رسالة إلى المموّلين: حان الوقت لتحمُل مسؤولياتكم

7 دقيقة
تمويل الأعمال الخيرية

قرأتُ مؤخراً مقالاً مميزاً كتبه رائدا أعمال اجتماعية قررا إيقاف مشروعهما المتعلق بتنظيم الأسرة في غانا بعدما تبيّن لهما أنه غير فعال ولن يحقق النتائج المرجوة.

كانت تفاصيل إيقاف المشروع والأسباب التي دفعتهما لاتخاذ هذا القرار مثيرة وتستحق القراءة، لكن ما لفت انتباهي حقاً هو تفسيرهما لأسباب استمرار عمل المؤسسات غير الحكومية التي لا تحقق نتائج فعالة؛ إذ يقولان: "في القطاع غير الربحي، تكون المؤسسات مسؤولة أمام الجهات المانحة وليس أمام المستفيدين من خدماتها، وإذا لم تتمكن من تأمين التمويل، فإن المشروع سينتهي، وبالتالي، ترتبط فعالية المؤسسات غير الربحية بمدى قدرتها على جذب التمويل؛ إذ يمكن أن تستمر المشاريع بل وتتوسع حتى دون توفر دليل على نجاحها، أو حتى عند وجود دلائل تثبت عدم فعاليتها، وذلك في حال امتلكت المؤسسات فريقاً قوياً لجمع التبرعات وإذا تمكنت من إقناع الجهات المانحة بأهدافها وفكرة مشروعها".

أما في قطاع الأعمال الربحية، فإن الشركات تكون مسؤولة أمام عملائها، وإذا لم تلقَ المنتجات استحسان العملاء وتقديرهم، فستفشل الشركة في تحقيق الأرباح، وإذا لم تحسّن الشركة أداءها، فستنهار وتخرج من السوق وسيخسر المستثمرون أموالهم.

في النهاية، يتحمل كل من الشركة والمستثمرين المسؤولية أمام العملاء، لذلك، يجب على الشركات تقديم قيمة للعملاء، وإلا فسيكون مصيرها الفشل.

لكنّ الوضع مختلف تماماً في قطاع الأعمال غير الربحية، فالعملاء، الذين نسميهم "المستفيدين"، ليس لديهم خيار سوى قبول الخدمات المقدّمة إليهم دون القدرة على الرفض أو التفاوض؛ إذ لا توجد وسيلة فعالة تمكنهم من التعبير عمّا إذا كان المنتج يقدم لهم قيمة أم لا، لذلك، لا يترتب على فشل المؤسسة في تقديم الفائدة للمستفيدين أي عواقب مباشرة.

في الوقت نفسه، فإن المستثمرين، أي الجهات المموّلة بأشكالها كافة، لا يتأثرون بالعواقب السلبية التي قد تنشأ عند دعمهم لمشاريع أو مؤسسات غير فعالة؛ إذ يمكنهم تمويل أي مشاريع يختارونها وإن كانت غير فعالة دون تحمل المسؤولية.

لن يؤدي تمويل المشاريع الفاشلة بطريقة عشوائية وغير مدروسة إلى تشويه صورتك بوصفك داعماً سخياً يهتم بالفقراء أو البيئة أو أي قضية أخرى، وبالتالي، فإن سمعتك، وهي العامل الذي يمثل أهمية قصوى بالنسبة للجهات المموّلة، لن تتأثر.

أدى غياب المساءلة إلى حالة من الفوضى والاضطراب في القطاع الاجتماعي. من الممكن أن تستمر المؤسسات غير الربحية وغير الفعالة في العمل والنمو، في حين أن المؤسسات المتميزة والفعالة لا تتمتع بميزة كبيرة أو دعم واسع في مجال جمع التبرعات.

لا يؤدي عدم تحقيق الأثر أو النتائج المتوقعة إلى فصل أشخاص مثلنا من العمل. بسبب عدم توزيع التمويل بطريقة فعالة وصحيحة تضمن وصوله إلى الجهات الأكثر قدرة على تحقيق نتائج ملموسة وإحداث تغيير إيجابي حقيقي، فإن الإنجازات الرائعة لا تحظى بالتقدير الكافي، هذا في حال الاعتراف بها أصلاً، في حين يجري التغاضي عن العمل الرديء الذي لا يحقق النتائج المطلوبة،

أما أصحاب المواهب والكفاءات الذين نحتاج إليهم بشدة، فإنهم يبحثون عن فرص في أماكن أخرى، ونتيجة لذلك، فإننا لا نحقق سوى جزء ضئيل مما يمكننا تحقيقه. يكمن حل هذه المشكلة بيد المموّلين فقط؛ إذ يتمثل دورهم الأساسي في ضمان مساءلة المؤسسات غير الربحية عن النتائج والأثر الذي تحققه نيابة عن الفئات المستفيدة التي لا تستطيع التعبير عن رأيها.

لذلك، تتمثل مسؤوليتنا في ضمان قيمة المنتجات التي نقدمها، نظراً لأن العملاء عاجزون عن ذلك، وبالتالي، يجب علينا مساءلة المؤسسات غير الربحية ومحاسبة أنفسنا أيضاً على الأثر الذي يجب تحقيقه. لتحقيق ذلك، يجب علينا توجيه التمويل فقط للمؤسسات غير الربحية التي يمكنها تقديم دلائل قوية ومقنعة على الأثر الذي تحققه.

من خلال خبرتي، فإن الغالبية العظمى من المؤسسات غير الربحية التي تقيس الأثر الذي تحققه بطريقة جيدة تكون فعالة في الواقع، وتلك التي تبذل جهوداً كبيرة في هذا المجال تحقق أداءً مميزاً. يدل اهتمام المؤسسات بقياس النتائج على حرصها على معرفة الأثر الذي تحققه، بالإضافة إلى سعيها للحصول على المعلومات التي تساعدها على تحسين أدائها.

مثّل استبعاد المؤسسات التي لا تبذل جهوداً حقيقية وكافية فيما يتعلق بقياس أثرها خطوة أولى ممتازة لحل المشكلة. لا يعني ذلك أنه يجب عليك مضايقة الأشخاص الذين يعملون على الأرض ويبذلون أقصى جهدهم أو الضغط عليهم، فكل من يسعى لتحسين هذا العالم وتحقيق أثر إيجابي يستحق الشكر والاحترام،

لكن يجب على المموّلين أو الجهات التي تقدم الدعم أن يطلبوا من المؤسسات غير الربحية تقديم معلومات وتقارير مفيدة تساعدهم على اتخاذ قرار مستنير بشأن تمويل المشروع، بدلاً من الانشغال بطلب بيانات أو تقارير غير ضرورية.

يجب أن توضح لهم أن دورك هو أن تكون شريكاً جيداً في ضمان تحقيق الأثر المرجو وأن هدفك هو مساعدتهم على تحسين أدائهم وأنك ستعمل على توفير الموارد التي يحتاجون إليها لتحقيق النجاح. احرص على دعم جهود أولئك الذين يسعون لتحقيق نتائج جيدة، كما يجب عليك رفض مقترحات الجهات التي لا تفعل ذلك بطريقة مهذبة ومحترمة، وامتنع عن تمويل المشاريع التي لا تجدي نفعاً بطريقة لائقة وغير جارحة.

ليس من السهل مساعدة المؤسسات غير الربحية على قياس الأثر الذي تحققه بطريقة جيدة وفعالة، إلى جانب ضمان جودة العمل الذي يؤديه المموّلون، لكنه أمر بسيط من الناحية النظرية. فيما يلي 4 عناصر أساسية تساعدك على قياس الأثر الحقيقي:

الرسالة: حدد الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه.

حدد النتيجة النهائية التي تشكل الأثر الأكبر والأهم، مثل إنقاذ حياة الأطفال في غرب إفريقيا أو تعليم الطلاب القراءة والكتابة في المناطق الريفية في الهند أو توفير المياه النظيفة للعائلات في منطقة الساحل الإفريقي. يشكّل عدم القدرة على تحديد هذه الأهداف بوضوح ودقة علامة تحذيرية خطيرة.

المقياس: حدد المقاييس القابلة للتطبيق التي تعكس الأهداف والنتائج النهائية المطلوبة.

بالنسبة للأمثلة السابقة، قد تكون هذه المقاييس هي على التوالي: معدل وفيات الأطفال أو مستوى الطلاقة في القراءة وفقاً للمرحلة الدراسية أو كمية المياه النظيفة التي يستهلكها الفرد.

ملاحظة: لا يمثل عدد المستفيدين وعدد الأشخاص الذين تأثروا بالمشروع مقياساً فعالاً أو دقيقاً.

التغيير: احرص على جمع بيانات دقيقة وعالية الجودة تُظهر التغيرات وفقاً للمقاييس المحددة.

يتطلب ذلك قياس الوضع عند نقطة البداية (في الأساس) ومقارنته بالنتائج عند نقطة النهاية مع مراعاة الفاصل الزمني المناسب بينهما، لأن إغفال جمع البيانات عند نقطة البداية هو خطأ كبير، كما يجب أن تكون العيّنة التي تخضع للقياس كبيرة بما يكفي، مع استخدام أساليب معتمدة ومثبتة علمياً للبحث والاستقصاء وجمع العيّنات لضمان الدقة.

الواقع المضاد: ما هو مقدار التغيير الذي تحقق بفضل جهودك؟

يتطلب قياس الأثر الفعلي معرفة الفرق بين ما تحقق بفضل جهودك وما كان سيحدث في غيابك؛ إذ إن الجزء الأصعب في عملية قياس الأثر هو تحديد ما كان سيحدث دون تدخلك، وهو ما نسميه "الواقع المضاد".

يجب عليك مقارنة النتائج التي حققتها بنقطة مرجعية مفيدة أو معيار ذي قيمة. في حالات نادرة قد يكون الوضع السابق كافياً ومناسباً للمقارنة وتقييم أثر التدخل، لكنك تحتاج غالباً إلى تصميم آلية مقارنة واضحة وفعالة منذ البداية، وهي ما يسمى أحياناً "المجموعة الضابطة"، وربما يجب عليك استخدام أساليب مثل التوزيع العشوائي.

إذن، العناصر الأساسية هي الرسالة والمقياس والتغيير والواقع المضاد. تتمثل أبسط طريقة في أن تطلب من المؤسسة توضيح رؤيتها حول هذه العناصر الأربعة، وإذا لم تتمكن من تقديم إجابات واضحة ومقنعة، فلا تقدم لها التمويل.

تختلف متطلبات القياس حسب مراحل تطور المؤسسة؛ إذ ربما لا تمتلك المؤسسات الناشئة الكثير من البيانات، ولكن الأهم هو أن يكون لديها خطة واضحة للحصول على البيانات وقياس تقدمها، أما المؤسسات التي تكون مستعدة للتوسع، فيجب أن تكون لديها دلائل قوية على فعاليتها والأثر الذي تحدثه.

احرص على تقليل التعقيدات: إذا كانت المؤسسة تقدم تقارير مقنعة حول تقدمها وفقاً للعناصر الأربعة السابقة، فإن الكثير من المقاييس الأخرى التي نطالب بها تصبح غير ضرورية.

احرص على دعم المؤسسات التي تقدم أداءً جيداً وساعد تلك التي تبذل جهوداً واضحة لتحسين أثرها وتجنب تمويل المؤسسات التي لا تبذل أي جهد ولا تحقق أي تقدم.

خلال العقدين الماضيين، لاحظتُ زيادة مثيرة ومهمة في عدد المؤسسات غير الربحية والمموّلين الذين يتسمون بدرجة عالية من النزاهة والالتزام فيما يتعلق بالحرص على تحقيق الأثر ومساءلة أنفسهم في هذا السياق.

عموماً، يستطيع المموّلون فهم المبادئ الأساسية لتقييم الدلائل التي تثبت فعالية المشاريع التي يمولونها، وعندما يتعاملون مع هذا الأمر بجدية، فإنهم ينجحون في تطبيقها ويحققون نتائج جيدة.

على الرغم من ذلك، فإن عددهم لا يزال ضئيلاً جداً لإحداث التغيير الجذري المطلوب، لذلك، يجب أن يصبح هذا النهج هو المعيار الأساسي المتبع وليس ممارسة نادرة.

إذا كنت مموّلاً ولا تبذل جهداً حقيقياً لضمان تحقيق الأثر، فأنت لا تؤدي واجبك على أكمل وجه؛ بل إنك جزء من المشكلة، وبالتالي، فإنك تخذل نفسك وتخيب آمال كل من المؤسسات التي تقدم لها التمويل ودافعي الضرائب الذين يسهمون في تمويل تبرعاتك، والأهم من ذلك كله أنك تفشل في تحقيق المنفعة للمستفيدين الذين نحاول خدمتهم ومساعدتهم.

إذا لم يكن لديك الوقت أو الموارد أو الرغبة في مساءلة المؤسسات غير الربحية التي تمولها عن الأثر الذي يجب تحقيقه، وإذا لم تكن مستعداً للدفاع عن حقوق الجهات المستفيدة التي نحاول مساعدتها، فيجب عليك الانضمام إلى جهة مموّلة أخرى تلتزم بتحقيق ذلك أو أن تتبع نهجها وتتعلم منه. إذا لم تتمكن من اتخاذ هذه الخطوة على الأقل، فقد لا يكون هذا المجال مناسباً لك لأنك تسهم في تفاقم المشكلة.

أعتقد أن تقليص حجم التمويل مع التركيز على توجيهه بطريقة فعالة نحو ضمان تحقيق الأثر سيؤدي إلى تحقيق نتائج أفضل مما نحققه حالياً. ستتمكن المؤسسات التي تحقق أثراً كبيراً من جذب مزيد من التمويل مع تقليل نفقاتها على جمع التبرعات، لأن المموّلين سيبحثون عنها ويسعون لدعمها، تماماً مثلما يبحث المستثمرون عن فرص الاستثمار المربحة.

يجب على المؤسسات غير الربحية ذات الأداء الضعيف تحسين أدائها، وإلا فستفشل وتتوقف عن العمل. أما المؤسسات التي تقدم أداءً متميزاً وتثبت فعاليتها، فستتمكن من تقديم رواتب أعلى والحصول على الدعم اللازم لتحقيق ذلك، ما يعزز قدرتها على استقطاب المواهب والكفاءات للعمل في هذا القطاع.

عند توجيه الموارد بطريقة صحيحة وفعالة نحو الجهات القادرة على إحداث تغييرات إيجابية، فإن مجال التمويل سيصبح أكثر إثارة وجاذبية، ما يسهم في جذب مزيد من أصحاب المواهب والكفاءات للانضمام والمشاركة. وعلى المدى البعيد، سنحصل على أموال أكثر، ما يؤدي إلى تحقيق أثر أكبر.

لذلك، من الضروري التركيز على توجيه تمويل الأعمال الخيرية، الذي نطمح إلى زيادته، نحو تحقيق الأثر المطلوب. نرغب جميعنا في الحصول على التمويل من الصناديق الاستشارية للمانحين (DAFs) ، لكن يجب ضمان توجيه هذه الأموال نحو تحقيق الأثر.

هناك العديد من الحملات المثيرة للإعجاب التي تهدف إلى زيادة تدفق التمويل، مثل حملة "غيفينغ بليدج " (Giving Pledge) وحملة "هاف ماي داف" (HalfMyDAF)، مع الإشارة إلى ضرورة التزام الأشخاص المشاركين في حملة "غيفينغ بليدج" بتنفيذ تعهداتهم ودفع الأموال بالفعل.  لكن تجدر الإشارة إلى أن زيادة حجم التمويل لن تكون مفيدة في حال عدم توجيهه بطريقة صحيحة، لأن ذلك سيؤدي إلى إهدار المال بدلاً من استثماره لتحقيق الأثر المطلوب.

على الرغم من عدم تعرّض الجهات المموّلة لمساءلة حقيقية بشأن الأثر الذي تحدثه المشاريع التي يمولونها، فإنه يوجد بعض البوادر التي تدعو للتفاؤل بإمكانية حدوث تغيير. على مدى السنوات القليلة الماضية، نجحنا في إضفاء بُعد أخلاقي وربط المخاطر المتعلقة بالسمعة بقضايا مثل التنوع وإنهاء الاستعمار وتعزيز القيادة المحلية، ما دفع المموّلين إلى تغيير أسلوب عملهم. لذلك، فقد حان الوقت لتطبيق النهج نفسه على قياس الأثر.

من الغريب أننا لم نفعل ذلك حتى الآن، فتحقيق الأثر في حياة الفئات المهمشة والمُهمَلة هو أسمى أشكال العدالة والشمول، لذلك، لا تخيبوا آمالهم وأدوا واجباتكم تجاههم وكونوا على قدر المسؤولية.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي