تحويل المزارعين إلى مجتمع معرفي: تجربة الواحة الثقافية بالعلا

3 دقيقة
بناء مجتمع معرفي للمزارعين
(مصدر الصورة: الهيئة الملكية لمحافظة العلا)

إن التزام الدول والحكومات والمؤسسات بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، يفتح باب الفرص أمام قطاعات واعدة تخلق قيمة اقتصادية مضافة، وتسهم في الحفاظ على البيئة وتنوعها. وفي المملكة العربية السعودية تكشف رؤية 2030 عن دور السياحة الثقافية في تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين الأنماط المعيشية وتكريس نمط الحياة الثقافي.

وتُعد الواحات الثقافية (Cultural Oases) من أهم المقومات التي تمتلكها المملكة في هذا المجال، لأنها تمثّل حالة من التفاعل الاجتماعي مع العناصر الثقافية للمكان، وتأتي في مقدمة هذه الواحات "الواحة الثقافية للعلا"، إذ تعكس الموروث الثقافي والطبيعي للمنطقة الغنية بالإرث الحضاري والتاريخي، وهو ما أسهم في استحقاق محافظة العلا للحصول على جائزة "أفضل مشروع للسياحة الثقافية في الشرق الأوسط لعام 2023" من جوائز السفر العالمية.

يرتبط معظم النشاط الاقتصادي في الواحات بالزراعة، لذا اعتمدت الهيئة الملكية لمحافظة العلا رؤية شمولية لتطوير النشاط الزراعي في الواحة، تشمل سلاسل القيمة المتكاملة وتدريب المزارعين وتعزيز كفاءتهم، وتبنّي الممارسات المستدامة، وربط المنتجات بالأسواق.

ولتنفيذ هذه الرؤية، أسست الهيئة مركز الواحة الثقافية وذراعه التعليمي والبحثي، المتمثل في معهد الواحة الزراعي، بهدف الحفاظ على الواحة وتجديدها، الذي سيعمل على تمكين المزارعين من تطوير أدواتهم وتحسين أعمالهم عبر دمج الإنتاج الزراعي في السياحة وبناء شبكة اجتماعية بين أجيال من المزارعين لتبادل المعرفة، إضافة إلى تطوير الفرص الاقتصادية والاجتماعية.

وأتناول في مقالي تجربة المركز في تحويل منطقة الواحة الثقافية إلى مجتمع للمتعلمين (Community of Learners)، وتأتي أهمية التركيز على هذا الجانب من دور الأفراد العاملين في القطاع وضرورة مشاركتهم في عملية صناعة القرار في إحداث أثر حقيقي في السياق الذي يتفاعلون معه، والحفاظ على التراث الزراعي والطبيعي بما يتيح للأجيال المقبلة التعاقب على حماية الواحة وإدارة كنوزها الزراعية.

ويقودني ذلك إلى مفهوم الابتكار البيوثقافي (البيولوجي الثقافي) الذي يركز على أنظمة المعرفة للمجتمعات الأصلية والمحلية، وتطبيقها لتحسين رفاهة الأجيال المقبلة مع الحفاظ على البيئة. ينطلق هذا المفهوم من طبيعة المكان وارتباط السكان به ومعرفتهم بالنظم البيئية الطبيعية التي عايشوها لعدة قرون، وهو ما يؤكد أهمية دور المزارعين في رعاية المحيط البيئي وضرورة التركيز على خلق مناخ تعليمي متطور يعزز معرفتهم باستمرار من أجل مواكبة المستجدات الحديثة.

ولدينا في الهيئة ثوابت ومرتكزات أساسية لدعم الأهالي في السياق الريفي، وذلك لأهمية تحقيق مستهدفات الواحة الثقافية، ما يضعها اليوم أمام أكبر مشروع على مستوى العالم في إعادة تأهيل الواحات الثقافية وتجديدها.

وتعتمد الهيئة الملكية لمحافظة العلا على 4 معطيات في بناء مجتمع للتطوير داخل الواحة:

1. العمل التشاركي: تراعي الجوانب المعمارية لمنطقة الواحة ضرورة ربط الإنسان بالإنسان من جهة وتحقيق تواصل فعال بين الإنسان والأرض من جهة أخرى. وتدعم هذه الجوانب على نحو فعّال مساعينا في تعزيز مفاهيم العمل التشاركي بين مجاميع المزارعين باعتبارهم ناقلين للمعرفة والخبرة.

إذ يسهم انكشاف المزارع في منطقة الواحة الثقافية بعضها على بعض وخلوها من أي أسوار تفصل بينها، في خلق نوع من التعلم البيني في مجتمع المزارعين، ما يمكّنهم من التشارك معاً في إدارة مزارعهم والتقليل من حالة العزلة أو الإدارة الفردية للمزرعة، ويعزز أيضاً التعايش بين الأجيال المتعددة من المزارعين وبناء جسور من المعرفة والتعلم بينها.

2. التعلم الجمعي: يساعد النظر إلى التعلم من منظور جماعي في الحفاظ على نظام عمل موحد خالٍ من أي تفاوتات أو اجتهادات شخصية يمكن أن تضر بعمل المنظومة ككل، لذا طور المركز دليلاً إرشادياً يتعلق بعملية الزراعة التجديدية (Regenerative Agriculture) التي تشجع المزارعين على الاحتكام إليه عند إدارة مزارعهم، مع وجود حيز من المرونة يسمح لكل مزارع بالتعاطي مع مزرعته بطريقة تميزها عن غيرها في حدود معينة.

يسهم هذا النهج في إدارة المزارع وفق معايير محددة وتحصينها من الاجتهادات الشخصية التي يمتد تأثيرها السلبي إلى كامل السياق الذي تقع فيه المزرعة.

3. التركيز على بناء القدرات: إن التركيز على التدريب الفني (Vocational Training) في التعليم وحده، يعوق الاستفادة من المعرفة الحديثة ومواكبة التغيرات التي تطرأ على شكل النشاط الزراعي وطبيعته بفضل التعليم والبحث والابتكار.

لذا تنبّه المركز لضرورة رفع كفاءة المزارعين من خلال الجمع بين التعليم والبحث والابتكار، والتركيز على الجانب العملي من رحلة التعلم من خلال تحويل مزارع الواحة إلى معمل حي للبحث والتجربة والاختبار وتطوير نماذج جديدة للزراعة المستدامة دون الإخلال بالحالة الطبيعية للواحة ومقوماتها الأساسية.

وتسعى الهيئة من خلال برامج بناء القدرات إلى إطلاع المزارعين باستمرار على كل الممارسات الحديثة والمهمة فيما يتعلق بالمحاصيل والري والتكامل بين الجانبين الزراعي والحيواني في المزارع.

4. المشاركة في البحوث: تساعد الدراسات والأبحاث على تصميم التجارب لاختبار فعالية الممارسات الزراعية المختلفة وتنفيذها، فمن خلال جمع البيانات المتعلقة بجودة التربة والظروف المناخية وأداء المحاصيل وإدارة الآفات وتحليلها، يمكن تحسين إنتاجية المحاصيل، أو تطوير أصناف جديدة من المحاصيل، أو تعزيز تربية الماشية مثلاً.

ومن هنا تأتي أهمية وضع المزارعين في صميم عمليات البحث الزراعي والمائي، إذ تشير الأبحاث إلى أنه عندما يشترك المزارعون والباحثون في بناء المعرفة من خلال التجارب في المزرعة (On-Farm Experimentation. OFE)، فيمكن أن يخلق هذا تأثيراً دائماً وهادفاً على ربحية المزرعة واستدامتها.

وبالتالي، يعتمد المركز على المزارعين في الحصول على البيانات الأولية (First-hand Data) اللازمة لإجراء البحوث العلمية، وهو ما يمثّل شكلاً من أشكال تحويل المزارعين إلى مصدر للمعلومة والمعرفة.

وبالنظر إلى المعطيات الأربعة السابق ذكرها، نجد أن مركز الواحة الثقافية لا يقتصر دوره هنا على إعادة المزارعين للواحة فقط، بل يتجاوز ذلك إلى تمكينهم في قلب مفهوم التنمية المسؤولة، والتعامل معهم باعتبارهم المورد الأساسي لإعادة تأهيل الواحة وتجديدها على نحو مستدام.

المحتوى محمي