يتطلب تحقيق أهداف التنمية المستدامة بنية مالية جديدة تحفّز الاستثمار في المبادرات التي تضمن مستقبلاً أفضل للجميع، ولا يمكن تأسيس هذه البنية دون الأبحاث والمنشورات العلمية التي تؤدي دوراً أساسياً في تحديد المنهجيات والممارسات الفعّالة وتوجيهها. تسلط دراسة حديثة الضوء على التوافق بين أبحاث التمويل وأهداف التنمية المستدامة، وخلُصت إلى أن بعض مجالات الاستدامة لا تزال أقل تمثيلاً في المجتمع الأكاديمي مقارنة بغيرها من المجالات.
في ظل التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي يمر بها العالم، شكّلت أهداف التنمية المستدامة نقطة تحوّل مهمة في المسار العالمي للقضاء على الفقر وتحقيق المساواة، وأساساً قوياً لتسخير الإمكانيات المتاحة جميعها بما في ذلك التمويل الذي تتفرع منه مجموعة من الممارسات والأبحاث الحديثة التي تهدف إلى مواكبة متطلبات الاستدامة.
نشر 3 باحثين هم براين لوسي من كلية الأعمال بجامعة أبوظبي، ويانغ سو وأشيش كومار من كلية ترينيتي للأعمال بإيرلندا، دراسة في مجلة البحوث في الأعمال الدولية والمالية، بعنوان: "البحوث المالية وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة: التحليل والنظرة المستقبلية" (Finance Research and the UN Sustainable Development Goals – An analysis and forward look)، ورصدوا البحوث المالية ومواءمتها مع أهداف التنمية المستدامة، وتوصلوا إلى أن البحوث المالية الأكاديمية موزعة توزيعاً غير متساوٍ عبر أهداف التنمية المستدامة، إذ لم يجرِ البحث كفاية في مجالات مثل البيئة البحرية، وإدارة المياه والحياة البرية.
وتتّبعت الدراسة أكثر من 53 مقالة علمية منشورة في 113 مجلة مالية، خلال الفترة من عام 2010 إلى 2022، وكشفت زيادة ملحوظة في الاهتمام العلمي بمجالات العمل المناخي والطاقة المستدامة إلى جانب نمو تدريجي في الأبحاث المتعلقة بهدف المساواة بين الجنسين.
ويعني ذلك أن لأهداف التنمية المستدامة تأثيراً بارزاً على أولويات البحث لكنه تأثير غير مباشر، إذ وجهت أهداف التنمية التركيز الأكاديمي تدريجياً نحو نهج أكثر شمولية للاستدامة، ما أثر على مسار البحوث المالية مع مرور الوقت.
وعلى عكس الزيادة التدريجية في التركيز، تناول الكثير من الأبحاث هدف "عقد الشراكات لتحقيق الأهداف"، ما يؤكد الاعتراف بأهمية الجهود التعاونية في القطاع المالي بما في ذلك الشراكات بين القطاعين العام والخاص والمبادرات المالية الدولية لتحقيق التنمية المستدامة.
بالمقابل، يعكس التمثيل المحدود لمجالات مرتبطة بالطبيعة مثل المياه النظيفة وقنوات الصرف الصحي والحياة البحرية والمائية، أهميتها المنخفضة نسبياً في النطاق التقليدي للبحوث المالية، ما يشير إلى فرصة لدمج التمويل البيئي في البحوث المالية التقليدية لإنشاء نماذج مالية مبتكرة للتنمية المستدامة.
وتوصلت أبحاث أخرى إلى نتائج مماثلة تؤكد أن الموضوعات الرئيسية في التمويل المستدام تدور حول الاستثمار المسؤول اجتماعياً، وتمويل المناخ، وتمويل الطاقة.
ويبرز اتجاه المجلاّت التي تتناول البحوث المالية نحو أهداف التنمية المستدامة بصورة أكبر من خلال ارتفاع عدد الاستشهادات منذ عام 2017، ما يدل على أن مجتمع البحث يركز أيضاً على العمل المستدام الذي يكتسب مزيداً من الاعتراف والتأثير في المجال الأكاديمي، وليس فقط إنتاج المزيد من المحتوى المرتبط بأهداف التنمية. ويعكس هذا التطور الطبيعة الديناميكية لنظام التمويل، الذي يعالج على نحو متزايد التحديات البيئية والاجتماعية الحاسمة في إطار أهداف التنمية المستدامة.
تباين بين الأداء البيئي والتأثير الأكاديمي
يكشف تحليل البحوث واتجاهات الرأي الذي أجرته الدراسة المذكورة في بداية المقال عن مشهد متنوع، حيث تعكس البلدان نطاقاً بحثياً جغرافياً واسعاً تصدرت فيه الولايات المتحدة والصين أرقام النشر، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الأداء البيئي وأهداف التنمية المستدامة، وهو ما يعكس التباين بين الأداء البيئي والتأثير الأكاديمي. بالمقابل، سجلت فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا توافقاً وثيقاً بين أدائها الأكاديمي وأدائها في مجال الاستدامة.
وبالمثل، توصلت بعض الدراسات إلى أن البلدان المنخفضة الدخل تسهم إسهاماً ضئيلاً في الأبحاث المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة عموماً، وليس الأبحاث المالية فقط، ليعكس الإسهام المحدود من هذه البلدان تبايناً أوسع في الجهود الأكاديمية العالمية نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ما يؤكد الحاجة إلى مبادرات بحثية أكثر شمولاً.
بالتالي، يمكن للبلدان الرائدة في حجم نشر الأبحاث المتعلقة بالتمويل المستدام، مثل الولايات المتحدة والصين، الاستفادة من نتائج أبحاثها لوضع سياسات قائمة على الأدلة ومواءمتها بصورة أفضل مع أهداف التنمية المستدامة.
التحول نحو الاستدامة وضرورة طرح رؤى جديدة
في عام 2000، ركزت الأهداف الإنمائية للألفية في المقام الأول على الفقر المدقع والجوع والمرض وعدم المساواة والاستدامة البيئية، وأرست الأُسس لمعالجة التحديات العالمية الحاسمة ولكنها كانت محدودة النطاق، وفي عام 2015 وسّعت أهداف التنمية المستدامة نطاق التركيز ليشمل 17 هدفاً شاملاً يغطي المجالات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية والبيئية.
وبدأ العالم يشهد ضغطاً متزايداً من المستثمرين والمستهلكين وغيرهم من أصحاب المصلحة، للتحول نحو العمليات المسؤولة بيئياً واجتماعياً، وزاد الطلب على الشفافية في الإفصاح عن ممارسات الاستدامة، ويمكن أن يُعزى التغيير جزئياً إلى الأدلة على الفوائد المالية المرتبطة بالاستثمار المستدام.
وعلى الرغم من أن الهيكل المالي ومشاريع الاستثمار المستدام تتماشى بصورة وثيقة مع أهداف التنمية المستدامة، لكن لا تزال الهيكلية المالية في العديد من البلدان تعاني صعوبات تتطلب اهتماماً أكبر لحلها.
وهنا يأتي دور الأبحاث في تقديم رؤى مفيدة حول كيفية الاستفادة الكاملة من ديناميكيات التمويل لسد الفجوات ومعالجة تحديات التنمية. وشهدت السنوات الأخيرة نمواً كبيراً في الأبحاث المتعلقة بالتمويل المستدام، ولكن استكشاف هذا المجال من منظور شامل لا يزال في مراحله الأولى، إذ تشير الدراسات إلى نقص ملحوظ في الأبحاث الشاملة التي تحلل الوضع الحالي للتمويل الاجتماعي.
سد الفجوة بين الأبحاث النظرية والممارسات الفعلية
تكمن أهمية الدراسات في تقديم نتائج قيّمة يمكن للعلماء الأكاديميين وصانعي السياسات الاستفادة منها في إعادة توجيه الاستراتيجيات نحو دعم مبادرات الاستدامة العالمية دعماً أفضل في المستقبل، إذ غالباً ما تتشكل فجوة بين الأبحاث والممارسات بسبب توجيه نتائج الأبحاث إلى العلماء الأكاديميين، وعدم ملاءمتها للممارسين الذي يفتقرون إلى العلاقات أو السبل اللازمة لمشاركة معرفتهم العملية مع الباحثين.
لذا، يجب دعم العمل التعاوني وخلق جسر تواصل بين الباحثين والمهنيين الممارسين، وتعزيز الشراكات بينهم من أجل مساعدة الباحثين الأكاديميين وأصحاب القرار وصنّاع السياسات على اكتشاف الممارسات المناسبة والتوصل إلى حلول فعالة للمشكلات التي تواجههم.