لا تتطلب معالجة المشكلات الاجتماعية الراسخة في المجتمعات المحلية، مثل عدم المساواة والعنف والتدهور البيئي، إعادة تشكيل الهياكل الاجتماعية والاقتصادية فيها فحسب، بل تغيير الثقافات والعقليات المحلية. دور المرأة والرجل في المجتمع وطرق التعامل مع الطبيعة وغيرها من التقاليد والقيم الثقافية تقود التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات. لذا يُعد تغيير القيم الراسخة أو إعادة توجيهها أساس التغيير الهيكلي.
الأعمال الثقافية مثل الفن والموسيقى والأفلام من أقوى أدوات تغيير التقاليد الراسخة والتي ترفع مستوى الوعي بالمشكلات الاجتماعية. لذا يمتلك الفنانون والمشاريع الفنية القدرة على فعل الكثير. في الواقع، بوسعهم أداء دور حيوي في تغيير المجتمع. وفي حال توافر الدعم والاستراتيجية المناسبين، بوسع الجهود التي يقودها الفنانون تمكين المجتمعات من صياغة المستقبل المنشود، ونقل القضايا الاجتماعية إلى خارج أسوار المجتمع، وتعزيز الاستثمارات الطويلة الأجل في تغيير المجتمعات المحلية.
ولكن أين تكمن بالضبط قوة الفن في التغيير الاجتماعي، وكيف يمكن للفنانين والمجتمعات والممولين تعزيز مشاريع التغيير القائمة على الفن بفعالية؟ فيما يلي نظرة على 3 مشاريع يقودها فنانون أحدثت تأثيراً كبيراً في المجتمعات المحلية من خلال مزيج من الفنون البصرية والأفلام الوثائقية، بالإضافة إلى 5 استراتيجيات للممولين لتقديم أفضل دعم لهذه الأنواع من المشاريع.
تمكين المجتمعات من صياغة المستقبل المنشود
تتمتع المشاريع الفنية بقدرة فريدة على تمكين المجتمعات من تصور عالم مختلف عن واقعها الحالي. فالعملية الإبداعية ذات فائدة عظيمة في سياقات الفقر والأوقات الصعبة، حين يصعب على الناس التفكير بغير الفرص والقيود الآنية وتخيل مستقبل بديل.
يقدم الفيلم الوثائقي ويست لاند الذي صدر عام 2010 مثالاً يحتذى به، إذ يصور الفيلم تعاوناً بين الفنان البرازيلي فيك مونيز ومجموعة من جامعي النفايات القابلة لإعادة التدوير في مكب جارديم غراماتشو، وهو مكب نفايات كبير بالقرب من مدينة ريو دي جانيرو. يعمل مونيز مع جامعي النفايات لإنشاء أعمال فنية من المواد التي يجمعونها، مثل لوحات متنوعة للسيدة مريم العذراء كما صوّرِت في عصر النهضة، ولوحة "الزارع" لجان فرانسوا ميليت، ولوحة "موت مارات" لجاك لويس ديفيد. تأخذ هذه العملية جامعي النفايات في رحلة تغيير تساعدهم على رؤية أنفسهم على نحو مختلف، إذ ينمّون في داخلهم شعوراً جديداً بالفخر بأهمية عملهم، ونظرة جديدة لدورهم في إعادة التدوير والإسهام في الاستدامة البيئية، كما ينمون مهارات فنية جديدة.
وينتهي الفيلم الوثائقي بمزاد حيث تباع الصورة الواحدة بأكثر من 64,000 دولار. يخصص مونيز جميع إيرادات المبيعات لمكب جارديم غراماتشو، ليدعم جامعي النفايات في تحسين ظروف عملهم. كما يتبرع مونيز ومنتجو الأفلام بمبلغ 276,000 دولار أميركي للجمعية التعاونية العمالية لهواة جمع النفايات في مكب نفايات المدينة في جارديم غراماتشو، وتستخدم هذه الأموال منذ ذلك الحين لشراء أجهزة كمبيوتر، وإنشاء مكتبة، وتمويل برنامج التدريب على الأعمال التجارية الصغيرة. عُرض الفيلم أول مرة في مهرجان صندانس السينمائي (Sundance Film Festival) عام 2010، وحصل على أكثر من 50 جائزة سينمائية، بما فيها جائزة أفضل فيلم وثائقي. كما رُشِّح لفئة أفضل فيلم وثائقي في حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ 83. على الرغم من أن الاهتمام العام بالمشروع بلغ ذروته مع إصدار الفيلم، وعلى الرغم من إغلاق جارديم غراماتشو في عام 2012، فإن الفيلم الوثائقي يضفي رؤى قيّمة حول ظروف العمل في بيئة عمل مكبات النفايات ويمتلك القدرة على حشد الناس لاتخاذ مواقف فعالة بشأن القضايا المجتمعية.
نقل القضايا خارج أسوار المجتمع
بوسع الفنانين ومنتجي الأفلام إبراز القضايا المحلية وربطها بجمهور أوسع من خلال أعمالهم، ليس لإلهام المجتمعات الأخرى التي تعاني ظروفاً مماثلة فحسب، إنما لتوليد موارد جديدة ودعم التغيير المحلي. يُظهر تحليلنا لحملات التأثير المستندة إلى الأفلام وجود صلة قوية بين الوصول إلى الجماهير العالمية والتغيير المجتمعي الفعال، وأحد أسباب ذلك هو أن العرض الواسع النطاق يحشد الدعم ويمارس الضغط على أصحاب المصالح المحليين لتعزيز التغيير.
على سبيل المثال، يحكي فيلم "ذي إنترّبترز" (The Interrupters) الذي أُنتج عام 2011 قصة ثلاثة أعضاء سابقين في عصابة يتدخلون لمنع الصدامات ويتوسطون لحل صراعات العصابات ويمنعون عمليات إطلاق النار في شيكاغو. شارك الفيلم في 44 مهرجاناً سينمائياً في 15 دولة مختلفة وشاهده 3 ملايين شخص حول العالم.
يركز فيلم "ذي إنترّبترز" على برنامج سيزفاير (CeaseFire) في شيكاغو، الذي يهدف إلى حشد المجتمعات للحد من عنف العصابات في المدينة. أطلق المنتجون عند إصدار الفيلم حملة توعية بكلفة 154,000 دولار أميركي في ولاية شيكاغو وجميع أنحاء الولايات المتحدة، حيث نظموا عروضاً وحوارات في 44 ولاية أميركية حول أسباب العنف وتحسين الخدمات الاجتماعية. شاهد الفيلم أكثر من 16,000 شخص عبر نحو 400 عرض نظمتها هيئات مجتمعية، 300 منها نُظمت خارج شيكاغو. كما نظم أحد أبطال الفيلم، إدي بوكانيغرا، عرضاً خاصاً في المتحف الوطني للفن المكسيكي في شيكاغو ضمن فعاليات معرض يتناول العنف المجتمعي. عُرضت في هذا الحدث أعمال فنية وقصص للشباب المحليين، وتضمن مناقشة حول دور الفن في معالجة اضطراب ما بعد الصدمة، وعزز دور التوجيه الفني بوصفه أحد مسارات الدخول إلى الجامعة.
شجّع الفيلم والحملة المرتبطة به عمدة شيكاغو على تخصيص مليون دولار لبرنامج سيزفاير لدعم المزيد من "المتدخلين لمنع الصدامات"، ومع أن التأثيرات الطويلة المدى لم تكن واضحة إلى حد ما، فمن المرجح أن يكون المشروع قد أسهم في انخفاض عمليات إطلاق النار وجرائم القتل المحلية بنسبة 40% عام 2013. والأهم من ذلك، أن حملة فيلم ذي إنترّبترز شجعت مدناً أميركية أخرى على إطلاق برامج مشابهة لبرنامج سيزفاير.
تعزيز الاستثمارات الطويلة الأجل في التحولات المحلية
تتمتع المشاريع التي يقودها الفنانون بالقدرة على إحداث تأثير طويل الأمد، لأن الأعمال الثقافية التي ينتجونها مثل الأفلام واللوحات والمنحوتات، تبقى لفترة طويلة بعد إطلاق المشاريع. تُلهم هذه الأعمال الفنية الناس وتولد الوعي حول القضايا الاجتماعية عبر أجيال متعددة، وتدعم بذلك تحولات في القيم الطويلة المدى يمكن أن تؤدي إلى خلق مصادر جديدة للدخل ومهن جديدة في المجتمع المحلي.
في عام 2012، بدأ فنانون محليون في جبال روينزوري بأوغندا يُدعون "روينزوري فاوندرز" (Rwenzori Founders) صناعة منحوتات للأنواع المنقرضة والمهددة بالانقراض في المنطقة وعرضها وبيعها، وذلك لرفع مستوى الوعي حول عواقب إزالة الغابات ولتمويل إعادة زراعة الأشجار المحلية ومبادرات إعادة الحياة البرية. انضم العديد من الفنانين إلى هذا المسعى بمرور الوقت وحققوا نتائج رائعة. زُرع ما يزيد على 20,000 شجرة في المنطقة منذ بداية المشروع، وزاد تنوع الحياة البرية فيها. يستوطن المنطقة حالياً 203 أنواع من الطيور مقارنة بـ 50 نوعاً منها عام 2007. وفي الوقت نفسه، خلق المشروع فرص عمل جديدة للسكان المحليين مثل عمال صب البرونز، ومزارعي الأشجار، وحراس الأمن، والطهاة، وعمال البستنة.
في إحدى المقابلات، يصف أحد فناني روينزوري فاوندرز، إسحاق أوكوير، دورة المشروع المحمودة على النحو الآتي: "يأتي الفنانون ويصنعون أعمالاً فنية مستوحاة من الثقافة والحياة البرية أو يشرفون على صناعتها، ثم تُباع هذه الأعمال في معرض محلي، وتعود الأرباح إلى المجتمع أو إلى مشروع إعادة الحياة البرية. ونتيجة لذلك، يزداد التنوع البيولوجي وترتفع أعداد الأنواع المهددة بالانقراض، فيشجع ذلك المزيد من الفنانين على المشاركة".
أدى المشروع إلى تحول ثقافي في المجتمع، إذ كان السكان المحليون يعتبرون الحياة البرية ميدان صيد في الماضي، أما الآن فيعتبرونها مصدر هوية تستحق الحماية. وينظم فنانو روينزوري فاوندرز زيارات مدرسية منتظمة لمعرضهم لدعم هذا التغيير. يقول أوكوير: "إذا أردنا أن يكون المشروع مستداماً، فنحن بحاجة إلى أن يواصل جيل الشباب تحقيق أحلامنا".
في عام 2021، جذب المشروع انتباه منتجَي الأفلام البريطانيَين، زليكا كينغدون وجاكي دوتي، وألهمهما لإنتاج فيلم وثائقي عن المشروع بعنوان "ذا روينزوري رينميكرز" (The Rwenzori Rainmakers). جمعت حملة كيك ستارتر (Kickstarter) التي أطلقها منتجا الفيلم أكثر من 25,000 جنيه إسترليني (ما يقرب من 32,000 دولار أميركي)، لتمويل شراء شتلات الأشجار لإعادة زراعة الغابات ولتوظيف المواهب الأوغندية في طاقم التصوير. أدار منتجا الأفلام ورش عمل إبداعية وساعدا على إطلاق التعاون بين مؤسسات حماية الحياة البرية الإقليمية والعالمية، ما من شأنه توفير المزيد من فرص التمويل.
دعم التغيير الذي يقوده الفنانون
لا يقتصر دعم مشاريع التغيير التي يقودها الفنانون على تمويل الفن بحد ذاته فحسب. إذ يجب أن يتخذ الدعم أشكالاً عديدة ليحقق النتائج المرجوة. وينبغي أن يتضمن الدعم العناصر الخمسة الآتية إن أمكن.
- تمويل مدراء الحملات. بوسع الممولين تعزيز تأثير المشاريع التي يقودها الفنانون من خلال مساعدتهم على التعاون مع مدراء الحملات الذين ينظمون عروضاً وفعاليات خاصة؛ ويصممون حملات وسائل التواصل الاجتماعي؛ وينشئون مواد تعليمية لتعزيز الوعي وتغييرات السلوكيات والسياسات في المجتمعات المحلية. على سبيل المثال، تعاونت مؤسسة كارتيمكوين (Kartemquin) المنتجة لفيلم "ذي إنترّبترز"، مع متخصصين في مجال التوعية لتنظيم عروض محلية بالشراكة مع المسؤولين في المجتمعات والمدن. ويقدم دليل التأثير الميدانيالذي وضعته مؤسسة دوك سوسايتي (Doc Society) أفكاراً غنية حول إدارة حملات التأثير والدور الذي يمكن أن يؤديه مدراء الحملات أو "منتجو التأثير". ويبدو أن الحملات التي تهدف إلى تغيير السياسات والتنظيم والتغيير المجتمعي تستفيد منها كثيراً. ولكنها تحتاج إلى تمويل خاص، وبخاصة في حال شارك منتجون مؤثرون محترفون.
- الأطراف المعنية وفرص التعاون. كما هي الحال في جهود التغيير الاجتماعي الأخرى، يمكن للممولين والمؤسسات مساعدة الفنانين ومنتجي الأفلام في بناء التحالفات مع الهيئات الحكومية والمؤسسات غير الحكومية والمؤسسات المجتمعية. في سياق فيلم ويست لاند، بيعت لوحة تياو (Tião)، التي تصوّر إحدى جامعات النفايات في المشروع، في دار مزادات فيليبس دي بوري (Phillips de Pury) في لندن، وافتُتح معرض استرجاعي يضم الأعمال الفنية لفيك مونيز في متحف الفن الحديث في مدينة ريو دي جانيرو. وفّر كل من المزاد والمعرض الاسترجاعي فرصة لترويج المشروع والوصول إلى جماهير أوسع، ما أتاح نشر رسالته الأساسية وتأثيره. وبمقدور الممولين ترويج المشاريع التي يقودها الفنانون بين الممولين الآخرين الذين يدعمون القضايا الاجتماعية أو البيئية.
- دعم الفعاليات العامة والمعارض.يستطيع الممولون الإسهام في توسيع تأثير المشاريع الفنية من خلال إتاحة الأماكن العامة للفعاليات والمعارض والعروض. على سبيل المثال، دعمت مؤسسة ببليك آرت فاند ( Public Art Fund) مشروع الفنان آي ويوي الواسع النطاق "سياج جيد يكسبك جيراناً جيدين" (Good Fences Make Good Neighbours) في مدينة نيويورك، الذي تناول أزمة اللاجئين العالمية. وشمل المعرض المنتشر على مستوى المدينة، الذي استمر من عام 2017 إلى عام 2018، أكثر من 300 عمل معروض في مجموعة واسعة من المواقع، بما فيها حي لوَر إيست سايد في مانهاتن ومتنزه كورونا بارك في حي كوينز. عزز هذا الاستخدام للأماكن العامة الحوار حول المفاهيم الأساسية للحدود والهجرة والانتماء. بمقدور الممولين أيضاً دعم ورش العمل المجتمعية التي تستخدم الأعمال الفنية والأفلام لتشجيع عمليات التغيير الجماعي. قد يتطلب تنفيذ ورش العمل على نحو صحيح ميسّرين ومستشارين محترفين يمكنهم مساعدة المشاركين في أثناء تعاملهم مع القضايا الصادمة مثل عنف العصابات.
- مصادر تعليمية.يعزز دعم البرامج التعليمية المستندة إلى الفن تأثير الفن والمشاريع الفنية على المديين القصير والطويل. على سبيل المثال، في عام 2012 قدمت مؤسسة ماك آرثر فاونديشن (MacArthur Foundation) ومؤسسة بربري فاونديشن (Burberry Foundation) 2.2 مليون دولار لمساعدة الشباب في شيكاغو على تطوير مهارات جديدة وتعزيز الثقة بالنفس، وذلك للإسهام في توفير فرص للتعلم في المكتبات والمتاحف والمدارس ودور الفنون. استخدمت المؤسسات الشريكة لحملة ذي إنترّبترز، مثل مؤسسة يولوكالي آرتس ريتش (Yollocalli Arts Reach)، هذا التمويل لوضع برامج تعليمية تستند إلى الفن تعمل على تمكين الشباب في المجتمع ومساعدتهم على التعامل مع العنف والصدمات. كما يمكن للممولين دعم إنشاء مواد تعليمية تتعلق بالأفلام الوثائقية يستخدمها المعلمون على نحو متكرر لتعريف الطلاب بالقضايا الاجتماعية والبيئية المعقدة في الفصل الدراسي.
- الإرشاد الفني. يمكن للممولين تقديم الخبرات في عدة مجالات مثل إدارة المشاريع والتسويق والتخطيط الاستراتيجي لمساعدة الفنانين على تطوير المهارات التي يحتاجون إليها لقيادة المشاريع الناجحة. على سبيل المثال، يعمل المركز الدولي للفنون من أجل التغيير الاجتماعي (the International Centre of Art for Social Change)، وهو مبادرة تركز على دعم الفن والفنون التي يشارك فيها المجتمع من أجل التغيير الاجتماعي، على إجراء الأبحاث وتقديم فرص التطوير المهني وتيسير تبادل المعرفة والتواصل ضمن هذا المجال. ويقدم المركز ورش عمل ومؤتمرات ومحاضرات لتعزيز المهارات المهنية وكذلك تبادل الأفكار بين الفنانين.
توضح أمثلة مثل "ذي إنترّبترز" و"ويست لاند" وروينزوري فاوندرز كيف يمكن لمشاريع التغيير التي يقودها الفنانون أن تجعل المجتمعات تستثمر بشغف في تحولها وفي إحداث تغيير هيكلي حقيقي. بالنسبة إلى الممولين، يمكن أن يتخذ دعم المشاريع التي يقودها الفنانون أشكالاً عديدة، مثل تمويل مدراء الحملات، والتواصل مع الشركاء المحتملين وإتاحة الأماكن العامة، وتوفير الفرص التعليمية والإرشادية. عبر التعاون، يستطيع الفنانون وأفراد المجتمع والممولون العثور على مسارات إبداعية لإبراز أهمية القضايا الاجتماعية والبيئية، وإلهام المجتمعات وتمكينها من تأدية دور نشط في عملية التغيير.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.