كيف بإمكان القطاع الخيري التنموي بناء القدرة الإنتاجية في المجتمع؟

القطاع الخيري التنموي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ما أكثر المسارات فعالية نحو الازدهار؟ وكيف يمكن للمؤسسات الخيرية تمويلها؟ الجواب التقليدي بالنسبة لغالبية المؤسسات الأميركية هو التركيز على مجالات محددة، مثل مشاريع مكافحة الملاريا، أو تحسين نسبة الالتحاق بالمدارس، أو توفير مياه صالحة للشرب. وجّهت المؤسسات الأميركية ما يقرب من نصف تبرعاتها العالمية إلى قطاع الصحة بين عامي 2016 و2019، في حين كان نصيب كل من البيئة وحقوق الإنسان ما يقرب من 11% منها، يليهما كل من الزراعة والتعليم.

ثمة العديد من الأسباب التي تدفع المؤسسات إلى تنظيم تبرعاتها على هذا النحو، فقد تشعر أن مواردها المحدودة لا تكفي إلا لمعالجة مشكلات ذات نطاق محدود، أو ترغب في أن تتمكن من ربط نتائج محددة بتمويلها، وقد يكون لديها اهتمام أو ارتباط خاص بقضايا اجتماعية معينة. حققت البشرية مكاسب غير مسبوقة في عدة مجالات مثل الصحة والتعليم، وللأعمال الخيرية فضل في ذلك إذ تساعد الناس على تأمين المزيد من هذه الاحتياجات الأساسية. لكن ثمة حدود لقدرتنا على تحسين رفاهية الإنسان في حال لم تتحسن ثروة البلاد برمتها؛ فمن الجيد تقديم قوارب أفضل، لكن ما نحتاج إليه هو ارتفاع المد الذي يستطيع حملها.

وفي هذا السياق، يتجاهل العديد من المؤسسات التنموية الخيرية الدولية أفضل طريق إلى الازدهار: الوظائف المنتجة ضمن اقتصاد مزدهر. تاريخ التجارب السابقة واضح في هذا الصدد، إذ لم يكن انخفاض معدل وفيات الأطفال في الدول النامية بنسبة 70% بين عامي 1950 و2018 مستبعداً استناداً إلى زيادة الدخل التي حققتها تلك الدول خلال تلك الفترة. ولا يختلف الوضع
في مجالات التعليم والصحة والتغذية والإسكان والسلامة العامة، فوفقاً للقوة الشرائية، لا توفر الدولة التي تبلغ حصة الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي ما يقرب من 3,000 دولار (مثل نيبال أو أوغندا أو زامبيا) لشعبها الحاجات الأساسية بالفعالية نفسها التي توفرها الدولة التي تبلغ حصة الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي ما يقرب من 6,000 دولار (مثل بليز أو قيرغيزستان أو فييتنام). ولا تتسع هذه الفجوة إلا عندما ننظر إلى الدول التي يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها 6,000 دولار.

وعلى الرغم من أن غالبية مؤسسات التمويل التنموي تعمل في دول مرت بتحولات اقتصادية على مستوى أنظمتها -ما يمكنها من تجميع الموارد الخيرية- فهي تركز على الأفراد بوصفهم متلقين للخدمات أو مستهلكين لها، وليس بوصفهم عمالاً منتجين في اقتصاد متنامٍ ومتنوع. وعلى الرغم من فوائد دعم السكان في الدول المنخفضة الدخل للحصول على تعليم أفضل وخدمات صحية أفضل ومياه أنظف، فقدرتها على تقديم الدعم ستظل محدودة من دون توافر موارد مالية أكبر في متناول أيديها.

تاريخياً، لم تتوافر هذه الموارد بالفعل إلا عندما تمكنت الدول من زيادة الإنتاجية والفرص الاقتصادية زيادة هائلة، وفي غياب هذا النوع من التحول الاقتصادي الواسع النطاق، لن يتمكن السكان في الدول النامية من تحسين حياتهم إلا بدرجة ضئيلة. يمكن للجهات الممولة تمكين السكان بفعالية للمشاركة في مجتمعاتهم بطريقة تحفظ كرامتهم، من خلال اعتبارهم منتجين للسلع والخدمات التي يمكن بيعها لبقية دول العالم.

حتى المؤسسات الخيرية المعنية بالقضايا الاقتصادية المتعلقة بالوظائف والدخل تتجنب المشكلة الأساسية المتمثلة في تعزيز القدرات الإنتاجية للاقتصاد. فالبرامج الزراعية تركز غالباً على تحقيق الأمن الغذائي بدلاً من التركيز على تحقيق مكاسب إنتاجية، على الرغم من أن الدول لم تحقق الازدهار تاريخياً “عبر المشاريع الزراعية الصغيرة”. وعلى الرغم من الانتشار الواسع لريادة الأعمال في جميع أنحاء العالم، فإن “ريادة الأعمال من أجل البقاء” السائدة في الدول النامية اليوم، التي لا تتيح للناس سوى إدارة مشروعات صغيرة وجني ما يكفي للبقاء، لم تكن تحويلية على مستوى الدولة. قد تؤدي برامج سبل العيش وبرامج ما بعد التخرج الأجدى من حيث التكلفة، التي تتألف من مزيج من التحويلات النقدية وتحويل الأصول والتدريب، إلى زيادة في الدخل والاستهلاك تتراوح نسبتها من 15% إلى 150%، وهو أمر مشجع، لكن هذه الأرقام ما تزال بعيدة كل البعد عن الزيادة بمقدار 10 أو 20 ضعفاً في الدخل التي من شأنها أن تضع العديد من الدول على مسار حقيقي نحو الازدهار، وهو الفارق بين أن تكون غنياً في النيجر (بدخل يبلغ 5 دولارات في اليوم) وأن تكون غنياً في النرويج (بدخل يبلغ 111 دولاراً في اليوم). فحالة الفقير في النرويج الذي يكسب 33 دولاراً في اليوم أفضل 6 مرات من حالة الغني في النيجر. في هذا السياق، هناك حد أقصى لما يمكن أن يحققه التدريب المهني أو غيره من الإجراءات التدخلية في مجال العرض والطلب على العمالة، لأن الوظائف الجيدة نادرة (أي الطلب على العمالة ضعيف).

من الاستهلاك إلى الإنتاج

يتعين علينا أن ننظر إلى المشكلة من زاوية أخرى، فالرؤية من منظور الاستهلاك توجهنا نحو خط فقر تعسفي ومنخفض إلى حد غير مقبول وفقاً للمعايير الغربية. ما يحوّل انتباهنا بعيداً عن التحدي الأساسي المتمثل في بناء إنتاج ذي قيمة عالية، الذي تعلم الدول النامية أنه الوسيلة الرئيسية لازدهارها.

في عالم المؤسسات الاجتماعية والاستثمار المؤثر، يمكن أن يُعزى الاعتماد على إطار “الفرد المستهلك” إلى كتاب الخبير براهالاد الشهير “الثروة في قاع الهرم” (The Fortune at the Bottom of the Pyramid) الذي نُشر عام 2004 وأعاد تصوير الفقراء فيه على أنهم مستهلكون. إن تأكيد أن فقراء العالم يمثلون سوقاً استهلاكية ضخمة -وهو المفهوم الأساسي الذي عزز الكثير من مجالات الأعمال الخيرية والابتكار الاجتماعي- لم يَعِد الفقراء بمنتجات أكثر وأفضل فحسب، بل وعد أيضاً بقدر أكبر من الكرامة عبر معاملتهم بوصفهم عملاء. وفي حين أن التحول من مستفيد خامل إلى عميل فاعل يعزز قدرة الفرد على اتخاذ القرار والتحكم بخياراته، تفترض هذه العقلية مسبّقاً أن الفقراء سيبقون فقراء في المستقبل المنظور؛ والهدف ببساطة هو زيادة قوتهم الشرائية إلى مستويات عالية لكنها تبقى ضمن حدود الدخل المنخفض.

هذا لا ينفي فوائد تحسين السلع والخدمات المقدمة للفقراء، فمثلاً أدى انتشار الإضاءة التي تعتمد على الطاقة الشمسية بدلاً من الكيروسين وغيره من أنواع الوقود الضارة بالبيئة إلى زيادة جودة أداء الإضاءة بمقدار 3 – 12 مرة وبتكلفة شهرية أقل، وهو تحسن كبير في الكفاءة بالنسبة للأسر الفقيرة (بالإضافة إلى الفائدة الصحية وسهولة الاستخدام). وبالمثل، أتاحت موزعات الكلور المنخفضة التكلفة توفير مياه الشرب النظيفة بتكلفة تقريبية تبلغ دولاراً واحداً فقط للفرد في العام، وبالتالي تحقيق نتائج صحية أفضل لملايين الناس، وذلك ليس بالأمر الهيّن.

صحيح أن كرامة العميل أفضل من كرامة متلقي المساعدات، لكن ألن تكون الكرامة أفضل عندما يكسب المرء رزقه بنفسه ويكون قادراً على استخدام موارده المالية المتنامية لاستهلاك سلع وخدمات أكثر وأفضل؟ عندما لا نرى الناس في الدول النامية مجرد مستهلكين للسلع والخدمات، بل أشخاصاً ينبغي لهم الإسهام بفعالية في الحركة الاقتصادية وقادرين على ذلك، سنكون قادرين على رؤية نقاط التأثير ذات الأهمية. تشكل القدرة على إنتاج سلع وخدمات أكثر تطوراً وتنوعاً تلبي الطلب في دول أخرى أساس قدرة الدولة على التقدم اقتصادياً. يتطلب تحقيق ذلك مجموعة متنوعة من العوامل، مثل الأرض والبنية التحتية المتنوعة، والمواد الخام، والسياسات والقوانين الناظمة، والآلات والتكنولوجيا، والأهم من ذلك معرفة توظيف هذه العناصر جميعها لخدمة الإنتاج.

ويشكل ذلك معضلة كبيرة، إذ لا تمتلك الدول النامية موارد مالية كبيرة لتوظيف تلك العناصر، والموارد المالية الكبيرة لن تأتي إلا بعد توظيفها. لحل هذه المعضلة، يتعين على الدول النامية معرفة ما يمكنها إنتاجه بطريقة تنافسية في ظل وضعها الراهن ومعرفة العناصر اللازمة، ويتحقق ذلك على أفضل وجه عبر الشركات التي تتولى عملية الإنتاج. خصصت عدة دول شهدت انطلاقة اقتصادية سريعة في القرن العشرين (وبخاصة في آسيا) قدراً كبيراً من الاهتمام والموارد للتعلم داخل الشركات، الأمر الذي مكنها من المنافسة دولياً وبالتالي تحقيق مكاسب سريعة في الرفاهة المادية.

التمويل لدعم الإنتاج

بوسع قطاع الأعمال الخيري أن يحفز الاهتمام بالإنتاج. أولاً، ينبغي للمؤسسات الممولة تقديم دعم أكبر للجهات الفاعلة التي تعمل مباشرة على رفع القدرات الإنتاجية للدول النامية؛ أي أن تموّل تغيير الأنظمة الاقتصادية بعبارة أدق. يعمل بعض هذه الجهات الفاعلة على نحو فردي، مثل مؤسسة غاتسبي آفريكا (Gatsby Africa) ومؤسسة فادفاني أدفانتدج (Wadhwani Advantage). ثمة أدلة قوية تشير إلى إجراءات تدخليّة واعدة لم تتوسع بعد، مثل دعم الشركات في تطبيق ممارسات الإدارة وتسهيل الصادرات، التي من شأنها أن تشجع إنتاجية الشركات وأداءها. وتعمل جهات فاعلة أخرى مثل مؤسستنا غروث تيمز (Growth Teams)، وبرنامج الزمالة الذي تقدمه مؤسسة أو دي آي (ODI) على مستوى السياسات مع الحكومات لصياغة مقترحات أفضل أو لتمكين تنفيذ الاستراتيجيات الاقتصادية الحكومية على نحو أفضل. وتعمل جهات أخرى في هذا المجال أيضاً، مثل معهد تشارتر سيتيز (Charter Cities Institute) المعني بالتنمية الحضرية والتجمعات الاقتصادية.

غني عن القول إن هذا النوع من العمل لن يتناسب بسهولة مع التصنيفات التقليدية التي تنظم تمويل الأعمال الخيرية في الوقت الحالي، وستضطر المؤسسات الخيرية إما إلى قبول بعض الاختلاف مع العرف ما يسمح لها بإدراج أنشطة جديدة خارج الإطار المعتاد، وإما إضافة فئة جديدة إلى التصنيفات القياسية. ومن الضروري ألا تُحوّل الموارد الخيرية المخصصة لما يمكن أن نسميه “محفظة الازدهار” إلى هبات للجهات الفاعلة في السوق. على العكس تماماً، ثمة آثار إيجابية يمكن للجهات الخيرية إحداثها من خلال دعم الفاعلين في هذا المجال، كما هي الحال في قطاعي التعليم والصحة. لا تؤدي فرص العمل المنتجة إلى زيادة الدخل مباشرة فحسب؛ إنما تمكن الناس من الاستثمار في جوانب أخرى من رفاههم وتحفز العمل الإنتاجي في جوانب أخرى من الاقتصاد أيضاً.

ثانياً، في حال استمرت المؤسسات الخيرية والجهات الرائدة في مجال التأثير الاجتماعي في توجيه الموارد نحو مجالات قضايا محددة، ينبغي لها أن تفعل ذلك بطريقة ترتبط صراحة بالهدف الرئيسي المتمثل في تعزيز القدرات الإنتاجية في الدول النامية. لنأخذ التعليم الرسمي مثالاً؛ من الضروري أن تزدهر الدول على المدى الطويل، لكن يحتاج الطالب إلى ما يقرب من عقدين تقريباً لإكمال تعليمه الرسمي وتحقيق عوائد اقتصادية كبيرة. تراجعت نتائج التعليم لسنوات عديدة في عدة دول، وعلى الرغم من زيادة سنوات الدراسة، ثمة فجوة كبيرة في سوق العمل بين المهارات التي تطلبها الشركات والمهارات التي يمتلكها العاملون.

لكن انخفاض مستويات التعليم الرسمي لم يمنع الدول من الشروع في رحلات التحول الاقتصادي. بلغت نسبة الأمية بين سكان تايوان 55% في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تتحسن النسبة إلا إلى 45% بحلول عام 1960، وكان معدل الأمية في كوريا الجنوبية عام 1950 أعلى مما هو عليه في إثيوبيا اليوم؛ كان على هاتين الدولتين التوصل إلى طريقة لتوظيف عمالهما على نحو منتج، مهما كانت المهارات التي كانت لديهم في ذلك الوقت. ولم يكن بوسعهما الوصول إلى حل، حالها كحال الدول النامية اليوم.

لذلك، يجب على المؤسسات الخيرية العاملة في مجال التعليم أن تنظر إلى ما هو أبعد من نظام التعليم الرسمي، مثل تسهيل انتداب موظفين إلى شركات الدول المتقدمة لنقل التكنولوجيا (كما فعلت شركة دايو (Daewoo) الكورية مع البنغاليين في مجال الملابس)، أو توفير المزيد من التدريب الفعال لدعم الشركات في العمليات والإدارة الفاعلة. يمكّن التقدم الاقتصادي السريع الأسر من الاستثمار في تعليم أطفالها أكثر، وبالتالي المطالبة بنظام تعليمي ذي جودة عالية يتيح بدوره المزيد من التقدم الاقتصادي مع تقدم الاقتصاد وتنوعه.

مسألة إعادة التوجه نحو الإنتاج بدلاً من الاستهلاك ليست بالأمر الجديد على الغرب؛ سجّل اقتصاد الولايات المتحدة نمواً على خلفية الاستهلاك في العقود القليلة الماضية، مدفوعاً بالعولمة والتجارة الحرة التي سهلت الواردات الرخيصة وبالتالي زادت القوة الشرائية لدى المستهلكين. ولكن ثمة حدود لهذا النهج كما هو معروف الآن. وكما يتضح من الإقرار الأخير لقانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف (Infrastructure Investment and Jobs Act) وقانون تشيبس آند ساينس (the CHIPS and Science Act)، يبدو أن هناك اعتقاداً واسع النطاق في الأوساط السياسية بأن الولايات المتحدة يجب أن تعيد تركيز قدراتها الإنتاجية من أجل بناء اقتصاد أكثر ازدهاراً وخلق فرص عمل جيدة.

وينبغي للمؤسسات الخيرية، وأصحاب المشاريع الاجتماعية، والمستثمرين المؤثرين أن يوسعوا هذه الرؤية نفسها لتشمل أعمال التنمية الدولية التي يدعمونها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.