تركز على تغيير الأنظمة”.

سأل بيل: “كيف يمكننا التواصل معه؟” أذكر أن مؤسسة كير استخدمت بعض أموالنا قبل عدة أعوام لإنتاج تقرير عن الدروس المستقاة من تجربتها ساعد على ترويج الممارسات السليمة ضمن برامجها المطبقة في الدول الأقوى وتطبيقها في الدول الأضعف”.

أجبت: “أقترح أن نشدد تركيزنا على هذا النوع من المناصرة والدعم الداخليين، مثلاً، يرغب فريق مؤسسة كير العالمي لقيادة جهود خدمات الماء في وضع مقاييس معيارية للبرامج المطبقة على جميع الدول بناءً على مبادئ الممارسات السليمة، ويريد الاستمرار في توثيق ما يجدي وما لا يجدي. إذا موّلنا الفريق العالمي لأجل هذا العمل فسنؤثر في جميع برامجه الدولية التي يصل مجموع ما ينفقه فيها إلى 30 مليون أو 40 مليون دولار سنوياً على مشاريع الماء والصرف الصحي، ما سيضمن توافقها بدرجة أكبر مع طرائق العمل الفعالة، كما يمكننا التأثير في القطاعات المستهدفة الأخرى مثل الأمن الغذائي والتغذية”.

الأساس المنطقي لهذا النهج راسخ في البنية التنظيمية للمؤسسات غير الحكومية الكبيرة التي أردنا التأثير فيها، إذ عملت على اتباع عملية لا مركزية لصنع القرار وتعيين الموظفين على مستوى الدولة، ولهذه البنية التنظيمية فوائد كثيرة أهمها أنها تعزز من يعملون بصورة وثيقة مع من تخدمهم المؤسسة. ولكنها في الوقت ذاته تؤدي إلى تفاوت كبير بين طرائق تنفيذ البرامج، وهو أمر صعب في القطاعات المماثلة لقطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة حيث لا تكون الأساليب الأكثر فعالية (تغيير الأنظمة والعمل الجماعي) هي الأكثر بداهة (حفر الآبار وبناء المراحيض). على اعتبار مؤسستنا مؤسسة مانحة صغيرة، لا يمكننا أن نطمح إلى تمويل ما يكفي من البرامج الدولية، ولكن يمكننا أن ندعم الفرق العالمية الصغيرة التي تعمل على مشاريع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة في هذه المؤسسات غير الحكومية الكبيرة، بواسطة المناصرة الداخلية وتقديم الاستشارات الفنية وإنشاء وحدات التعلّم، إذا كانت تساعد برامجها الدولية على تبنّي ممارسات أفضل.

على الرغم من أن التمويل المقدم في هذا النهج يخصص لوحدات عمل محددة، فهو يتيح المرونة في المؤسسة المستفيدة؛ فهذه الفرق الصغيرة تكاد لا تحصل على أي تمويل مباشر، وإنما تعتمد على مخصصاتها من مجموعة مركزية من الأموال غير المقيّدة (المرغوبة بشدة والمحدودة)، وبالتالي حين توجه المؤسسة المانِحة الأموال بهذه الطريقة فستؤثر في الأنشطة التي تُنفَّذ على مستوى الدولة وتوضّح في الوقت ذاته للإدارة العليا في المؤسسة غير الحكومية أن جهة خارجية تقدّر عمل تلك الوحدة المركزية وتثمنه عالياً. يمكن تعزيز هذه الرسالة في الاجتماعات الدورية بين المؤسسة المانِحة وقيادة المؤسسة غير الحكومية، ما يمنح قيمة لرأي المؤسسة المانِحة إلى جانب قيمة أموالها.

حظيت مؤسسة أوسبري مؤخراً بفرصة رائعة لخوض تجربة ناجحة مع أسلوب التمويل هذا؛ كنا نقدّم 100 ألف دولار سنوياً لوحدة المناصرة الداخلية والدعم الفني في مؤسسة ووتر إيد (WaterAid) التي تربو ميزانيتها السنوية على 100 مليون دولار، وعندما أجرت مراجعة معمّقة على مدى عام كامل بهدف صياغة استراتيجية طويلة المدى جديدة، كانت تلك الوحدة تملك الموارد والقدرات اللازمة للإسهام في هذا العمل وقيادته. لا يمكنني الجزم بأن التمويل الذي قدمناه للوحدة الداخلية هو ما أدى إلى نجاح الاستراتيجية الناتجة في التركيز على تغيير الأنظمة والعمل الجماعي بهذه الدرجة، ولكن سُررنا -أنا وبيل- لأننا لم نضطر إلى التأكد من ذلك.

كما خضنا تجارب لم تكن ناجحة بالقدر ذاته حين تعاملنا مع مؤسسات مستفيدة ادعت أنها ترغب في إحداث تغيير استراتيجي ولكنها أخفقت، وهذه الخطورة هي إحدى سلبيات الوضوح الشديد بشأن الاستراتيجية؛ فهو يزيد سهولة تحايل المؤسسات المستفيدة عليك باستغلال اهتماماتك. كنا مدركين لهذا الاحتمال بالتأكيد ولذلك نعمل بجد لتقييم النوايا الحقيقية لدى المؤسسات المستفيدة المحتملة عن طريق الحوارات المباشرة والتحدث إلى المهنيين الممارسين الآخرين والمؤسسات الممولة الأخرى للاستفادة من تجاربهم في التعامل مع المؤسسة المستفيدة. ولكننا نخطئ أحياناً في حكمنا على المؤسسة المستفيدة فننهي علاقتنا معها بعد أول منحة، ثم نستقي الدروس من تجربتنا معها.

3. دعم مركز للتنسيق

في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2018، كنا ندرس زيادة التمويل الذي نقدمه إلى مركز تنسيق عالمي لمؤسسات خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة التي تحرص على تقوية الأنظمة المحلية عن طريق العمل الجماعي يسمى جدول أعمال التغيير في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة (WASH Agenda for Change). أنشئ المركز قبل عدة أعوام وتطور إلى درجة دفعت أعضاءه لتعيين موظفين بدوام كامل للمرة الأولى.

حدّثت بيل قائلاً: “يمكننا النظر إلى هذه الفرصة من زاويتين؛ فهي تبدو من الزاوية الأولى طريقة رائعة لتحقيق الفاعلية: ستتيح منحتنا لفريق العمل الصغير في المركز تحسين فعالية المؤسسات الأعضاء في عشرات الدول، وبالتالي ستؤثر هذه البرامج الدولية في القرارات التي تتخذها الأسر والمجتمعات والحكومات حول طرائق تقديم خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة على نحو آمن ومستدام بدرجة أكبر. وبالتالي يمكن أن تساعد منحتنا التي تبلغ 400 ألف دولار سنوياً على تحديد طريقة إنفاق مئات ملايين الدولارات على المستويين المحلي والدولي”.

سأل بيل: “وما المنظور البديل؟”

قلت: “يقول البعض إنه من الحماقة هدر الأموال على مبادرة بعيدة جداً عن المنازل والمجتمعات التي نرغب في مساعدتها، وإنفاق أموالنا بهذه الطريقة غير المباشرة يزيد خطورة وقوع الأخطاء في مكان ما بين المؤسسة التي نمولها والناس الذين نسعى لخدمتهم”.

قال بيل: “فلنتحدث في هذه القضية أكثر”.

المؤسسات الممولة التي تفكر في دعم مركز للتنسيق قليلة جداً، لأنه يعدّ مساراً غير مباشر باتجاه التغيير، وهذه العقلية كانت سبباً آخر لاهتمام مؤسسة أوسبري بالفكرة.

ما الفائدة من تمويل مركز لا يقدم خدمات أساسية للفقراء بل يسهّل التعلّم والتنسيق بين المهنيين الممارسين والمناصرين لاتباع نهج معين في تقديم هذه الخدمات؟ يتألف الجواب من 3 أجزاء: أولاً، النهج الذي يدعمه المركز، المتمثل في الاستعانة بالعمل الجماعي لإحداث تغيير طويل الأمد في الأنظمة، أساسي للنجاح في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة، وتغيير الأنظمة هو مجال التركيز الأول لاستراتيجية القطاع بمؤسسة أوسبري، وهذا ما يجعل مؤسستنا تتمتع بدرجة عالية من المواءمة الاستراتيجية مع المركز. ثانياً، برهنت تجربتنا مع هذه الأنواع من الأساليب القائمة على العمل الجماعي أن مركز التنسيق عنصر أساسي من عناصر النجاح.1 ولهذا السبب، عندما سمعنا في شهر مايو/أيار من عام 2015 أن 4 مؤسسات رائدة في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة اقترحت مجموعة مبادئ لتطوير الأساليب التعاونية في القطاع سارعنا للمساعدة على التقدم بها، وبعد عام قدمنا تمويلاً أولياً مع الاستمرار بالمشاركة في اللجنة التي تعمل على توجيه المركز. ثالثاً، المؤسسات الممولة التي تفكر في دعم مركز للتنسيق قليلة جداً، لأنه يعدّ مساراً غير مباشر باتجاه التغيير، وهذه العقلية كانت سبباً آخر لاهتمام مؤسسة ممولة مثل أوسبري بالفكرة.

على الرغم من ذلك لم نتخذ قراراً بتقديم تمويل صغير لمركز التنسيق، إذ لاحظنا مجموعة تحديات يتعين علينا التغلب عليها من أجل تحقيق الفوائد التي يعد بها المركز، وأهمها دفع المؤسسات إلى التعاون فيما بينها بدلاً من التنافس على التمويل الذي تقدمه المصادر ذاتها. شاركنا فعلياً في حوكمة المركز من أجل تقديم رأي مستقل بين الممارسين المهنيين والتعلّم من خبرات المركز في آن معاً، ودعمنا تطوره عبر عدة مراحل نموّ تشمل تفويض جهة خارجية بتقييم الأداء الوظيفي الداخلي في المركز وعلاقاته مع أعضائه من المؤسسات. ثم انضمت مؤسسات خيرية أخرى إلينا لتمويل عمل المركز، ولكن كانت غالبيتها تفضل تمويل العمل على مستوى الدولة، ولذلك استمرت مؤسستنا في دعم فريق التنسيق الدولي المؤلف من 3 أشخاص بمفردها.

بدأ المركز بعد 7 أعوام من بدء علاقتنا به تحقيق فوائده الموعودة بعد إنهاء عملية إعادة هيكلة في عام 2021، ونتج عن هذا الجهد استراتيجية مطورة تركز على دعم المشاريع التعاونية على مستوى الدولة، وبنية تنظيمية جديدة للحوكمة بقيادة هذه المشاريع التعاونية، وقيادة جديدة مقرّها الرئيس في إفريقيا. يبدو أننا نجني ثمار التزامنا وصبرنا، وها نحن نحقق الفاعلية المالية التي كنا نرجو تحقيقها من هذا الاستثمار.

4. سلع مشتركة للمبتكرين الاجتماعيين

في مؤسستنا الخيرية، أوسبري، لا يقتصر عملنا في تقديم الخدمات الأساسية الميسورة التكلفة والمستدامة بدرجة أكبر للفقراء على دعم المؤسسات غير الحكومية التي تهدف إلى تقوية الأنظمة فحسب، بل ونستثمر أيضاً في المؤسسات الاجتماعية التي تبتكر طرائق جديدة لتقديم هذه الخدمات وتختبرها. تشكّل هذه الاستثمارات المؤثرة جزءاً من النماذج المبتكرة لتمويل القطاعات المستهدفة. خضت مع بيل عدداً من الحوارات حول هذا الجزء من محفظتنا الاستثمارية، ولكن أحدها خرج عن النمط المعتاد المتمثل في التعمق بتفاصيل شركة ما:

قلت: “بيل، لدي فكرة حول جعل الجزء الأكثر حماساً من عملنا رتيباً بدرجة أكبر ولكن أكثر فعالية”.

سأل بيل: “ماذا تقصد بذلك؟”

أجبت: “يضم القسم الأكبر من محفظتنا الابتكارية شركات اجتماعية في مراحلها الأولى، واخترنا كل واحد من هذه الاستثمارات المؤثرة بناءً على إمكاناته في إثبات فعالية الطرائق الجديدة الأفضل لتقديم الخدمات الأساسية للفقراء، ولدى المستثمرين المؤثرين الآخرين محافظ ابتكارية مماثلة في عملهم على تمويل المشاريع الاجتماعية وأغلبها في نفس المجالات الذي نستثمر فيها”.

ثم سألته: “لكن ماذا لو كان انبهارنا بالمشاريع الفردية يسبب إغفالنا فرصة تمييز التحديات الشائعة التي تواجه الرواد الاجتماعيين في مجال معين ودراستها؟ هل ستساعدنا هذه الدراسة على تسريع تقدم عدة مشاريع في تطوير نماذج عمل مجدية؟”

أجاب بيل: “لمَ لا تجمع آراء المستثمرين المؤثرين الآخرين حول هذه الفكرة؟”

اختارت مؤسسة أوسبري التركيز في جهودها التنموية الدولية على قطاعَين مستهدَفَين عامَّين؛ خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة، والطبخ النظيف. إن قرارنا بالتركيز على قطاعَين فقط منطقيّ بالنظر إلى قدرتنا المحدودة نسبياً على التمويل والتوظيف وإيماننا بأن امتلاك المعارف الكافية حول هذين القطاعَين سيمكّننا من صياغة استراتيجيات توقع أثراً حقيقياً في حياة الناس وتنفيذها، كما أننا اعتدنا تقديم المِنح المالية وتنفيذ استثمارات مؤثرة على حد سواء.

من الناحية العملية، كان تركيزنا في اختيار استثماراتنا المؤثرة محصوراً بنطاق ضيق، واخترنا بضعة قطاعات فرعية لكل قطاع مستهدف، مثل مؤسسات المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي القائم على الحاويات، بناءً على إمكاناتها في خدمة الفقراء بأساليب أفضل ومستدامة أكثر وقابلة للقياس بدرجة أكبر، ونبحث ضمن هذه القطاعات الفرعية عن الشركات الرائدة في السوق التي تملك القدرة الإنتاجية الكافية لإثبات فعالية نماذج العمل الجديدة وتوسيعها وجمع ما تتعلمه في أثناء ذلك ومشاركته.

ولكن يبقى الدعم الذي نقدمه للشركات الاجتماعية الإفرادية مقيداً حتى وإن اخترناها بعناية، وهذا درس تعلمته قبل عقد من الزمن حين شاركت في دراسة حول طرائق توسيع الحلول الابتكارية القائمة على السوق التي تخدم الفقراء. وبأخذ ما تعلمته في الحسبان، فكرت في عام 2016 أنه سيكون مجدياً دعم إجراء دراسة معمقة حول قطاع فرعي تنفّذ فيه مؤسسة أوسبري استثمارات مؤثرة؛ مؤسسات المياه الصالحة للشرب (SWE) (مؤسسات المياه الصالحة للشرب هي شركات تستخدم المنافذ أو أنظمة الأنابيب الصغيرة أو غيرها من الأساليب اللامركزية لتوصيل مياه الشرب المعالَجة بأساليب آمنة وتكلفة منخفضة إلى المدن والبلدات والقرى الفقيرة غير المخدّمة).

تبين لنا أن مؤسسة ممولة أخرى لمؤسسات المياه الصالحة للشرب كانت تفكر في نفس الأمر بالفعل، وفي نهاية المطاف قررت مؤسستنا رفقة 4 مؤسسات ممولة أخرى -منها مؤسستَين خيريتَين خاصتَين وشركة تابعة ومؤسسة ممولة بدعم حكومي- التشارك في تمويل دراسة تحليلية لمؤسسات المياه الصالحة للشرب. من الجدير بالملاحظة أن مؤسسات المياه الصالحة للشرب نفسها كانت بادئ الأمر أقل اهتماماً بالدراسة من المؤسسات الممولة، ولعل ذلك بسبب اعتقادها أنها تفهم أعمالها بصورة كاملة أو خوفها من أن تكشف الدراسة معارفها وممارساتها الخاصة، ومع تشجيع المؤسسات الممولة والشركة الاستشارية، دالبرغ غلوبال ديفلوبمنت أدفايزرز (Dalberg Global Development Advisors)، وافقت 14 مؤسسة للمياه الصالحة للشرب على المشاركة في الدراسة من دون الإفصاح عن أسمائها، وتلقت كل مؤسسة مشاركة تقريراً خاصاً بها، ونُشرت الدراسة الكاملة (ببيانات غير محددة الهوية) للعموم في عام 2017.

من وجهة نظر مؤسسة أوسبري، كانت المعلومات المتعلقة بالتحديات الأساسية التي تواجهها مؤسسات المياه الصالحة للشرب في هذا التقرير، مثل مشاركة العملاء والكفاءة التشغيلية، جديرة بالأموال التي دفعناها للمشاركة في سداد تكاليف الشركة الاستشارية. وساعدت هذه الدراسة على تعميق فهم مؤسسات المياه الصالحة للشرب لنماذج عملها والبيئات التي تعمل ضمنها، كما ساعدتنا الدروس التي استقيناها منها على توجيه علاقات مؤسسة أوسبري مع كل واحدة من مؤسسات المياه الصالحة للشرب وتوجيه استراتيجيتها الشاملة في التعامل مع القطاع الفرعي. أضف أنه بعد 4 أعوام من الدراسة الأولى، أجرت شركة دالبرغ دراسة ثانية بهدف تقييم أثر التغير المناخي في مؤسسات المياه الصالحة للشرب بدعم أربعة من المؤسسات التي مولت الدراسة الأولى، ومنها مؤسسة أوسبري ومؤسسة خيرية أخرى، وكانت نتائج تلك الدراسة مفيدة جداً في مساعدة مؤسسات المياه الصالحة للشرب على وضع خطط لتبعات التغير المناخي الطويلة المدى.

كما شجع التقرير الذي صدر في عام 2017 مؤسسات المياه الصالحة للشرب على مناقشة التحديات المشتركة فيما بينها، وأسهمت هذه النقاشات في تأسيس مجتمع مؤسسات المياه الصالحة للشرب (SWE Community of Practice)، وهو تحالف يضم 9 مؤسسات تؤمن بأن فوائد العمل الجماعي لتحقيق عدة أهداف ذات أولوية مشتركة تتفوق على تكاليف المشاركة، فالشركات الاجتماعية الصغيرة ترى عادة أن تكلفة هذا النوع من العمل التعاوني كبيرة بسبب قدراتها المحدودة جداً على تنفيذ أنشطة خارج نطاق أعمالها الأساسية. عملت المؤسسات الأعضاء في التحالف على وضع أولوياته بمفردها، وهي تشمل حالياً زيادة معارف المؤسسات حول أثرها الاجتماعي ومستهلكيها وتطوير إطار عمل مالي مشترك وتنفيذ جهود المناصرة باسم مؤسسات المياه الصالحة للشرب.

مولت مؤسسة أوسبري أنشطة التحالف لأنها تتوقع أن تكون قيمة فهمه لهذه المجالات بدقة أعظم من تكاليف عمله. هذا النوع من العمل جديد نسبياً، وواجه صعوبات كبيرة في أثناء الجائحة إذ أوقفت مؤسسات المياه الصالحة للشرب نشاطاتها وصبت تركيزها على استمرارها فقط، ولكننا نرى أن هذه المؤسسات ستتعلّم الكثير مما يمكنها تطبيقه لتحسين أثرها وتعزيز استدامتها وقابليتها للتوسع.

5. الاستثمارات المؤثرة عالية المخاطر

في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2019، حضرت رفقة بيل مؤتمراً في مدينة نيروبي الكينية نظمه تحالف الطبخ النظيف (Clean Cooking Alliance)، وهو الرابطة العالمية للصناعة التي تكرس جهودها لجعل مهمة إعداد وجبة الطعام البسيطة صحية واقتصادية ورفيقة بالبيئة أكثر. وفي إحدى الاستراحات بين محاضرتَين، أخبرني بيل عن شخص تعرف إليه.

كنا متحمسَين لفرصة تتيح لمؤسستنا أوسبري أداء دور يلائمها تماماً، وهو الدخول في صفقات رائدة مجازِفة تحفّز المؤسسات الأخرى للاقتداء بها على نطاق أوسع.

قال بيل: “يودّ أصدقاؤنا في شركة برن مانيوفاكتشرنغ (BURN Manufacturing) عقد اجتماع معنا صباح الغد لمناقشة قدرتنا على تقديم قرض لتوسيع مبيعات شركتهم من مواقد الفحم في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والأفضل هو أنهم سيسددون القرض بإيرادات بيع أرصدة الكربون في كوريا”.

قلت: “يبدو ذلك مثيراً للاهتمام. وأنا أيضاً تلقيت طلب اجتماع من ممثلي المجموعة الهولندية كاردانو ديفلوبمنت (Cardano Development) الذين تواصلوا معي منذ أكثر من عام؛ يريدون عرض صفقة تتضمن دفع المال بناءً على نتائج تحقيق المكاسب الصحية والمساواة بين الجنسين؛ الأمر شبيه بدفع المال مقابل رصيد الكربون، إلا أنه في هذه الحالة ستدفع المؤسسة الممولة المال مقابل تحقيق آثار ومكاسب قابلة للقياس في القطاع الصحي وفي قضايا المرأة عن طريق استخدام مواقد الطبخ النظيفة هنا في كينيا أو في دول شرق إفريقيا الأخرى”.

قال بيل: “لنجمع مزيداً من المعلومات عن هذا المشروع أيضاً”.

وافقنا أنا وبيل على المشاركة في الاجتماعين كليهما لأننا كنا متحمسَين لفرصة تتيح لمؤسستنا أوسبري أداء دور يلائمها تماماً؛ وهو الدخول في صفقات رائدة مجازِفة تحفّز المؤسسات الأخرى للاقتداء بها على نطاق أوسع، ولذا يجب أن تتوافق هذه الصفقات الإيضاحية بدرجة كبيرة مع أحد قطاعاتنا المستهدفة وأن تولّد منافع اجتماعية وبيئية واضحة، وهو ما يتوفر في كلتا الفرصتين. كما يجب أن نحرص على عدم تنفيذ صفقات فردية مبهرة ولكنها غير قابلة للتكرار على نطاق واسع، وفي كلتا الحالتين كنا نعرف أن المؤسسات الممولة الأخرى التي تملك ميزانيات أكبر بكثير من ميزانية مؤسستنا أوسبري كانت مهتمة بهذا النوع من الصفقات، ومنها مؤسسات الاستثمار المؤثر الأكبر ووكالات التنمية الرسمية، ولكنها نظراً لكبر حجمها لا تملك عادة الرغبة في المخاطرة ولا المرونة ولا الصبر لتطوير هيكليات جديدة للتمويل؛ وهنا يأتي دور المؤسسات الأصغر مثل أوسبري. ولكن حتى بالنسبة لمؤسسة أوسبري، يمكن أن يستنفد دور الاستكشاف ميزانيتها وصبرها، وهذا ما عرفناه عندما عقدنا هذين الاجتماعَين الأولَين في مدينة نيروبي.

أدى الاجتماع الثاني إلى صفقة كانت واحداً من الأمثلة القليلة على الدفع بناءً على نتائج تحقيق المكاسب الصحية والمساواة بين الجنسين. يولّد استخدام مواقد الطهي النظيفة عدة فوائد أفضل مقارنة بالمواقد الأساسية أو البدائية (الطهي على نار تشتعل بين 3 أحجار كبيرة)؛ فهي لا تسبب نفس القدر من الأمراض التنفسية لأنها لا تلوث الهواء داخل المنزل، وهي توفر الوقت على النساء لأنها لا تحتاج إلى كمية كبيرة من الحطب والطهي عليها أسرع ولا تسبب اتساخ الأواني، كما أنها تسهم في الحد من مشكلة إزالة الغابات وفي تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة. ولكن على الرغم من احتمال تحقق هذه المكاسب بالفعل نتيجة لاستخدام مواقد الطهي المحسنة، فمن النادر أن يعمل أحد على قياسها أو تقييمها، وبالتالي لن تجد جهة تدفع المال بناءً على تحقيق هذه المكاسب. كان الاستثناء الوحيد بالنسبة للبيانات هو أرصدة الكربون التي حفزت إنشاء الشركات وسوق التجزئة المتنامية لأجلها. إن مفهوم دفع المال مقابل تحقيق المكاسب الصحية ومكاسب المساواة بين الجنسين معاً مقنع من الناحيتين الاجتماعية (فهي من أهداف التنمية المستدامة التي حددتها الأمم المتحدة) والاقتصادية (فهي عوامل خارجية إيجابية تستحقّ الدعم العام)، ولكن من الناحية العملية كان التوصل إلى طرائق تقييم هذه الآثار وتحديد حجمها وقياسها والتحقق منها عملية مرهقة، ولذلك لم يتحول المفهوم إلى واقع بعد.

لاحظنا أنه من المقنع جداً جمع احتمالات تحقيق الصالح العام الإيجابية مع الخطوة الأولى المجازِفة لتوضيح طرائق تحقيقها الفعلية، كما طُلب منا أداء دور أساسي في الصفقة المقترحة وفقاً للهيكلية التالية: 1) تأخذ إحدى الشركات المصنّعة لمواقد الطهي النظيفة قرضاً تتيح لها إيراداته تخفيض سعر بيع مواقدها بالتجزئة وتوسيع مبيعاتها لتصل إلى الزبائن الفقراء. 2) ستحقق هذه المواقد المكاسب الصحية والمساواة بين الجنسين بعد استخدامها لعدة أعوام (في هذه الحالة تتمثل هذه المكاسب في تفادي المرض وتوفير ساعات من وقت المرأة). 3) إذا تمكنت جهة مستقلة من إثبات هذه المكاسب فستشتري إحدى مؤسسات التمويل بناءً على النتائج هذه المكاسب بسعر يحدد مسبّقاً. 4) يمكن استخدام هذه الدفعات في سداد القرض الأولي وتكاليف الصفقة، وتأخذ شركة المواقد ما يبقى منها.

وفقاً لهذه الهيكلية، تقدم مؤسسة أوسبري التمويل بناءً على النتائج، لأن الشركة التي تدير الصفقة، كاردانو، كانت قد تواصلت بالفعل مع أكثر من 100 شركة ممولة محتملة أخرى من دون جدوى. تتمثل مؤسسات التمويل بناءً على النتائج عادة في وكالات التنمية الرسمية، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس أيد) التي تفضل هذا الدور لأن تحقيق أهداف التنمية هو شرطها لإنفاق أموال دافعي الضرائب، وفي حين أبدت بعض وكالات التنمية الرسمية اهتمامها بالمبدأ، فمخاطر اتباع هيكلية غير مجربة كانت أكبر مما يمكنها تحمّله، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لنا.

على الرغم من وضوح هيكلية هذا المبدأ، فاستكشاف الصفقات يترافق مع تحديات غير متوقعة؛ ما المقياس المناسب لمكاسب المساواة بين الجنسين؟ كيف نحدد سعر هذه المكاسب؟ كيف نطبق الدراسات الميدانية لقياس المكاسب الصحية ومكاسب المساواة بين الجنسين؟ ما هي إجراءات التحقق من الأثر، ومن سيشرف عليها؟ حملت شركة كاردانو القسم الأكبر من العبء المالي لمعالجة هذه التحديات وغيرها، ولكن عندما تعدت تكاليف أنشطتها الخاصة المستوى المتوقع (حصلت أغلبها على تمويل سخي من مؤسسة التمويل الدولية ومجموعة البنك الدولي)، قدمنا لها منحة إضافية لتخفيف عبء التكاليف عن كاهلها. وصلنا إلى مرحلة تنفيذ الصفقة أخيراً في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2022 بعد أن حددنا المكاسب الصحية ومكاسب السلامة ورأينا أنها كبيرة، وبعد أن مهدنا لهذا النوع من الصفقات، تعتزم المؤسسات التي نفّذت الصفقة مشاركة النموذج مع عدد كبير من المؤسسات الأخرى لدعم تكراره على نطاق أوسع بكثير مع تطوير المشاريع بزمن أقصر وتنفيذ الصفقات بتكاليف أقل.

كما أدى بنا الاجتماع الأول الذي عقدناه في فترة مؤتمر مدينة نيروبي إلى تنفيذ صفقة مفيدة تقدّم بموجبها شركتنا أوسبري قرضاً لشركة برن مانيوفاكتشرنغ من أجل دعم توسيع مبيعاتها من مواقد الطبخ لتصل إلى الزبائن الفقراء في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وستسدد الأخيرة القرض من إيرادات بيع أرصدة الكربون الناتجة عن استخدام هذه المواقد. غير أن الجانب الأهم من القرض لم يتحقق بادئ الأمر، وهو احتمال بيع أرصدة الكربون في السوق الكورية التي تدفع أسعاراً أعلى بكثير مما تدفعه الأسواق الأخرى، ما أدى بنا إلى تنفيذ الصفقة باتباع هيكلية مماثلة للتي تتبعها المؤسسات المقرضة المختصة في سوق الكربون. بما أن خبرتنا في هذا المجال محدودة استعنا بمستشار مالي مختص في أسواق الكربون ومستشار قانوني يتمتع بخبرة كبيرة في العمل الدولي، وقدما لنا المعلومات اللازمة عن موقف مؤسستنا وعملا على حماية مصالحنا مع ضمان أن تلبي هيكلية الصفقة ووثائقها الرسمية أعلى المعايير، ما يسهّل على مؤسسات الاستثمار المؤثر غير المختصة الاقتداء بها مستقبلاً. كما كتبنا مذكرة إحاطة وضحنا فيها تفاصيل الأساس المنطقي للصفقة وهيكليتها وشروطها بهدف تشجيع مؤسسات الاستثمار المؤثر الأخرى على اغتنام فرص مماثلة على نطاق أوسع.

6. التفاعل الاستباقي مع المؤسسات الممولة الأخرى

عقدت رفقة بيل اجتماعاً في مدينة لاهاي مع ممثلي نحو 12 مؤسسة ممولة في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة في شهر مارس/آذار من عام 2019، كانت مؤسستنا أوسبري قد ساعدت في تنظيم الاجتماع مع 5 مؤسسات ممولة أخرى جمعتنا بها بعض الأعمال التعاونية على مدى الأعوام الأربعة السابقة. سمعت مؤسسات ممولة أخرى في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة عن مجموعتنا غير الرسمية هذه، وقبل الاجتماع الأساسي بيوم واحد دعونا قادة عدد منها للانضمام إلينا.

وفي أثناء خروجنا من الاجتماع، خاطبت بيل قائلاً: “بيل، هل تذكر الفكرة التي خطرت لك في بداية عام 2015 حول إشراك مؤسسات ممولة أخرى في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة؟ كنت ترغب في معرفة مدى اهتمامها بالمشاركة في تمويل الخدمات الاستشارية المختصة حول تحقيق أثر أقوى في القطاع”.

سألني بيل: “هل هي الفكرة نفسها التي أجرينا دراسة موجزة على طرائق تنفيذها عملياً؟”

قلت: “نعم، هي. أوقفنا العمل عليها عندما تبين لنا من مقابلاتنا مع قادة المؤسسات الممولة الأخرى أنهم غير راغبين في التعاون بهذه الطريقة”.

رد بيل: “لماذا تسأل؟”

أجبت: “كنت أفكر في هذه الدراسة اليوم لأنني أرى أننا بدأنا تحقيق رؤيتك، صحيح أن ذلك استغرق وقتاً طويلاً وأننا لن نرتب عملية تمويل مشترك للاستشارات الاستراتيجية، ولكني أرى أننا توصلنا إلى طرائق فعالة للتعلم من الشركات القرينة والتأثير في طرائق عملها”.

إحدى ميزات مؤسسة التمويل الصغيرة ذات الطموحات الكبيرة هي حرصها الشديد على الفاعلية، وتحرص مؤسسة أوسبري على تحقيق عدة أنواع من الفاعلية؛ الفاعلية المالية المتمثلة في تحفيز مصادر التمويل الأخرى لزيادة الأموال التي تقدمها للأنشطة المستهدفة، والفاعلية الإيضاحية المتمثلة في أنها تشكّل نموذجاً تحتذي به المؤسسات الأخرى على نطاق أوسع، والفاعلية في العلاقات المتمثلة في التعلم من المؤسسات ذات العقلية المماثلة والتأثير في طرائق عملها في آن معاً، والفاعلية المفاهيمية المتمثلة في ابتكار طرائق جديدة للتفكير في مكونات النجاح وطرائق تحقيقه. استخدمت جميع هذه الأساليب بدرجات متفاوتة في مناصب شغلتها سابقاً، ولكن خبرتي في تنفيذها كانت محدودة بالعمل بمفردي أو مع عدد قليل من الزملاء فقط. انضممت إلى مؤسسة أوسبري بعد العمل في مؤسسة كبيرة حيث كنت أعتمد في عملي على الفرق الداخلية سواء من القسم الذي أعمل فيه أو من الأقسام الأخرى، وقبل انضمامي إلى مؤسسة أوسبري كان بيل ينفذ غالبية عمليات التبرع بمفرده مع مساعدة بسيطة من شركة استشارية مختصة بالأعمال الخيرية ومن أفراد عائلته (بعد عدة أعوام من انضمامي إلى المؤسسة قررنا أن نعيّن المسؤولة عن البرامج، لورين ماهر باتريك، بدوام نصفي لتعمل معي وتدير جزءاً من محفظتنا الاستثمارية في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة). أدركت أن العمل في مؤسسة صغيرة له ميزات مثل المرونة والسرعة في صناعة القرار وتصحيح المسار، ومساوئ أبرزها أوقات الموظفين المحدودة، ولذا بدأت العمل على جمع زملاء من مؤسسات خيرية صغيرة أخرى ساعدونا على زيادة أثر عملنا وصقل عقليتنا وكانوا زملاء وأصدقاء بحق.

كنت أعتبر شركائي في التمويل زملاء يمكنني الاعتماد عليهم كما لو كنا نعمل في المؤسسة ذاتها، وتعلمت الكثير من شركائي المفكرين الذين كانوا يطرحون أسئلة صعبة.

ليس بإمكاني القول إني عملت بنفسي على تنظيم أول اجتماع للمؤسسات الممولة في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة بشهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2015 في مدينة لندن؛ فالفضل يرجع حقيقة إلى مؤسسة ستون فاميلي فاونديشن (The Stone Family Foundation) في المملكة المتحدة، وكان من المفترض أن يكون هذا الاجتماع للمؤسسات الممولة البريطانية فقط قبل أن أطلب الانضمام إليه وأقترح دعوة مؤسسة أميركية أخرى، وهي مجموعة كونراد إن هيلتون فاونديشن (Conrad N. Hilton Foundation). انطلاقاً من هذا الاجتماع الأول تشكلت مجموعتنا غير الرسمية التي جمعت مؤسستَينا الأميركيتَين مع 4 مؤسسات في المملكة المتحدة، وهي ستون فاميلي فاونديشن وفيتول فاونديشن (Vitol Foundation) وواترلو فاونديشن (Waterloo Foundation) وذا وان فاونديشن (The One Foundation)، والتقينا بعده على مدى ثلاثة أعوام ونصف العام بصورة دورية على هامش مؤتمرات القطاع أو حين تجمعنا رحلات أخرى لمشاركة استراتيجياتنا وتبادل ملاحظاتنا حول المؤسسات المستفيدة من المِنح والاستثمارات الحالية أو المحتملة وليتعلّم كل منا من تجارب المؤسسات الأخرى.

كان الإجراء ذو الصبغة الرسمية الأقوى الذي اتخذته مجموعتنا هو المشاركة في عمل تكرمت مؤسسة ستون فاميلي فاونديشن بإدارته، وهو إنشاء جدول بيانات يضم المحافظ الاستثمارية في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة ويوضح مسارات المِنح والاستثمارات المؤثرة في المؤسسات الست، ما ساعدنا على توضيح الصورة حول المؤسسات التي نتشارك في تمويلها وطرائق تنفيذ استراتيجياتنا. كما استفدنا من منتدى مجموعتنا لترتيب التمويل المشترك للدراسات (مثل التقرير المتعلق بمؤسسات المياه الصالحة للشرب الآنف الذكر) وفي بعض الأحيان لطلب المعونة (كما حصل عندما شاركت مؤسسة فيتول تقريرها الميداني حول مؤسسة مستفيدة محتملة في منطقة نائية في دولة غانا وقررت مؤسسة أوسبري حينها تمويلها). في هذه الحالات كنت أعتبر شركائي في التمويل زملاء يمكنني الاعتماد عليهم كما لو كنا نعمل في المؤسسة ذاتها، وتعلمت الكثير من شركائي المفكرين ذوي الدوافع الاستراتيجية الذين كانوا يطرحون أسئلة صعبة ويقدمون آراءً نافذة البصيرة منها ما توافق مع آرائنا ومنها ما خالفها.

بناءً على هذا النجاح الأولي، دعونا عدداً من المؤسسات الممولة الأخرى في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة إلى اجتماعنا في مدينة لاهاي بهدف دراسة الرغبة في توسيع مجموعتنا، سارت الأمور في الاجتماع على خير ولذا مضينا في تنفيذ الفكرة، وأدى العمل المشترك إلى إنشاء مجموعة موسّعة ذات صبغة رسمية إلى حدّ ما للمؤسسات الممولة في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة في شهر يونيو/حزيران من عام 2020 تضمّ 12 مؤسسة جديدة إلى جانب المؤسسات الستة الأصلية. ومنذئذ، وبتوجيه من مسؤول التنسيق الذي يعمل بدوام جزئي من مدينة لندن، عقدنا عدة اجتماعات عبر الإنترنت حول مواضيع متنوعة، بدءاً مما يعنيه تغيير الأنظمة في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة مروراً بتدابير العناية بصحة المرأة في أثناء فترة الحيض وصولاً إلى التغير المناخي، كما أشرف مسؤول التنسيق على تطوير قاعدة بيانات إلكترونية تضم معلومات عن جميع المِنح والاستثمارات الحالية والمحتملة لجميع المؤسسات والتحليلات المتعلقة بالتمويل المشترك والمواءمة الاستراتيجية. ومنذ شهر يونيو/حزيران من عام 2022، توسعت المجموعة لتضم 26 مؤسسة يشارك معظمها بفعالية في الاجتماعات لمشاركة الاستراتيجيات وعقد جلسات التعلّم، وانطلاقاً من هذه الاجتماعات تمكنت إحدى المؤسسات من إقناع مجلس إدارتها لإجراء نقلة استراتيجية إلى تمويل تغيير الأنظمة. هذه واحدة من العلامات التي تدل على أننا نوسع تأثيرنا بالعمل مع المؤسسات الممولة الأخرى في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة ونتعلم منها.

7. تغيير مسار الحوار

كانت رحلتي إلى لاهاي رفقة بيل ولورين في شهر مارس/آذار من عام 2019 مثمرة بحق؛ فبعد اجتماعنا مع قادة المؤسسات الممولة في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة حضرنا ندوة استمرت على مدى 3 أيام بعنوان “رحيل جميع الأنظمة” (All Systems Go) ركزت على تغيير الأنظمة في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة، وعملت على تنظيمها إحدى المؤسسات المستفيدة من مِنح مؤسسة أوسبري، آي آر سي ووش (IRC WASH) أو آي آر سي، وهي عضو مؤسس لمركز جدول أعمال التغيير في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة (WASH Agenda for Change hub).

وفي طريق عودتنا إلى الفندق بعد الجلسة الختامية طرحت على بيل سؤالاً: “ما رأيك بالمؤتمر؟”

فأجاب: “إنه رائع. كان واضحاً من الأفكار الرئيسة ومحاور النقاش والمتحدثين أن كل شيء كان مدروساً بدقة ومعداً له بعناية. ليس لدي إلا شكوى واحدة؛ كنت أرغب في حضور أكثر من جلسة في آن معاً”.

قلت: “أوافقك الرأي. لكن هذه المشكلة جيدة، فكثير من الجلسات التي حضرتها حققت تقدماً في المجال، وهذا أفضل ما يمكن أن يقال في مدح أي مؤتمر. أرى أن الفضل في هذا النجاح يعود بدرجة كبيرة إلى تنظيم مؤسسة آي آر سي له؛ فقد عملت بالتعاون مع 12 شريكة راعية من المؤسسات غير الحكومية الأخرى في القطاع من أجل اختيار أفكار المؤتمر الرئيسة وتصميم جلسات الحوار”.

فقال بيل: “من الواضح أن نهجها كان مثمراً”.

ذكرني هذا الحوار بحديث خضته قبل 30 عاماً حين غادر أحد مرشديّ، شينجي أسانوما، منصباً رفيعاً في بنك استثماري بمدينة طوكيو ليعود إلى البنك الدولي، الذي بدأ مسيرته المهنية فيه قبل عدة عقود، ليشغل منصباً إدارياً رفيعاً؛ سألته حينها عما كان يعتزم فعله في منصبه الجديد، فقال: “يا لويس، بعض المدراء يديرون المشاريع، وآخرون يديرون الموظفين، أما أنا فأريد أن أدير الأفكار“. كانت تلك المرة الأولى التي أتعرف فيها على الفاعلية المفاهيمية؛ أي استخدام العقليات الجديدة أو المحسّنة للتفكير في التحديات الأساسية من أجل إحداث تغييرات جوهرية على طرائق معالجتها.

وبعد عدة أعوام حظيت بفرصة لأشهد اختبار هذا النهج على نطاق واسع حين عملت إحدى زميلاتي في مؤسسة غيتس فاونديشن، ريتشل كاردون، على تنظيم منحتَين كبيرتَين مع مؤسسة آي آر سي (علماً أني انضممت إلى مجلس إدارة مؤسسة آي آر سي بعد مغادرة مؤسسة غيتس بزمن طويل). جسدت إحدى المنحتَين مفهوم تقديم الخدمة المستدامة؛ بدلاً من السعي ببساطة لحفر مزيد من الآبار أو إنشاء عدد أكبر من المراحيض، عرّفت هذه المنحة النجاح على أنه ضمان أن تحصل المنازل والمجتمعات على خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة المستدامة، لم تكن تلك المنحة الوحيدة التي ركزت على هذا التعريف الجديد للنجاح في القطاع، ولكن أثرها كان هائلاً بفضل استراتيجية مؤسسة آي آر سي المتمثلة في تشجيع الجهات الفاعلة الأخرى على تبني النهج ذاته، بدءاً من الحكومات مروراً بالمؤسسات الممولة الدولية وصولاً إلى وكالات الأمم المتحدة.

أما منحة مؤسسة آي آر سي الثانية فقد طوّرت مفهوم حساب تكاليف دورة الحياة الشاملة لخدمات الماء والصرف الصحي والنظافة، التي تشمل تكاليف رأس المال الأولي والتكاليف التشغيلية الجارية وتكلفة التحسينات الاستثمارية الدورية وتكاليف تنظيم القطاع، وهذا النهج شديد التناقض مع النهج التقليدي المتمثل في احتساب تكاليف تكوين رأس المال فقط. ومجدداً، عززت مؤسسة آي آر سي انتشار هذه العقلية في القطاع.

ساعدت هاتان المبادرتان على تغيير مسار الحوار في قطاع خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة من خلال إعادة تعريف النجاح (تقديم خدمات مستدامة) وطرائق تحقيقه (عملية حساب التكاليف الشاملة). لا شك في أن دعم هذا النوع من الجهود بموارد مؤسسة غيتس وشهرتها أسهل، ولكن ما تزال الفرصة سانحة للمؤسسات الممولة الأصغر للاستفادة من الفاعلية المفاهيمية في تغيير عقلية القطاع وممارساته. خذ مثلاً جهد مؤسسة أوسبري الحثيث لمناصرة تغيير الأنظمة على اعتباره السبيل لتقديم خدمات الماء والصرف الصحي والنظافة المستدامة، كما مولت مؤسستنا مبادرة أبتايم (Uptime) وروجتها بحماس شديد، وهي مبادرة نرى أنها تحدث تغييراً جذرياً في مسار الحوار الدائر حول مشكلات خدمات المياه في المناطق الريفية. عملت مبادرة أبتايم على تطوير نهج قائم على النتائج وتنفيذه، حيث تتقاضى مؤسسات خدمات المياه في المناطق الريفية رسوماً إضافية إذا تمكنت من الوفاء بمعايير الأداء المتفق عليها، مثل توفير الماء 29 يوماً على الأقل من كل شهر. سيوقع دعم هذا النوع من الابتكارات آثاراً واسعة الطيف تؤدي إلى تحسين طرائق تقديم الخدمات الأساسية وتمويلها.

تعظيم الآثار المحفّزة

أحرزت مؤسسة أوسبري تقدماً كبيراً منذ التقيت بيل في ذاك الاجتماع على الفطور قبل أكثر من 9 أعوام، لم تتغير المبادئ التوجيهية والقيم التي حفّزت قرار عائلة كلارك بإنشاء المؤسسة، ولكن الاستراتيجيات والنهج التي نتبعها في تحقيق تلك الرؤية تغيرت كي نتمكن من تعظيم الأثر المحفّز الذي توقعه مؤسستنا بمِنَحها وموظفيها على حد سواء.

نتوقع أن نستمر باستخدام الأساليب الموضحة في هذا المقال وابتكار أساليب جديدة والتعلّم من المستفيدين من مِنحنا والمؤسسات الممولة الزميلة والشريكة الأخرى، وكلما ارتقينا في هذا العمل أكثر ازدادت فعاليتنا في دعم تقديم الخدمات الأساسية لمن هم في أمس الحاجة إليها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً