ثمة إمكانات رائعة ومثيرة للتواصل العلمي ونشر المواد العلمية، لكننا نواجه الكثير من الأصوات الشاذة في هذه العملية، والكثير منها ليس إيجابياً.
أثار الانتشار الكثيف والتطورات السريعة لأدوات الذكاء الاصطناعي القائمة على نماذج لغوية كبيرة (LLM) دهشة العلماء وعامة الناس على حد سواء في العام الماضي. وقد جرّب العديد من العلماء هذه الأدوات الجديدة، وكانت النتيجة انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي في جميع المستويات العملية العلمية، فالذكاء الاصطناعي يغيّر طريقتنا في إنتاج المعرفة، سواء في مجال البحث، أو استخراج البيانات وتفسيرها وتصورها، أو إنتاج النصوص، أو إنشاء أشكال أخرى من محتوى الوسائط المتعددة.
من المرجح أن يكون تأثير هذا التطور الجديد نسبياً تحويلياً على المدى الطويل، كما كان تأثير رقمنة النشر العلمي ووسائل الإعلام في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. مما لا شك فيه أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستزيد من إنتاجية العلوم، وستستمر إنتاجية البحث العلمي في التسارع، ولكن ثمة جوانب مهمة تدعو للقلق. لكن كيف سيؤثر ذلك في التواصل العلمي الخارجي؛ أي التفاعل وتبادل المعلومات والآراء بين العلماء وعامة الناس؟ سيحصل تغيير كبير في هذا المجال كما هي الحال في مجال التواصل العلمي الداخلي؛ أي التواصل العلمي بين العلماء. كيف سيؤثر ذلك في المجتمع؟
كيف سيغير الذكاء الاصطناعي التواصل العلمي؟
أولاً، ستظهر مجموعة متنوعة من سلاسل التوظيف الجديدة للمحتوى العلمي، إذ سيكون من الممكن تلخيص المنشورات المتخصصة وتحويلها إلى أخبار "مفهومة بصورة عامة" في غضون ثوانٍ عبر التطبيقات القائمة على نماذج لغوية كبيرة، وسيكون من الممكن بعد ذلك ترجمتها إلى كل اللغات ومن ثم تكييفها باستخدام أدوات أخرى لتناسب فئات مستهدفة محددة، سواء كانت هذه الفئات فتيات في الثانية عشرة مهتمات بالحفاظ على الطبيعة، أو أقارب المرضى الذين يعانون الاضطراب العاطفي الموسمي، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ستسمح أدوات إضافية بتحويل هذه النصوص إلى إصدارات صوتية، على غرار الكتب الصوتية أو المدونات الصوتية (بودكاست). وأخيراً، يمكن استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأخرى لإنشاء محتوى صور متحركة مرافقة أو رسوم بيانية أو حتى مقاطع فيديو قصيرة كاملة، مثل تلك المستخدمة على نطاق واسع في تيك توك ويوتيوب وإنستغرام.
ثمة إمكانات هائلة من حيث اللغة والإخراج ونبرة الصوت وعمق المحتوى المفيد والجذاب للجمهور المستهدف لأي موضوع علمي، وذلك يحقق قدراً أكبر من الإنصاف والفرص التعليمية. ولن يقتصر إنشاء سلاسل القيمة هذه على العلماء الذين يرغبون في تقديم أبحاثهم الخاصة إلى العالم من خلال أكبر عدد ممكن من القنوات (أو الذين يحاولون تلبية متطلبات مموليهم فحسب)، إذ ستؤدي أقسام التواصل في المؤسسات البحثية ومؤسسات التمويل ووسائل الإعلام المتخصصة دوراً مهماً.
وقد يكون من الجوانب الإيجابية الأخرى لتنامي التواصل العلمي الخارجي ظهور ممارسات تشاركية جديدة، على غرار مناهج علم المواطن، حيث يمكن لأشخاص من عامة الناس العمل مع العلماء لضمان تصميم النصوص والرسوم البيانية على نحو يناسب احتياجات المعلومات والمعرفة السابقة وعادات استخدام وسائل الإعلام لدى عامة الناس. قد تكون أدوات الذكاء الاصطناعي مفيدة هنا أيضاً من خلال المساعدة في إعداد الموضوعات التي تهم جمهوراً صغيراً فقط والتي تظهر نادراً في وسائل الإعلام التقليدية.
كيف ستتطور وسائل الإعلام التقليدية؟ لن يكتفي ناشرو الصحف والمجلات بتوفير إمكانية الوصول إلى محتواهم (المؤرشف) من خلال بحث بسيط عن النص الكامل الذي يتبعه عرض مقالات فردية ذات صلة بدرجة أكبر أو أقل، بل سيتمكنون من تزويد المستخدمين (الذين يدفعون المال) بقنوات إرسال واستقبال متنوعة تسمح بالتفاعل الفردي مع المحتوى الخاص بهم، بما في ذلك حوارات شخصية تفاعلية.
الوقاية من الأضرار
ومع ذلك، لن يقتصر الأمر على الأطراف الفاعلة التقليدية في مجال التواصل العلمي التي ستستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم الموضوعات العلمية بدقة أكبر إلى الجمهور المستهدف، والأهم من ذلك كله، على نطاق أوسع من أي وقت مضى. من حيث المبدأ، يمكن لأي شخص استخدام أدوات ذكية في مراحل مختلفة للتدخل في عملية النشر المتنامية. إجمالاً، نحن نواجه نشازاً صاخباً في عملية التواصل العلمي، والكثير منه لن يكون إيجابياً.
من المرجح أن تشكل المعلومات الخاطئة التي يهلوس بها الذكاء الاصطناعي بالإضافة إلى التفسيرات المغلوطة التي تُنشر عمداً والمحتوى المزيف الذي ينشره المؤمنون بنظرية المؤامرة العديد من المواد المنشورة. تفتح برامج توليد النصوص وبرامج توليد الصور (المتحركة) القائمة على نماذج لغوية كبيرة آفاقاً واسعة للجهات الخبيثة لترويج أجنداتها الخاصة من خلال منشورات غير مُدققة مزيفة تحاكي مظهر وأسلوب المقالات التي تخضع لمراجعة الأقران وتعمل بمثابة "مصادر أصلية" لتفسيرات ذات دوافع أيديولوجية، أو من خلال التزييف العميق الذي "يثبت" بعض نظريات المؤامرة الوهمية.
كما يواجه التواصل العلمي الداخلي تحديات عدة. بعد بضعة أشهر فقط من إتاحة أدوات الذكاء الاصطناعي مثل تشات جي بي تي (ChatGPT) وميدجيرني (Midjourney) للعالم أجمع، تولت مؤسسة جيرمن ريسيرتش فاونديشن (German Research Foundation) أو اختصاراً (GRF)، وهي إحدى كبريات مؤسسات التمويل البحثية في أوروبا، مهمة توضيح كيف يجب السماح باستخدام هذه الأدوات الجديدة وفي أي مرحلة من مراحل التواصل العلمي الداخلي، وهل يجب السماح للذكاء الاصطناعي بمشاركة العلماء في التأليف عند تقديم أفكار المشاريع أو نشر النتائج؟ فتقدم المعرفة العلمية هو الأكثر عرضة للخطر في هذا التواصل الأولي الذي يخدم التبادل العلمي بين العلماء. الإجابة المبدئية لمؤسسة جيرمن ريسيرتش فاونديشن كانت على النحو الآتي: من حيث المبدأ، يمكن للباحثين استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في مهام مثل تحليل البيانات وكتابة المنشورات أو المقترحات العلمية، لكن ينبغي تحديد نوع الاستخدام والأدوات المستخدمة بدقة دون السماح لتشات جي بي تي أو جيميناي (Gemini) بالمشاركة في التأليف. هذه المبادئ التوجيهية منطقية لأنها تحقق الشفافية، أما الحظر الشامل لاستخدام الذكاء الاصطناعي فلن يكون منطقياً ولا يمكن التحقق منه.
ستتيح صياغة الأوامر الذكية وأدوات الاستخراج المبتكرة المستندة إلى الذكاء الاصطناعي لكل منا استخراج المحتوى الذي يناسب اهتماماته الشخصية من المؤلفات العلمية الرئيسية ذات السمعة الطيبة، ولكن تبرز هنا أهمية مسألة ضمان الجودة، وكذلك الحاجة إلى التثقيف الإعلامي. وخطط العلاج الشخصية التي صممها الذكاء الاصطناعي للمرضى استناداً إلى أحدث المؤلفات الطبية العالمية أحد الأمثلة على ذلك.
وأخيراً، ستواجه الصحافة العلمية مزيداً من التحديات، بما فيها تحديات اقتصادية نتيجة الطوفان المتوقع من المحتوى المعرفي الجديد. يبقى محتوى التواصل العلمي الخارجي الذي يُنتج وفقاً للمعايير الصحفية المهنية والمراقبة العلمية الخارجية المستقلة رصيداً ثميناً لتشكيل الرأي العام، وهو ما لا يمكن للمجتمع الاستغناء عنه، تماماً كما لا يمكنه الاستغناء عن وسائل الإعلام المستقلة الجديرة بالثقة.
بالطبع، ثمة فرص هنا أيضاً، إذ لن يستفيد صحفيو البيانات وحدهم من الذكاء الاصطناعي في عملهم اليومي. توفر الأدوات المستندة إلى النماذج اللغوية الكبيرة لفرق التحرير أساليب جديدة تتيح البحث على مستوى أعلى من ذي قبل. فمثلاً سيستطيع الرصد المؤتمت لمجالات علمية متخصصة بأسرها أو تجميع البيانات من مصادر متنوعة غير متجانسة وتقييمها بمساعدة الذكاء الاصطناعي على تحسين جودة العمل الصحفي.
ومع ذلك، لن يوفر الذكاء الاصطناعي التوليدي القيمة المضافة الحقيقية للتقارير العلمية الصحفية المتمثلة في التصنيف النقدي والتعليق ومراعاة السياق على الأقل في الوقت الحالي. وحتى الآن، ما يزال ذلك مجالاً خاصاً بالتفكير العلمي للخبراء البشر.
وهنا بالتحديد تنشأ الفرصة لضمان الجودة الصحفية، إذ يمكن لشركات الذكاء الاصطناعي التي تتطلب باستمرار محتوى أولياً جديداً من العلوم ووسائل الإعلام التي تحتاج إلى تدريب نماذجها أن تسهم في إعادة تمويل الصحافة العالية الجودة من خلال فرض ضريبة إلزامية. يجب على المشرّع أن يتولى زمام الأمور في هذه الحالة لأن ذلك لن يحدث طواعية، ويجب تحديد مَن المستفيد من ذلك في المنظومة الإعلامية الشديدة التعقيد في عصر الذكاء الاصطناعي.