يعد تكافؤ الفرص في سوق العمل عاملاً أساسياً لتحقيق المساواة والعدالة، لكنه بحاجة إلى نهج واقعي ومدروس يزيل بفعالية الحواجز التي تعترض الفئات المهمشة، وهو نهج التوظيف القائم على المهارات، الذي يساعد المؤسسات والشركات على التقليل من الانحياز. فإلى أي مدى يمكن أن يسهم التوظيف القائم على المهارات في خلق المزيد من الفرص المتساوية للجميع في سوق العمل؟
لا وجود لبيئة عمل مثالية
لا يمكن النظر إلى بيئة العمل على أنها مثالية، إذ يشوبها العديد من أوجه الانحياز إلى أصحاب العلاقات وشهادات التعليم العالي، وتجاهُل العديد من الفئات التي تمتلك مهارات ومعرفة مكتسبة من التجارب والظروف المجتمعية المحيطة، إذ اعترف 88% من مسؤولي التوظيف المشاركين في دراسة أعدّتها لينكد إن، بأنهم يقومون بتصفية المرشحين ذوي المهارة لمجرد أنهم لا يمتلكون خبرة وظيفية سابقة أو مؤهلات محددة.
يأتي ذلك في الوقت الذي تكافح فيه الشركات والمؤسسات من أجل استقطاب المواهب في ظل سوق شديدة التنافسية تتطلب مهارات جديدة باستمرار، فمن خلال مسح آمال القوى العاملة العالمية ومخاوفها لعام 2023 (Global Workforce Hopes and Fears Survey 2023) الذي أجرته شركة برايس ووترهاوس كوبرز (PwC)، عبّر 60% من العاملين الحاصلين على تدريب متخصص عن إحساسهم بكيفية تغيّر المهارات المطلوبة لأداء عملهم في السنوات الخمس المقبلة، مقارنةً بـ 20% فقط من أولئك الذين لا تتطلب وظائفهم تدريباً متخصصاً.
لكن يمكن تغيير ذلك من خلال نهج التوظيف القائم على المهارات الذي يساعد الشركات على أن تكون أقرب إلى الموضوعية في تحديد أولويات المهارات التي يحتاج إليها المرشحون للنجاح في أدوار محددة، بدلاً من التركيز على العضوية النقابية أو الاتصالات بالموظفين الحاليين مثلاً، وتجاهل أي أفكار مسبّقة حول الشكل الذي يبدو عليه المرشح المثالي، سواء تاريخ وظيفي أو درجة علمية معيّنة. بسبب هذا النهج شهدت شركة آي بي إم (IBM) زيادات ثابتة في المواهب المتنوعة والممثلة تمثيلاً ناقصاً مع إلغائها متطلبات الدرجة العلمية لنصف وظائفها في الولايات المتحدة.
المجتمعات أساس بناء المهارات
تخلق المجتمعات مساحة لتبادل المعرفة والمهارات بين المجموعات المختلفة التي يمكن للشركات والمؤسسات تسخيرها لجذب أشخاص مؤهلين لمتطلبات سوق العمل. بحسب تقرير مستقبل الوظائف الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن القيادة، والتعاطف والمرونة، والاستماع الفعّال، من المهارات التي تحتاج إليها الشركات والتي يجري تطويرها ورعايتها بصورة طبيعية داخل المجتمع.
على سبيل المثال، يبدو اللاجئ الذي انتقل إلى العيش في مكان جديد تماماً مرشحاً مثالياً للعمل في إحدى الشركات، فمن خلال قدرته على تجاوز الصِعاب التي مرّ بها؛ قد طوّر مهارات المرونة والتصميم والمثابرة التي تقدم قيمة كبيرة في مكان العمل، وإلى جانب قدرته على التعامل بهدوء مع المواقف الصعبة التي يبدي فيها العملاء انزعاجهم، والتواصل الناجح مع الأشخاص من خلفيات متنوعة.
تمنح حلقة الوصل بين الأفراد في المجتمع مهارات مثل التعاون والمواطنة والرؤية المشتركة وقيم الشعور بالانتماء والثقة والمساءلة، التي لا يمكن اكتسابها فعلياً من مكان آخر. ودمج هذه القيم في أي شركة أو مؤسسة يمكّنها من معالجة تحديات مثل تغير المناخ والاستدامة والاندماج الاجتماعي.
الآن، مع التقدم التكنولوجي المتسارع والأزمات العالمية، تحوّلت المجتمعات إلى العالم الافتراضي وتراجع دورها الحيوي في تبادل المعرفة والمهارات، وباتت فعالية وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز تبادل المعرفة في الأوقات المعاصرة موضع نقاش، فعلى الرغم من المزايا التي تقدمها، فإنها تُفقدنا شيئاً أعظم وهو التعاطف والتعاون والخبرة المشتركة، فالمحادثة من وراء الشاشات وتبادل الرموز التعبيرية لن يُغنيانا عن معايشة تجربة حقيقة التواصل مع الآخرين في ساحات عامة لتبادل المعلومات والآراء.
فائدة لا تقتصر على العمّال
إن خلق سوق عمل أكثر كفاءة وشمولاً يتطلب من الشركات والمؤسسات أن تكون أكثر اتصالاً بالمجتمع واكتشاف المهارات الكامنة فيه لتصبح فِرق العمل أكثر تنوعاً، وهذا لن يعود بالفائدة على الأفراد فحسب بل على الشركات نفسها أيضاً، إذ خلصت دراسة أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) إلى أن الفِرق المتنوعة أكثر ابتكاراً وقدرة على تطوير المنتجات التي تتوافق مع احتياجات العملاء المتغيرة بسبب خلفيات أفرادها ووجهات نظرهم المتنوعة، كما تعزز القوى العاملة المتنوعة والشاملة الالتزام والانتماء والتعاون والأداء.
وأثبتت دراسة أجرتها ماكنزي آند كومباني عام 2020، أن الفرق المتنوعة يمكنها التفوق مالياً على الفرق غير المتنوعة بنسبة 36%، وفرص نجاح الفرق التي تشمل الجنسين أكبر بنسبة 25%، على سبيل المثال، قد لا نرى العديد من الطلبات المقدمة من النساء، أو لاحظنا أن النساء لا يتمكنَّ في كثير من الأحيان من اجتياز مقابلة العمل، فهناك فجوة بين الجنسين فيما يخص الوظائف المقدَّم إليها، ومدى تكرار التقدم إلى الوظيفة، وتوقيت التقدم أو التراجع عنه.
توصلت دراسة حديثة، إلى أن السيدات يتقدمن وسطياً لشغل مهن خدمية أكثر من الرجال بنسبة 12%، ويُرسلن طلبات تقديم إلى المهن الآلية أقل بنسبة 4.7% من الرجال، و6.1% أقل إلى المهن الحرفية، وتقل احتمالية تقدمهن إلى الوظائف في قطاع البناء، حيث يرسلن طلبات أقل بنسبة 5.6%.
لكن التحول إلى النهج القائم على المهارات يساعد في سد فجوة التقديم بين الجنسين ويقلل من التحيز في أثناء عملية التوظيف، إذ أظهرت دراسة أجريت على أكثر من 2,000 من المتقدمين الناجحين للوظائف أن عدد النساء المعيّنات في مناصب عليا زاد بنسبة 70% تقريباً مع اعتماد المهارات معياراً للتوظيف، وأشار تقرير أجرته لينكد إن إلى أن التوظيف القائم على المهارات يزيد من نسبة المواهب النسائية بنسبة 24% أكثر من الرجال في الوظائف التي تكون فيها المرأة ممثلة تمثيلاً ناقصاً.
حان الوقت لخلق وعي جديد لدى الشركات والمؤسسات بأهمية التوظيف القائم على المهارات، ومساعدة المجتمعات على الازدهار ومشاركة الأفكار والمعرفة وتعزيز الشعور بالانتماء والهدف المشترك لفتح باب تكافؤ الفرص أمام من جرى تجاهلهم نتيجة اعتبارات خلقت سوق عمل غير منصفة.