شاركتُ في عدة نقاشات أو سمعتها تتكرر في أوساط الممولين على النحو الآتي: يبدأ النقاش عن أهمية التغيير السردي، الذي يتضمن غالباً أمثلة على الأعمال المبتكرة، ويثير حماسة واهتماماً كبيرين. ثم يقول أحدهم: عظيم، لكن كيف تحققت من نجاح تلك الأعمال؟ وكيف استطعت تقييم التقدم وقياسه؟ يحاول شخص آخر تقديم إجابته بفتور، ثم تنتهي المناقشة. يُطرح هذا السؤال في كثير من الأحيان، وتغيب الإجابات عنه عادة لدرجة أنني أعتقد أن غيابها يمثل إحدى العقبات الرئيسية في طريق زيادة التمويل لهذا المجال المتنامي.
هناك جانبان لمسألة قياس التقدم وقياسه في التغيير السردي. أولاً، كيف يمكن التأكد من سير العمل في المسار الصحيح؟ لأن هذا العمل يتطلّب جهداً طويل الأمد، وأحياناً يستغرق الأمر 10 سنوات أو أكثر لتحقيق نتائج ملموسة. ثانياً، كيف يمكن معرفة إذا ما كانت الجهود تسهم في التغيير، وبخاصة في ظل وجود عدد كبير ومتنوع من العوامل المؤثرة في التحولات الاجتماعية الواسعة النطاق؟ لا أعتقد أن الإجابة عن هذين السؤالين بتلك الصعوبة المفترضة.
عقبات حقيقية وأخرى متخيلة
أنا لست مقتنعاً بأن التغيير السردي يختلف كثيراً عن العديد من النُهج الراسخة للتغيير الاجتماعي، وبخاصة من جهة طبيعة العمل الطويلة الأمد. إذ تستغرق المناصرة السياسية والقانونية وأعمال تغيير النظم سنوات عديدة لتحقيق النتائج، هذا في حال أمكن تحقيقها، وتطرح غالباً مشكلات مماثلة في إسناد النتائج (وهو أمر لا مفر منه عند التعامل مع تحديات معقدة في مجتمعات معقدة على مدى فترات زمنية طويلة).
كما أن التغيير السردي ليس بالشيء الغامض الذي لا يمكن تقييمه، على الرغم من أن جزءاً كبيراً من لغته الاصطلاحية التي تتضمن مصطلحات متضاربة ومتداخلة ومتناقضة أحياناً والتي تستخدمها الأطراف الفاعلة المتنوعة يمكن أن تجعله يبدو غامضاً (ربما يكون ذلك متوقعاً من مجال لا يزال في مرحلة "التكوين"). ينطوي التغيير السردي على سلسلة من التغييرات المترابطة في مظاهر يمكن ملاحظتها -مثل أنواع القصص المتداولة؛ والصور والاستعارات والرموز (وتشمل اللغة الاصطلاحية) في محيطنا؛ وأنواع مختلفة من السلوكيات والقواعد- ومظاهر أقل قابلية للملاحظة مثل العقليات والمواقف والمعتقدات. ثمة العديد من الأساليب والأدوات الحالية التي يمكن استخدامها بانتظام لقياس كل هذه المظاهر. يسرد تقرير لشركة أو آر سي إيمباكت (ORS Impact) بعنوان "قياس التغيير السردي"، عدداً من تلك الأساليب والأدوات، مثل تحليل المحتوى لتقييم التحولات في الخطاب الإعلامي وأنواع مختلفة من الاستقصاءات التي تهدف إلى رصد التغييرات في المواقف والمعتقدات والسلوكيات والقواعد. كما تستخدم مجموعة من المؤسسات أدوات الاستماع الاجتماعي لمعرفة التوجه الشائع (التريند) للمحادثات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي حال كان التغيير في السردية ليس أصعب من الأنواع الأخرى من استراتيجيات التغيير الاجتماعي في القياس، وثمة العديد من الأدوات المتاحة للقياس، فلماذا يستمر طرح السؤال حوله؟
وعندما تتملكني الريبة حول هذه الأسئلة المتكررة حول القياس وقلة الإجابات عنها، أشعر أنها مجرد طريقة متعددة الأبعاد للتهرّب. فمن ناحية، تمثل الاعتراضات حول القدرة على القياس منظوراً تجريبياً زائفاً يمكّن الممولين من تجنب تمويل استثمارات "محفوفة بالمخاطر" ولكنها تُحدث تغييرات جذرية، (فيقولون: "لا يمكننا تمويلها لأننا لا نقدر على قياس نجاحها"). ومن ناحية أخرى، قد يجبر العثور على طرق لإجراء القياس والتقييم الممولين على إجراء تغييرات كبيرة في طريقة عملهم. ما دمنا نقول إننا لا نعرف كيفية قياس التقدم، فإننا نتشبث بطريقة تفكير يسميها مركز النشاط الفني (Center for Artistic Activism) (انضممت مؤخراً إلى مجلس إدارته) "بالتفكير السحري" الذي يتميز بنقص المعرفة وعدم فهم العلاقة بين السبب والنتيجة. يتطلب الالتزام الحقيقي بالقياس والتقييم عقلية تعلّم يشعر فيها المستفيدون من المنح وموظفو برنامج المؤسسات بالأمان الكافي ليتمكنوا من قول: "لم ننجح بذلك، وعلينا تجربة طريقة أخرى". سيتطلب ذلك درجة من الثقة وتقبّل ارتكاب الأخطاء في العلاقة بين المانح والممنوح، وكذلك من قِبل المؤسسات المموِلة وفي داخلها، وهذا بدوره سيتطلب قليلاً من تغيير ثقافة العمل لديها.
وهذا لا يعني عدم وجود عوائق حقيقية لتقييم التقدم في تغيير السردية. إذ يتطلب العديد من الأدوات والأساليب التي ذكرتها سابقاً خبرة متخصصة ومكلفة للتنفيذ الدقيق والواسع. ثمة عدد قليل جداً من المؤسسات الكبيرة التي تمتلك موارد كافية لفعل ذلك. حتى إن العديد ممن لديها ميزانيات كبيرة نسبياً تجد صعوبة في تخصيص المال للتعلم والتقييم. وعلى الرغم من تكرار التساؤلات حول القياس، فإن قطاع التمويل والمؤسسات غير الربحية يفضل التركيز على المنتج والمحتوى أكثر من العملية أو النتيجة أو التأثير.
ومع أن النتيجة المتوخاة للتغيير السردي توصف غالباً بأنها تحوّل اجتماعي جوهري واسع النطاق، فإن القطاع مليء بالمؤسسات الصغيرة التي تسعى لإحداث التغيير السردي في جانب صغير من جوانبه. وثمة عدة مؤسسات تؤدي عملاً شجاعاً ومبتكراً وخطراً في كثير من الأحيان، على غرار مؤسسة ذا ستوري كيتشين (The Story Kitchen) التي تركز على تغيير السردية حول مشاركة المرأة في التاريخ السياسي لدولة نيبال وتطورها؛ ومؤسسة إليوميناتيف (Illuminative) في الولايات المتحدة، التي تعمل على تغيير السردية حول الأميركيين الأصليين؛ ومؤسسة كاتراتشاس (Cattrachas)، التي تحاول تغيير "الصورة الاجتماعية" عن مجتمع الأقليات في دولة هندوراس. تفعل هذه المؤسسات ما في وسعها للقياس والتقييم والتعلم، لأن وجودها يعتمد على نجاحها (وقد يعني النجاح بالنسبة للبعض تغييراً أعمق وليس تغييراً أوسع، أو تحولاً سرديّاً على المستوى المحلي أو الإقليمي، بدلاً من المستوى الوطني أو العالمي). وهي ترغب في فعل المزيد، لكنها تتعرض غالباً لضغوط شديدة ولا تتحمل ميزانياتها ذلك.
يجب أن تنتقل الأسئلة حول تقييم التقدم في التغيير السردي من التساؤل حول النظرية إلى السؤال عن الممارسة. كيف يمكن لمؤسسة صغيرة ذات ميزانية محدودة تقييم التقدم؟ ما الأدلة المناسبة و"الكافية" بالنسبة إليها والمقنعة للممولين بالاستثمار في عملها؟ ما الأدوات التي يمكننا تطويرها أو تكييفها التي تمكّن هذه المؤسسات من جمع أدلة مفيدة لمساعدتها على التعلم وأن تصبح أكثر فاعلية دون فرض عبء إضافي ضخم؟
قياس تأثير التموج
يمكن أن نعتمد على نظرية الدوائر المتحدة المركّزة في فهم قياس التأثير. إذ يمكن للمؤسسات أن تبدأ بالعثور على طرق لقياس القضايا الأقرب إليها وإلى قدرتها على التأثير في المدى القريب، والتوسع في دوائر بالتدريج مع مرور الوقت وتوافر الموارد.
على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يبحث في أسئلة مثل: هل ستتحسن القدرات السردية لمؤسستنا بشأن القضايا الأقرب إليها، وعلى مدى فترة زمنية أقصر؟ هل استطعنا بلورة مصطلحات وقصص وإطارات عامة جديدة مقنعة؟ هل تمكّنا من التعاون مع الآخرين في الميدان لبلورتها؟ هل اختبرناها مع جمهورنا المستهدف وكيّفناها (أو غيّرناها) وفقاً لذلك؟ يمثل مشروع بروك (BROKE)، على سبيل المثال، عملاً تعاونياً بين معهد ذا سينتر فور ببليك إنتريست كوميونيكيشنز الأكاديمي (The Center for Public Interest Communications) وشبكة راديكال كوميونيكيترز نيتورك (Radical Communicators Network)، وهي مجموعة تقارب غير ربحية، ووكالة ميلي (Milli)، وهي وكالة إبداعية. ويقدم المشروع توصيات مستندة إلى الأبحاث ومجموعات أدوات للمؤسسات التي تسعى لدعم قصص وأطر جديدة حول الفقر وعدم المساواة والعدالة الاقتصادية.
لنتوسع قليلاً، هل يستفيد المتعاونون معنا من المصطلحات والقصص والأطر الجديدة؟ هل تتحدث أصوات جديدة عن القضية بطرق جديدة؟ فعلى سبيل المثال، بعد أن كشفت أحد الأبحاث أن 69% من الناس في أميركا اللاتينية يقولون إن الدين مهم جداً في حياتهم، وجدت مؤسسة بوينتيس (PUENTES) أن هناك حاجة إلى إقامة روابط أكبر بين المجتمعات الدينية ومؤسسات حقوق الإنسان التي كانت تبتعد عن أي شيء متعلق بالدين. وتُظهر شهادات الناشطين في مجال حقوق الإنسان أنهم يأخذون توصيات مؤسسة بوينتيس للتواصل مع الناس من الديانات المختلفة على محمل الجد، وقد بدؤوا في تكييف لغتهم والصور التي يستخدمونها وفقاً لذلك.
لنتوسع أكثر، هل المصطلحات والقصص والأطر والأصوات الجديدة مسموعة ومتداولة ويُستشهد بها؟ هل تصل إلى جمهورنا العام؟ هل نلاحظ أي تحول في الطريقة التي يتحدث بها الآخرون عن القضية، وفي نوعية المحتوى الإعلامي وكمّه؟ تشكل مؤسسة ترانسلاش (Translash) الأميركية مثالاً على ذلك. إذ تستخدم مؤسسة ترانسلاش بقيادة إيمارا جونز سرد القصص المستند إلى الحقيقة لتغيير السرديات الشائعة حول ذوي البشرة الملونة. يمكن لمؤسسة ترانسلاش تتبع تزايد أعداد الجمهور على منصاتها الخاصة، ومن الملاحظ ظهور جونز المنتظم في مجموعة من وسائل الإعلام، مثل قناة إم إس إن بي سي (MSNBC) وصحيفة الغارديان (The Guardian) ومجلة ذا نايشن (The Nation) ومحطة إن بي آر (NPR). وحصل التأكيد الخارجي على مدى وصولها وتأثيرها المتنامي عندما تم اختيار جونز ضمن قائمة "أكثر 100 شخصية مؤثرة لعام 2023" في مجلة تايم لعام 2023، لدورها في تسليط الضوء على أصوات حالات خاصة من النساء ذوات البشرة السمراء.
لنتوسع أكثر فأكثر، هل يؤدي كل ذلك إلى تحول في النقاشات العامة؟ هل بدأ صانعو القرار التحدث أو التجاوب بطريقة مختلفة؟ هل تتغير الثقافة العامة بأي شكل من الأشكال؟ هل نرى تغيراً في المعتقدات والعقليات، وأشخاصاً يتخذون إجراءات، ويغيرون الطريقة التي يتصرفون بها؟ يمثّل مشروع تغيير الثقافة (Culture Change Project) التابع لمعهد فريموركس (Frameworks Institute) نوع القياس الذي يهدف إلى تتبع مثل هذه التحولات الطويلة الأمد والواسعة النطاق، والذي ينظر في التوازن المتغير بين التفكير الفردي والشامل بين الأميركيين، بخصوص قضايا مثل الاقتصاد والتمييز العِرقي والصحة والنوع الاجتماعي.
وكما توضح الأمثلة أعلاه، ثمة الكثير مما يمكن تتبعه وقياسه بأقل جهد وموارد نسبياً. ويجب أن تكون هذه العملية تكرارية، إذا أظهر القياس والتقييم إخفاق أي عملية في دائرة تأثير، فمن الضروري العودة إلى مرحلة سابقة وتعديلها. ومع كل مرحلة من التموج، يكون الإطار الزمني أطول، ومن المحتمل أن يتطلب الأمر مزيداً من الموارد والجهد للبحث والقياس، وتتزايد صعوبة إسناد أي تغييرات مباشرة إلى جهود أي مجموعة منفردة من الجهات الفاعلة. وعلى الرغم من أن التتبع الكامل للعلاقات السببية في تلك الأمواج الخارجية يعتبر مستحيلاً، ما زال بإمكاننا استخلاص درجة معينة من العلاقة السببية من خلال تتبع التغيرات بالتسلسل.
وأخيراً، علينا أن نتقبل أن النتائج التي نبحث عنها قد لا تستمر لفترة طويلة. في بعض الأحيان، يتعين علينا الاستمرار في العمل عليها، ومحاولة بذل قصارى جهدنا للتقييم والتعلم والتكيف على نحو مستمر، وإن كنا لا نعلم هل سننجح في النهاية أم لا. يقول ديفيد مكراني في كتابه "كيف تتغير العقول" (How Minds Change) إن النجاح يأتي عشوائياً ويعتمد على الصدفة غالباً، ولكن عليك الاستمرار في العمل، حتى تكون مستعداً للاستفادة من الفرصة الكبيرة عندما تأتي. وأعود لأقول أن ذلك الوصف لا يختلف كثيراً عما نفعله. لا يلائم الثقافة العربية لا يلائم الثقافة العربية لا يلائم الثقافة العربية لا يلائم الثقافة العربية لا يلائم الثقافة العربية
يتعين علينا في بعض الأحيان الاستمرار في نثر البذور ورعاية التربة، دون معرفة الوقت الذي ستستغرقه النباتات حتى تنمو وتؤتي ثمارها، أو حتى دون أن نعرف أنها ستنبت أساساً. على المموّلين والمستفيدين من المِنح تقبّل حقيقة أنهم سيعرفون الكثير في نهاية المطاف، وذلك جزء أساسي من نوعية العمل الاستراتيجي الناشئ الذي يشارك فيه العديد من الأطراف الفاعلة في سبيل تحقيق التغيير السردي. وما نعرفه يقيناً هو أنه إذا لم نعمل، فلا يمكننا توقع تغيّر أي شيء على الإطلاق.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.