السعادة والاستدامة حاجتان أساسيتان تسعى الدول لتحقيقهما، ولا شك أن رفاهية الأمة ترتبط بسعادة شعبها. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت المساواة بين السعادة والمال، وبات الناتج المحلي الإجمالي أساساً لتصنيف الدول الأكثر سعادة، وأصبح نجاحها قابلاً للقياس.
أمام التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم؛ تظهر حاجة ملحة إلى اعتماد مكونات أخرى بيئية واجتماعية في رفاه الدول وسعادتها، والبحث عن آلية لتكون الدول سعيدة ومستدامة في آنٍ معاً. أكدت دراسة أجراها الباحثون من الإمارات ومصر يمنى سمير، وسوزانا المساح، وشاريلوس ميرتزانيس، ولجين المغربي بعنوان: هل الدول السعيدة أكثر مسؤولية؟ فحص الارتباط بين السعادة والاستدامة، الارتباط الإيجابي بين السعادة والاستهلاك والاستدامة والسلوك المسؤول، وبالاعتماد على بيانات مجمعة من 152 دولة لتحليل العلاقة بين السعادة والاستدامة، تبين أنه يمكن للسلوكيات الصديقة للبيئة أن تسير بالتوافق مع السعادة.
وتوصلت الدراسة إلى أن الدول الأقل سعادة، مثل جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وليبيريا، يحققون أقل تقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأن البلدان التي على درجة عالية من السعادة، يتصرف سكانها بمسؤولية تجاه المجتمع أو البيئة؛ فدول مثل أيسلندا وأستراليا وسنغافورة، تتبنى مواقف أقوى لإعادة التدوير، في حين أن الدول ذات معدل سعادة منخفض، مثل توغو وسوريا وبوتسوانا، تنتشر فيها ثقافة إعادة التدوير بمستوى أقل.
الدول السعيدة أكثر وعياً بالسلوك المسؤول
تُظهر الأدلة أن البلدان السعيدة تميل إلى الاستهلاك أكثر، لكن يمكنها أيضاً أن تكون أكثر وعياً بشأن الاستدامة والسلوك المسؤول، وتسلط دراسة بريطانية بعنوان: أهداف التنمية المستدامة ورفاه الإنسان: تحليل عالمي لأوجه التآزر والمقايضات والاختلافات الإقليمية (The SDGs and Human well-being: A Global Analysis of Synergies, Trade-offs, and Regional Differences) أن التقدم نحو تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، له علاقة إيجابية بالرفاهية، والبلدان التي حصلت على درجة أعلى في مؤشر أهداف التنمية المستدامة، تميل إلى أداء أفضل من حيث الرفاهية الذاتية.
تتعرض رفاهية مواطني الدول الغنية للركود ما لم تعمل على زيادة النمو الاقتصادي بطرق أكثر استدامة، وترتبط هذه الرفاهية إيجابياً بالتدابير البيئية طويلة الأجل التي تتخذها هذه الدول؛ فدول مثل كندا والمملكة المتحدة ذات معدل استهلاك مرتفع، تكون أكثر سعادة من الهند والصين ذات الاستهلاك المنخفض للفرد.
ويمكن تفسير هذه العلاقة جزئياً من خلال التنمية الاقتصادية؛ إذ تميل البلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي الأعلى إلى زيادة الاستهلاك، وهو ما يرتبط بمستويات معيشية أعلى، ومع ذلك، يبدو أن الاستهلاك المنخفض للفرد يتعلق بالأشخاص الأقل سعادة.
تُعد ألمانيا من الدول التي حافظت على الرفاهية و الاستهلاك المستدام وخفض الانبعاثات، واستثمرت بكثافة في البنية التحتية للطاقة المتجددة، ووفرت وظائف خضراء، ففرض ضرائب على انبعاثات الكربون وحوافز اعتماد الطاقة المتجددة، إضافةً إلى السياسة الاجتماعية الطموحة، سمح بالانتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري، دون تكبّد الأسر منخفضة الدخل بفواتير طاقة أعلى، بالمثل، تُصنف كوستاريكا ضمن أفضل البلدان للاستثمار في الطاقة المتجددة بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتزمت بتحقيق الحياد الكربوني بدءاً من عام 2021.
المعنى الكامن وراء السعادة والاستدامة
ما تعريف السعادة؟ عند التعمق بهذا السؤال، ننجذب نحو حالة السعادة، وما تحمله من كلمات مثل القناعة والسرور والرضا والبهجة. تُعرِّف الباحثة في علم النفس الإيجابي سونيا ليوبوميرسكي (Sonja Lyubomirsky) السعادة بأنها الرفاهية الذاتية، وفي كتابها الصادر عام 2007 بعنوان: كيفية السعادة: نهج جديد للحصول على الحياة التي تريدها (The How of Happiness: A New Approach to Getting the Life You Want)، تصف السعادة بأنها تجربة الفرح أو الرضا أو الرفاهية الإيجابية، إلى جانب الشعور بأن حياة المرء جيدة وذات مغزى وجديرة بالاهتمام، ومن هذا التعريف يمكن الاعتماد على صفة "ذات مغزى" لربط السعادة بالاستدامة.
تعني الاستدامة الترابط بين العمليات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تحدد الرفاهية ولا يمكن أن يكون سلوك المرء مستداماً دون النظر في هذه الركائز الأساسية الثلاثة، على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي بعض الممارسات الخاطئة المرتبطة برفاهية الفرد مثل الاستمتاع بقيادة سيارة تعمل بالوقود الأحفوري، أو تزيين شجرة مقطوعة من الغابة، إلى أضرار مناخية.
وحول ممارسة السعادة المستدامة، طرحت كاثرين أوبراين (Catherine O’Brien)، مؤلفة كتاب التعليم من أجل السعادة المستدامة والرفاهية (Education For Sustainable Happiness and Well-Being)، مثالاً عن صناعة القهوة، إذ يجب على الأشخاص التأكد من زراعة البن بطريقة صديقة للبيئة، وتوفر شروط عمل صحية وملائمة للعاملين في هذه الصناعة.
دمج التنمية المستدامة في رفاهية الإنسان
ترتبط السعادة ارتباطاً وثيقاً بأهداف التنمية المستدامة المرتكزة حول خلق عالم أفضل للجميع، وتميل البلدان التي تتمتع بدرجة أعلى ضمن مؤشر التنمية المستدامة إلى أداء أفضل في الرفاه والاستقرار.
السعادة ليست هدفاً سهلاً ولكنها استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة، لذا تحتاج الحكومات إلى الابتعاد عن الأساليب التقليدية لقياس النمو والتنمية واعتماد مقاييس الرفاهية والسعادة. على سبيل المثال، تتبنى نيوزيلندا ميزانية الرفاهية التي تعطي الأولوية للإنفاق لرفع مستويات السعادة في مجتمعها، وفي عام 2016، أطلقت دولة الإمارات البرنامج الوطني للسعادة وجودة الحياة، بهدف جعل الدولة ضمن أسعد خمس دول في العالم، فيما تقيس بوتان، الواقعة جنوب آسيا، سعادة شعبها بمقياس السعادة الوطنية الإجمالية (Gross National Happiness Index)، الذي أطلقه الملك الرابع لبوتان، جيغمي وانغتشوك (Jigme Wangchuck) لأول مرة عام 1972، معتبراً أن السعادة الوطنية الإجمالية أهم من الناتج المحلي الإجمالي.
تعتمد قوة الارتباط بين السعادة والاستهلاك والاستدامة وإعادة التدوير، على الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في الدولة، وهذا يعني أن التدخلات الاجتماعية والسياسية تؤثر إلى حد ما في السعادة القائمة على اعتبارات الاستدامة.
يمكن أن يُعطي التوازن بين السعادة والقيم النقدية الملموسة مغزى لحياة الأفراد، ولتحقيق هذا التوازن يجب تثقيف الناس حول كيف يمكن أن يكونوا مواطنين سعداء ومسؤولين. بحسب نظرية السلوك المخطط (Planned Behavior Theory)، فإن السمات الشخصية تنعكس وتتفاعل مع معتقدات المجتمع بطرق يمكنها تحفيز الأفراد لاتخاذ خيار محدد، لذا، يمكن أن تؤدي السعادة غير المرتبطة بالاستدامة إلى سلوك غير مسؤول، بينما الاستهلاك الذي يوازن بين السعادة والاستدامة، سيقود إلى قرارات مسؤولة وحكيمة.
ختاماً، إجراءات اليوم ستؤثر بلا شك في مستقبل الدول، ويتطلب الربط بين السعادة والاستدامة التوعية بالمكونات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتحقيق التماسك بينها لخلق عالم أفضل.
هذا المقال نُشر بناءً على أبحاث من منصة "ساهم".