تتسارع وتيرة التحديات العالمية على نحو غير مسبوق ما دفع الأمم المتحدة لمزيد من الإلحاح من أجل إحراز تقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فبعد أن كانت الجهود تدور حول ثمانية أهداف، توسعت في عام 2015 لتصل إلى 17 هدفاً يجب بلوغها بحلول عام 2030. فما أهمية وجود أهداف عالمية من أجل تحقيق تنمية مستدامة للدول والمؤسسات والأفراد؟ وهل يمكن أن تُحدِث هذه الأهداف الفرق حقاً؟
أهمية وضع أهداف إنمائية محددة
يُعد مفهوم التنمية المستدامة واسعاً ومعقداً، والعمل به كان يتطلب وضع أهداف واضحة ومحددة لتحقيق النتائج المنشودة، فأساس النجاح والتقدم هو الأهداف الواضحة السليمة، وأكد ذلك جون كينيدي في خطابه الرئاسي الذي ألقاه عام 1963 حين قال: "من خلال تحديد هدفنا بوضوح أكبر، وجعله يبدو أكثر قابلية للتحقيق، نستطيع أن نساعد الناس على رؤيته والتحرك باتجاهه دون مقاومة".
بذلك تتجلى أهمية تحديد الأهداف من خلال النقاط الآتية:
- في ظل عالم صاخب ومتفاوت ومنقسم في أكثر الأحيان، من الصعب تنظيم الجهود واستمراريتها في سبيل تحقيق المصالح المشتركة، لذا يساعد تبنّي أهداف إنمائية عالمية كلاً من الأفراد والشركات والحكومات على تركيز الجهود في اتجاه واحد وقضايا تهم المستقبل فعلاً.
- تحفّز الأهداف الجريئة والطموحة والواضحة دوائر المعرفة وصنع القرار لمواجهة التحديات المعقدة التي تنطوي عليها التنمية المستدامة والعمل معاً لإصدار التوصيات حول الإجراءات اللازمة لتحقيق النتائج المرجوة، وحشد أصحاب المصالح وقادة المجتمع والمنظمات غير الحكومية من أجل تحقيق غايات مشتركة.
لكن لا بد أن يقترن تحديد الأهداف بالتصميم الجيد، والتمويل الكافي، وتهيئة المؤسسات والأطراف المعنية للإشراف على التنفيذ وقياس النتائج وتقييمها، كما يجب إعادة النظر في الاستراتيجيات ورصد ردود الأفعال حول السياسات المرتبطة بأهداف وجداول زمنية واضحة. فهل ينطبق ذلك على أهداف التنمية المستدامة؟
إنذار بالخطر وخروج عن المسار الصحيح
للسنة الثالثة على التوالي، ظلَّ التقدم المحرز في مجالات التنمية المستدامة يراوح مكانه، وقدَّم تقرير عام 2023 تحذيراً أكثر خطورة حول الوعود المنصوص عليها في أهداف التنمية المستدامة، والفجوة في النتائج بين البلدان النامية والمتقدمة.
كشف التقرير أن العالم فقد بوصلته في منتصف الطريق نحو أهداف التنمية المستدامة، إذ لم يسر على الطريق الصحيح سوى 12% من الأهداف، في حين أن أكثر من نصف دول العالم انحرفت عن المسار السليم للأهداف المحددة.
وبحسب التقرير، فإن 38% من الأهداف لم تشهد أي تقدّم، وأحياناً سجلت تراجعاً اعتباراً من العام 2015، على سبيل المثال، من المتوقع أن يبقى 575 مليون شخص في دائرة الفقر المدقع بحلول العام 2030، إذ يعيش حالياً نحو 1.1 مليار شخص يعيشون في أحياء فقيرة أو في ظروف أشبه بالحرمان، ومن المتوقع أن يضاف إليهم 2 مليار شخص خلال الثلاثة عقود المقبلة.
بالنسبة للتعليم، سيتخلف 84 مليون طفل عن الدراسة، وسيبلغ بلد واحد من كل ستة بلدان فقط أهداف حصول الجميع على التعليم الثانوي بحلول 2030، كما لا يزال هدف المساواة بين الجنسين يسير بوتيرة بطيئة جداً، وإذ استمر على معدلاته الحالية فسيستغرق القضاء على القوانين التمييزية 286 عاماً.
وستتسع الفجوة في نتائج أهداف التنمية المستدامة بين البلدان الفقيرة والبلدان المرتفعة الدخل في عام 2030 أكثر مما كانت عليه في عام 2015، فالبلدان النامية المثقلة بالديون تعد الأكثر تضرراً من إخفاقنا في مسار التنمية، إذ حصلت غالبية الدول العربية على الدرجة "الحمراء" في إطار تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، ولا تزال تواجه صعوبة في القضاء على الفقر، ما يعيق قدرتها على تحقيق التقدم الاقتصادي وتحسين جودة التعليم وتوفير المياه النظيفة والرعاية الصحية الجيدة.
التمويل أهم عقبات إحراز التقدم
ما الحل لسد الفجوة في تمويل أهداف التنمية المستدامة بين البلدان؟ دعت الأمم المتحدة لإصلاح النظام المالي لتخفيف القيود عن البلدان النامية لتتمكن من تعبئة الموارد الضرورية لتحقيق هذه الأهداف، وهناك حاجة إلى دعم حاسم واستثنائي من المانحين في القطاعين العام والخاص والمؤسسات المالية الدولية.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، فلا بد من التوصل إلى التوازن الصحيح بين تمويل التنمية والتخفيف من عبء الديون، والاحتياجات التنموية المُلحة وأهداف التنمية الطويلة الأجل، والاستثمار في رأس المال البشري وتطوير البنى التحتية وفي الوقت نفسه مواصلة العمل على خطط إصلاحية طموحة تركز على إعطاء دفعة للنمو عبر تعزيز الاستقرار الاقتصادي الكلي، وجودة المؤسسات، والشفافية، والحوكمة والشمول المالي.
من جهة أخرى، يجب أن تتسم الأهداف الجيدة بقابلية القياس والتنفيذ، إذ يرى مؤلف كتاب: "اقتصادات التنمية الدولية: المساعدات الخارجية مقابل الحرية لفقراء العالم" (The Economics of International Development: Foreign Aid versus Freedom for the World's Poor)، ويليام إيسترلي، أن أهداف الألفية الإنمائية كانت أكثر دقة وقابلية للقياس والتنفيذ، مقارنةً بأهداف التنمية المستدامة المتشعبة والبعيدة عن الانسجام والترابط.
وفي السياق نفسه، يرى البنك الدولي أن الأنظمة الإحصائية في معظم البلدان، لا سيما النامية، تعاني مشكلة توفير البيانات اللازمة لقياس مستوى التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فقد تعاني المجتمعات المحلية في الدول النامية نقصَ الوعي بمصطلحات مثل الاستدامة والكفاءة، ولا تستطيع الاستجابة للطلب المتزايد على البيانات في إطار أهداف التنمية المستدامة، ففي منطقة الشرق الأوسط مثلاً، يوجد عجز في البيانات المتعلقة بإدارة الموارد البشرية بما يشمل التوظيف والأجور والترقية، ما يُصعِب تتبع أداء المنطقة في تحقيق هدف المساواة بين الجنسين.
وتعد الدول النامية غير قادرة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة لأنها تفتقر إلى البنية التحتية المتطورة اللازمة لدعم استخدام التكنولوجياً فضلاً عن ضعف نظام إدارة قواعد البيانات، بالتالي لا يمكننا أن نتوقع من البلدان النامية أن تحقق الاستدامة بالسهولة نفسها التي تتمتع بها البلدان المتقدمة.
ولتحقيق التنمية المستدامة في هذه البلدان نحتاج إلى تحسين الهياكل المالية وجعل المساعدات الإنمائية الرسمية، والموارد الخاصة بالمناطق النامية على حدٍ سواء أكثر توافقاً مع أهداف الاستدامة، من أجل إيجاد النطاق المالي للتحول الاجتماعي- البيئي، فيجب على الشركات مثلاً أن توجه عملياتها نحو الأنشطة المستدامة بيئياً واجتماعياً أو تؤكد التزامها بمعايير التنمية المستدامة قبل حصول على الدعم المالي أو دخولها في استثمارات جديدة.
لا يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فيما لا يزال بعض الدول خلف الركب، وكما قال الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتز: "إن الرخاء الوحيد الذي يعتبر حقيقياً ومستداماً هو الرخاء المشترك".