كيف نبني بيئة عمل خيري خالية من المشكلات؟

استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تشبه المشاكل الاجتماعية الأعشاب الضارة، كلما أزلتها عادت للنمو من جديد. هذه هي الحقيقة المرة التي تواجهها المؤسسات العاملة في القطاع الخيري كل يوم؛ فهي تحاول حل المشاكل لتحسين حياة الناس، لكن العديد من المشاكل ما يزال قائماً على الرغم من الجهود والتكاليف الكبيرة، ويبدو أننا بعيدون عن تحقيق تقدم ملموس.

ذكرت شبكة سي إن إن مؤخراً أن “ولاية كاليفورنيا أنفقت مليارات من الدولارات على محاربة التشرد، لكن المشكلة تزداد سوءاً”. ولم يكن للاستثمارات الضخمة في الحلول المناخية مثل أسواق الكربون، وإزالة ثاني أوكسيد الكربون، والطاقة البديلة تأثير ملموس على إبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، وقد حذّرت الأمم المتحدة مؤخراً من أن جهودنا غير كافية لتجنب التغير المناخي الكارثي.

كما وسّعت المؤسسات غير الحكومية نطاق الحلول للمشاكل التعليمية في الهند لعقود من الزمن دون تحسّن ملحوظ في مشاكل القراءة والرياضيات، وهذا ما دفع أحد الباحثين في جامعة هارفارد إلى التساؤل: “ثمة توسع هائل في التعليم في الهند ، ولكنه لا يؤدي إلى تحسين مستوى التعليم، ما العمل؟” وأشار قائد مؤسسة أميركية بارزة في المؤتمر الأخير لبرنامج باكس (PACS) في جامعة ستانفورد إلى أن العمل الخيري الحالي يستنفد طاقة الناس، كيف يمكننا كسر هذه الحلقة المفرغة من حل المشاكل التي لا نهاية لها؟

لعلنا يجب أن نفكر في زيادة جهودنا، ولعل أحد الخيارات هو الاستثمار في الابتكار لإيجاد حلول أكثر فعالية. ثمة خيار آخر يتمثل في تخصيص المزيد من الموارد لتوسيع الحلول الحالية، التي يمكن أن تسفر عن نتائج مؤثرة. ولكن علينا التفكير ملياً في فكرة أن علينا معالجة مشكلة أعمق فيما يتعلق بعملية حل المشاكل.

المشكلة في حل المشاكل

الهدف الرئيسي من وجود العمل الخيري هو تحسين حياة الناس. ومع ذلك، تعالى بعض الانتقادات حول النهج الذي تتبعه المؤسسات الخيرية في حل المشاكل؛ قد تؤدي رغبتها في أن تولد الحلول المعقدة نتائج إيجابية فورية إلى تجنب المجازفة والتفكير على المدى القصير، وتنظر المؤسسات الخيرية الثرية إلى المشاكل من منظور التفوق العلمي والتكنولوجي والمالي غالباً، ويؤدي الاعتقاد بفكرة “نحن نعرف أكثر من الآخرين” إلى تفاقم تفاوت السلطة بينها وبين منفذي البرامج على المستوى المحلي، وتتعامل مع الفقراء بوصفهم متلقين سلبيين للحلول لا يؤدون أي دور نشط في هذه العملية. بالإضافة إلى ذلك، فإن شعار “الفشل السريع” قد لا يترك وقتاً كافياً للتفكير والتعلم، ما قد يؤدي إلى نقص المساءلة والشفافية، وذلك بدوره يزيد الآثار الجانبية الضارة للحلول الحسنة النية. يمكن أن يؤدي حل المشاكل المتفرقة إلى تشتت الجهود والتكرار وإهدار الموارد.

يمكن معالجة هذه المشاكل، لكن من غير المرجح أن تزيد فعالية عملية حل المشاكل، وأحد أسباب ذلك أن أساليب حل المشاكل تتجاهل غالباً آليات نشوء المشكلة التي تسبب استمرار ظهورها. ويتجلى ذلك في التقارير الإخبارية اليومية، التي تشير إلى أن مجتمعاتنا تولد مشاكل جديدة وقديمة بسرعة كبيرة تمنعنا من حلها. حتى الحلول “الناجحة” يمكن أن تحمل آثاراً جانبية سلبية تؤدي بعد ذلك إلى توليد مشاكل جديدة. ومن الأمثلة على ذلك التغير المناخي، الذي يعتبر أحد الآثار الجانبية غير المرغوب فيها للابتكار الرائع المتمثل في استخدام الوقود الأحفوري لتوليد الطاقة، كما أدى اختراع المضادات الحيوية المنقذ للحياة إلى توليد بكتيريا متحوّرة تقاوم تلك المضادات. والأسر المثقلة بالديون، والعنف ضد النساء الفقيرات، وإدمان الكحول، كلها من الآثار الجانبية لحلول التمويل الأصغر المبتكرة ذات النوايا الحسنة. تتطلب هذه الآثار الجانبية حلولاً إضافية عاجلة ومكلفة، ما يؤدي إلى دورة لا تنتهي من المشاكل والحلول.

من المؤسف أن إيماننا الأعمى بالحلول وقدرات التكنولوجيات الجديدة قد يدفعنا إلى اتباع سلوك متهور يخلق مشاكل جديدة. نميل إلى تمجيد المبدعين وحلولهم والتغاضي عن واقع أن المشاكل مؤشرات لقضايا أعمق، هذه العقلية إشكالية، لأنها تضعف دور المؤسسات الخيرية في مواكبة المشاكل ولا تعترف بإمكانية وجود عيوب جوهرية في نهجها.

وصف المفكر الرائد في مجال النظم والباحث في العمل المؤسسي، راسل أكوف، مخاطر عقلية حل المشاكل لأننا “نسير نحو المستقبل ونصب اهتمامنا على الماضي، فنبتعد عن الهدف بدلاً من التقدم نحوه. ويؤدي ذلك غالباً إلى عواقب غير متوقعة أسوأ من أوجه القصور التي نعالجها”. يشير أكوف إلى أن استجاباتنا للمشاكل الاجتماعية هي ردود فعل وليست مبادرات استباقية، ما الذي يتطلبه الأمر للتحول من منظور الحل المستند إلى التفاعل مع الماضي إلى العمل الخيري الاستباقي الموجه نحو مستقبل سليم لا يسبب الكثير من المشاكل؟

الجيل الثالث من الطب: الإلهام

يتمثل مستقبل الطب برأي الخبراء في إعطاء الأولوية للحفاظ على صحة الناس مدة أطول. على سبيل المثال، تمثل الرؤية الصحية الأخيرة للجمعية الطبية الأسترالية خروجاً عن تقليد ما يسمونه “رعاية المرضى” نحو رعاية صحية حقيقية.

يعد هذا التحول نحو الجيل الثالث من الطب خروجاً من الماضي، إذ أُنفقت تريليونات الدولارات على تطوير علاجات لكثير من المشاكل الصحية. كان الجيل الثاني من الطب شديد الانشغال بالسؤال الآتي: كيف يمكننا تطوير أفضل الحلول للمشاكل الصحية عبر الأدوية والعمليات الجراحية المتقدمة؟ وفي الوقت نفسه، يهدد هذا الجهد المُكلف الأنظمة الصحية ويرفع أسعار العلاجات المتقدمة إذ أصبحت بعيدة المنال بالنسبة إلى الملايين من الناس. يعطي الجيل الثالث من الطب الأولوية لرفع مستوى الصحة والحفاظ عليها لا لعلاج الأمراض، والهدف هو تعزيز الممارسات الصحية الوقائية مدى الحياة لزيادة المدة التي يقضيها الإنسان من عمره بصحة جيدة؛ أي عدد السنوات الخالية من الأمراض. لا يتوافق هذا النهج مع التركيز السائد في القطاع الطبي على إطالة العمر؛ أي الخروج من دورة الأمراض وعلاجها. يركز الجيل الثاني من الطب 2.0 نحو الماضي؛ أي الابتعاد عن المرض. ويركز الجيل الثالث من الطب نحو المستقبل؛ أي تعزيز الصحة والحفاظ عليها استناداً إلى رؤية “صفر أمراض” باعتبارها أساس الحياة المُرضية.

هل بوسعنا تطبيق هذه الرؤية على العمل الخيري؟ بوسع رؤية “صفر مشاكل” نقل القطاع بعيداً عن إعطاء الأولوية للتصميم والابتكار وتقديم الحلول لعدد لا يحصى من المشاكل الاجتماعية، لتسهم المؤسسات الخيرية بدلاً من ذلك في تشكيل السياقات الاجتماعية التي لا تتسبب في الكثير من المشاكل.

ملامح العمل الخيري الخالي من المشاكل

ثمة قول شائع مفاده أن “المؤسسات جميعها مصممة على نحو مثالي لتحقيق النتائج التي تحققها”، ولعل ذلك ينطبق أيضاً على السياقات والأنظمة الاجتماعية؛ يمكننا القول إن كل سياق اجتماعي مصمم على نحو مثالي لإحداث المشاكل التي يتسبب بها. هذا يعني أن المشاكل ليست طارئة ولا تحتاج إلى إصلاح كما لو كانت غير متوقعة، بل هي نتائج متوقعة لسياق اجتماعي معين؛ يجب أن نغير السياق نفسه كي نحقق نتائج مختلفة.

وفي حين يهدف العمل الخيري التقليدي إلى حل المشاكل، يستثمر العمل الخيري الخالي من المشاكل في بناء سياق سليم، ليضع الأساس لمستقبل يمكن للناس فيه أن يزدهروا بدلاً من مجرد إصلاح بعض مشاكلهم. توضح 3 أمثلة نهج العمل الخيري الخالي من المشاكل: يقدم المثال الأول رؤية نظرية لإعادة تصميم قطاع النقل ليصبح قطاعاً خالياً من المخاطر الصحية، ويوضح المثال الثاني خطوة وسيطة مهمة نحو القضاء على التشرد من خلال رؤية العمل الخيري الخالي من المشاكل، ويؤكد المثال الثالث فرصة المؤسسات لإنشاء سياق سليم يتيح ازدهار الناس والبيئة.

قطاع النقل: الرؤية صفر

يوضح اقتراح حديث يدعو لإعادة النظر في أنظمة النقل دور تبنّي رؤية خالية من المشاكل في توجيه القرارات التشغيلية والاستثمارية. يشكل قطاع النقل مشكلة معقدة تؤثر في العديد من جوانب الصحة، بما فيها السلامة والصحة النفسية وجودة الهواء والقدرة على الوصول إلى مراكز تقديم الخدمات. أشار الباحثون مؤخراً إلى أن الحلول التي اختبرناها على مر العقود الماضية، مثل وضع حدود صارمة للسرعة وقوانين حزام الأمان وتدابير مكافحة القيادة تحت تأثير الكحول، فشلت في تحسين العديد من الجوانب الإشكالية في مجال النقل. ما تزال الوفيات والإصابات الناجمة عن حوادث الطرق في الولايات المتحدة مرتفعة وتتجاوز مثيلاتها في معظم البلدان الأخرى ذات الدخل المرتفع، لذلك يقترح المؤلفون تحولاً نموذجياً نحو تبنّي فلسفة ثورية لنظام آمن، تسمى “الرؤية صفر” تهدف إلى تطوير نظام نقل سليم يقلل من مخاطر السلامة ولا يعيد خلق المشاكل القديمة نفسها. تدمج الرؤية التغييرات الأساسية في البرامج والسياسات لتحويل كل من عملية تعليم السائقين وتدابير السلامة في المركبات والطرق وتصميم الطرق في الأحياء السكنية. ومن شأن هذا النهج أيضاً أن يدمج على نحو منهجي قضايا اجتماعية واقتصادية، مثل المشاركة في الإسكان الميسور التكلفة ووسائل النقل.

التشرد: مبادرة بيلت فور زيرو (Built for Zero)

تقدّم مؤسسة كوميونيتي سلوشنز (Community Solutions) مصدر إلهام آخر للعمل الخيري الخالي من المشاكل، وهي مؤسسة غير حكومية أميركية تلتزم بإنهاء التشرد من خلال مبادرتها بيلت فور زيرو. نفذت المؤسسة حلولاً مبتكرة واسعة النطاق لمعالجة مشكلة التشرد على مدى عدة سنوات. وفازت بعدة جوائز لتحويل فندق تايمز سكوير في نيويورك إلى أكبر بناء سكني ميسور التكلفة في البلاد في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. تجاوز حجم هذا العمل حدود الممكن آنذاك، لكن تكرار هذا التحول في العديد من الفنادق الأخرى في نيويورك لم يخفض عدد المشردين. أطلقت مؤسسة كوميونيتي سلوشنز في عام 2010 حملة وطنية لتوفير السكن لـ 100,000 شخص بلا مأوى في غضون 4 سنوات. وعلى الرغم من تحقيق الهدف، كان على قادة المؤسسة وموظفيها الاعتراف على مضض بأنهم لم يحققوا أي تقدم كبير في الحد من مشكلة التشرد.

وفي عام 2015، حولت المؤسسة تركيزها من حل المشاكل إلى تعزيز سياق سليم لا يحدث فيه التشرد المستدام. تعمل مبادرة بيلت فور زيرو على توحيد جهود أصحاب المصالح في المجتمعات والمدن الكبيرة لتطوير لوحات متابعة متقدمة توفر معلومات فورية عن الأفراد المعرضين لخطر التشرد، وهذا يقترن بالقدرة على إيواء المتشردين الجدد ودعمهم على الفور. ووفقاً لمؤسسة كوميونيتي سلوشنز، يعيش الآن أكثر من 70 مليون إنسان في مجتمع حيث يبني القادة “واقعاً جديداً يندر فيه التشرد ولا يطول أمده إن حدث”. لم تستطع مبادرة بيلت فور زيرو القضاء على ظاهرة التشرد بالكامل حتى الآن، لكنها مُصمَمة على القضاء على المشكلة الاجتماعية المتمثلة في التشرد المستمر والمؤلم الذي يزعزع حياة الناس. لكن ما حققته المبادرة يعتبر إنجازاً مهماً في سبيل رؤية العمل الخيري الخالي من المشاكل. والمسألة التالية هي كيفية إعادة تشكيل أنظمة التعليم والرعاية الصحية والعدالة الجنائية والشركات التي تخذل الكثير من الناس وتشارك في التدفق المستمر لحالات التشرد الجديدة، لا يريد أحد أن يصبح بلا مأوى؛ تخيل استخدام التشرد مؤشراً على صحة المجتمع! يمكن أن توحد هذه الرؤية الجهود الخيرية الضخمة لإعادة تصميم أنظمتنا الاجتماعية الرئيسية جميعها وتوفير مقياس مُجدٍ لأدائنا.

مشاكل مجتمعية متعددة: التنظيم من أجل سياق سليم

شعر إبراهيم أبو العيش بالإحباط نتيجة العدد المتزايد من المشاكل ومعاناة الناس في وطنه مصر في السبعينيات. ولعجزه عن حل تلك المشاكل، أراد أن يبني عالماً موازياً للواقع في مصر بسياق سليم لا يخلق أغلب المشاكل القائمة، فترك منصبه الإداري الرفيع في النمسا واشترى أرضاً صحراوية شمال القاهرة وانتقل مع عائلته إليها. أراد أبو العيش تحويل الصحراء إلى بقعة سليمة تعزز مبادئ الاستدامة حيث يعيش الناس معاً في بيئة طبيعية بسلام. أطلق على مبادرته اسم سيكم وأنشأ مجموعة من المؤسسات التي تقدم اليوم مجموعة واسعة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية في بيئة جميلة وآمنة.

أحدثت خصائص مبادرة سيكم سياقاً محلياً سليماً يختلف على نحو لافت عن السياق المحيط حيث يعاني الناس مشاكل مصر العديدة، وتُعد المبادرة نموذجاً ملهماً لأفكار العمل الخيري الخالي من المشاكل، وهي مثال يثبت أن شخصاً واحداً لديه رؤية يستطيع أن يشارك بنجاح في بناء سياق سليم. نالت سيكم جائزة رايت لايفليهود (Right Livelihood Award) عام 2003 بوصفها نموذجاً للمؤسسة السليمة في القرن الحادي والعشرين.

تعزيز السياق السليم

يعود تطبيق مجموعة من المعايير لتقييم سلامة السياق بفائدة عظيمة، وقدّم عدة مفكرين إرشادات مفيدة في هذا الصدد.

يرى أمارتيا سن أن علينا تقييم السياق الاجتماعي بناءً على قدرته على منح الأفراد والمجتمعات الحرية والقدرة اللازمتين للحصول على الأشياء التي تهمهم في الحياة، وبالاعتماد على أفكار سن وآخرين، أنشأت مارثا نوسباوم نموذجاً توجيهياً أوضح لتقييم السياق السليم. سألتْ نوسباوم: “ما القدرات البشرية الأساسية التي يجب أن يوفرها السياق الاجتماعي ليتمكن الناس من عيش حياة كريمة يقررون مصيرهم فيها؟” حددت نوسباوم 10 قدرات أساسية يجب توفيرها بما يتجاوز الحد الأدنى. تشير هذه القدرات إلى جوانب مختلفة من الحياة، مثل القدرة على عيش حياة متكاملة ومرضية حتى سن الشيخوخة، وتشير إلى الصحة والسلامة البدنية والنفسية، مثل القدرة على استخدام الحواس والخيال والفكر والعواطف بما فيها المودة والتعبير عن الغضب المبرر. ويتضمن العيش بكرامة القدرة على التفكير على نحو عملي، والتواصل مع الآخرين والانتماء الاجتماعي، والاستمتاع بجمال البيئة الطبيعية، والحصول على فرصة للعب والضحك ضروري مثل القدرة على المشاركة في الحياة السياسية والدينية والتملك والمشاركة في العمل.

لا يخلو نموذج نوسباوم من العيوب، لكنه يبقى نقطة انطلاق ممتازة للتفكير في السياقات السليمة ويوفر إرشادات عملية لتطوير ممارسات العمل الخيري الخالي من المشاكل. تسلط القدرات العشر الضوء على مجموعة مهمة من المجالات للتعرف على طرق وضع القدرات الفردية في سياقها وتحديد أولوياتها وإشراك من يؤلفون السياق الاجتماعي المحلي ويشكلونه. يذكرنا هذا المنظور بضرورة أن نأخذ الحالات الفردية على محمل الجد، حتى عند العمل من أجل سياق سليم.

تنمية الفرد السليم في المجتمع

“علم النفس الإيجابي هو الدراسة العلمية لأسباب ازدهار الأفراد والمجتمعات”، وفقاً للجمعية الدولية لعلم النفس الإيجابي.

عند التركيز على سياق سليم، قد ننجرف نحو مزلق الشمولية الساذجة، وهي عقلية عديمة الفعالية وشائعة في تفكير الأنظمة، وبالنسبة إلى العمل الخيري الفعال الخالي من المشاكل، من الضروري مواءمة وجهات النظر الشاملة والسياقية مع وجهات النظر الجزئية والفردية، لأن تفكير الأنظمة يفترض بأن ما يهم هو العلاقات فقط وليس الأطراف، وهذا الافتراض ليس مفيداً للأنظمة الاجتماعية. يتجاهل التفكير الهيكلي البحت (الذي يركز على العلاقات) أهمية القدرات الفردية وكيف يمكن لسلسلة متواصلة من عمليات صناعة القرار البشرية أن تؤدي إلى تغيرات غير متوقعة في العلاقات.

كيف يختلف منظور العمل الخيري الخالي من المشاكل تجاه الأفراد عن العمل الخيري التقليدي؟ تنظر المؤسسات الخيرية إلى الأفراد المحرومين على أنهم مشاكل تحتاج إلى حلول، ولكن أبحاث علم النفس الحديثة تشجع على اتباع نهج أقل تركيزاً على العجز. يرى أنصار حركة علم النفس الإيجابي أنه ينبغي ألا “نحصر تعريفنا للفقراء بفقرهم، ولا يمكن محاولة فهمهم من خلال مصطلحاته وحدها”. ينطلق العمل الخيري الخالي من المشاكل، مثل علم النفس الإيجابي، من افتراض أن الفقراء يتمتعون بالعديد من السمات الإيجابية مثل الحكمة والصدق والشجاعة والمثابرة، ويوفر افتراض السمات والعواطف الإيجابية مثل الفرح والحب والألفة والأمل فرصة لبناء أفكار ورؤى بنّاءة حول المستقبل. يشبه هذا النهج التحول في علم النفس من العلاجات القديمة التي تركز على القضاء على المشاعر السلبية وصراعات الماضي الداخلية إلى التركيز الموجه نحو المستقبل على العوامل التي تشكل أقوى أساس لبناء حياة مُرضية وتحديد أهداف جديدة. يُبنى العديد من المؤسسات ممارسات قائمة على مواطن القوة أو الأصول بدءاً من تنمية المجتمع في جزر سليمان
إلى العمل مع المشردين والمحرومين في المملكة المتحدة،

وكما هي الحال مع نموذج نوسباوم للسياق السليم، فقد طور الباحثون مناهج شاملة تنطبق على الأفراد. يُعد كتاب “الأصول التنموية” (Developmental Assets) من أكثر الأطر تأثيراً لتعزيز التنمية الإيجابية للشباب. يحدد الإطار 20 أصلاً خارجياً و20 أصلاً داخلياً تشكل كلها لبنات بناء أثبتت فعاليتها بقوة في تحقيق تنمية سليمة تمكّن الشباب من الازدهار. تشمل الأصول الخارجية تلك المتعلقة بالدعم (مثل الذي تقدمه أسرة الفرد أو الحي الذي يقدم الرعاية)؛ والتمكين (مثل تقدير المجتمع للشباب أو توفير الشعور بالأمان)؛ والحدود والتوقعات (مثل القواعد المدرسية الواضحة والصريحة أو التي يفرضها البالغون الذين يمثلون قدوة)؛ والاستخدام البناء للوقت (مثل قضاء الوقت في الأنشطة الإبداعية أو الرياضة أو الأنشطة الدينية). وتشمل الأصول الداخلية الالتزام بالتعلم (مثل تعزيز مصادر التحفيز وتطوير الروابط الإيجابية مع المدرسة)؛ والقيم الإيجابية (مثل تطوير أسلوب الرعاية والنزاهة والمسؤولية)؛ والكفاءات الاجتماعية (مثل مهارات التخطيط وصناعة القرار أو الكفاءة الثقافية)؛ والهوية الإيجابية (مثل إيمان الفرد بأنه يتحكم بمصيره وتقديره لذاته وأهدافه). وقد تبنّت آلاف المجتمعات والمدارس هذا الإطار، ويرى الباحثون أنه يمكن “تطبيقه في أي مدينة أو ولاية أو دولة بوصفه مجموعة من العناصر الداعمة المهمة من الناحية التنموية والسلوكية لجميع الشباب بصرف النظر عن العرق أو الانتماء الإثني أو تكوين الأسرة أو النوع أو درجة تعلم الوالدين أو الموقع الجغرافي. لذلك، يمتلك نموذج الأصول القدرة على إحداث نوع من الرؤية المشتركة التي يمكن أن تقلل الأساليب المتفككة والمنعزلة التي تعوق التعاون والتآزر”. كما يذكّرنا كتاب “الأصول التنموية” أن الأفراد السليمين والسياق السليم يتطورون معاً في العمل الخيري الخالي من المشاكل.

مسار التقدم

هل سبق لك أن فكرت في التأثير المحتمل للعمل الخيري الذي يهدف إلى خلق سياق سليم؛ أي أنظمة اجتماعية سليمة؟ عندما سألت أنا وزملائي مجموعة من قادة المؤسسات الاجتماعية والتنموية الكبرى إذا ما كانوا يفكرون في تبني هذه الممارسات الخيرية التي تركز على الأنظمة داخل مؤسساتهم، أجاب الكثير منهم أن هذه الممارسات لن تتناسب مع هياكلهم وعملياتهم التنظيمية الحالية التي تركز على حل مشاكل ملموسة.

من الضروري معرفة التغييرات المهمة المطلوبة في الافتراضات والمواقف، والاستراتيجيات والإجراءات التنظيمية، وتقييمات التقدم، والحاجة إلى الاستمرار في التدبّر والتعلم والتكيف. قد يواجه العديد من المؤسسات الخيرية صعوبة في تحديد الممارسات المطلوب اعتمادها وتجنب إجراء تغييرات مؤقتة غير مدروسة عبر استراتيجية شاملة. في الوقت نفسه، تبشّر عدة ممارسات تتبناها المؤسسات الخيرية بإمكانات حقيقية تشكل عناصر مهمة في العمل الخيري الخالي من المشاكل، مثل تقديم المنح التشاركية، والعمل الخيري الشامل، والتنمية المستندة إلى الأصول المجتمعية. تقدم هذه الممارسات قدرات كبيرة للمحرومين والمضطهدين وتوسع بدرجة كبيرة مجموعة الفرص المقيدة والمحددة مسبّقاً التي توفرها لهم ممارسات حل المشاكل التقليدية. المؤسسات الخيرية الخالية من المشاكل التي ترتكز على بناء سياق سليم ونماذج سليمة، مثل التي اقترحتها نوسباوم وكتاب الأصول التنموية، مرشحة لأن تكون دعامات استراتيجية فعالة لتعزيز مجموعة من الممارسات. هذه الأطر الشاملة المشتركة ضرورية لتنسيق العمل بين الشركاء في هذه الجهود والاتفاق على معايير تقييم التقدم. سيشكل إحداث سياق سليم والعمل انطلاقاً من رؤية مستقبل خالٍ من المشاكل نهجاً طموحاً لمعالجة بعض عيوب العمل الخيري ولمساعدة المجتمع على توجيه تركيزه نحو مستقبل إيجابي.

أريد أن أقدم تحذيراً واضحاً. يدرك الكثير من الناس أننا بحاجة إلى تفعيل الجيل الثالث من الطب لمواجهة الأزمة الصحية العالمية المستمرة، لكننا بعيدون جداً عن تطبيقه على أرض الواقع. فالنظام الطبي الذي يركز على علاج المرض والعجز يبدي مقاومة قوية، وكما الطب، العمل الخيري بحاجة ماسّة إلى رؤية جديدة ترتكز على منع ظهور المشاكل، وليس مجرد تقديم حلول لها. لا يمكننا الاستمرار في العمل كالمعتاد، فتدهور حالة هذا الكوكب تذكير قوي بأن مسارنا الحالي غير مستدام، ومن المؤسف أن الطموحات الحالية المتعلقة بالأعمال الخيرية الكبيرة وتغيير الأنظمة تبدو كأنها تعمل فقط على تعزيز أساليبنا التقليدية. آمل أن يشارك العديد من القرّاء في العمل الصعب والحاسم المتمثل في معرفة كيفية تحقيق رؤية العمل الخيري الخالي من المشاكل!

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.