يتيح التفكير التصميمي الفرصة للعثور على حلول للمشكلات الاجتماعية، تتميز هذه الحلول بأنها عالية التأثير وتصدر من القاعدة ولا تُفرض من القمة، وذلك من خلال العمل من كثب مع العملاء والمستهلكين.
في منطقة تقع بين الضواحي والريف خارج مدينة حيدر أباد في الهند، تحضر امرأة شابة -سنسميها شانتي- الماء يومياً من بئر البلدة التي توفر الماء على نحو دائم والتي تبعد نحو 100 متر عن منزلها. تستخدم عبوة بلاستيكية تتسع لـ 3 غالونات يمكنها حملها بسهولة على رأسها. يعتمد كل من شانتي وزوجها على المياه المجانية للشرب والغسيل، وما يزالان يستخدمانها مع أنهما سمعا أنها ليست آمنة مثل المياه التي تأتي من محطة المعالجة المجتمعية التي تديرها مؤسسة ناندي فاونديشن (Naandi Foundation). تشرب عائلة شانتي مياه تلك البئر منذ أجيال، ولا تنوي شانتي التوقف عن استخدامها على الرغم من أنها تسبب لها ولعائلتها الأمراض على نحوٍ متكرر.
لدى شانتي العديد من الأسباب التي تمنعها من استخدام المياه من مركز ناندي لمعالجة المياه، لكنها أسباب غير متوقعة. يقع المركز على مسافة قريبة من منزلها سيراً على الأقدام، وهي 500 متر تقريباً. سمعة المركز جيدة وأسعاره معقولة ( نحو 10 روبيات -تعادل 20 سنتاً- مقابل 5 غالونات). حتى القدرة على دفع الرسوم الصغيرة باتت مؤشراً للمكانة الاجتماعية بالنسبة إلى بعض القرويين. العادة ليست من الأسباب التي تمنع شانتي من التوجه إلى المركز، إذ تتخلى شانتي عن المياه الآمنة بسبب سلسلة من العيوب في التصميم العام للنظام.
تستطيع شانتي المشي إلى المنشأة، لكنها لا تستطيع حمل عبوة تبلغ سعتها 5 غالونات التي تطلبها المنشأة. تصبح العبوة البلاستيكية المستطيلة الشكل ثقيلة جداً عند ملئها بالماء، والعبوة غير مصممة لحملها على الأرجل أو الرأس، حيث تفضل شانتي حمل الأشياء الثقيلة. لا يستطيع زوج شانتي المساعدة في حملها أيضاً، فهو يعمل في المدينة ولا يعود إلى المنزل إلا بعد إغلاق مركز معالجة المياه. كما يطلب منهما مركز العلاج أيضاً شراء بطاقة شهرية للحصول على 5 غالونات يومياً، وهو أكثر بكثير مما يحتاجان إليه. تتساءل شانتي: "لماذا أشتري أكثر مما أحتاج إليه وأهدر المال"، مضيفةً أنها ستشتري مياه ناندي إذا سمح لها المركز بشراء كميات أقل.
صُمم مركز المعالجة المجتمعي لإنتاج مياه نقية وصالحة للشرب، وقد نجح في تحقيق ذلك بامتياز. يعمل هذا النظام على نحوٍ جيد بالنسبة إلى العديد من السكان وبخاصة العائلات التي تضم رجالاً أو أبناء كباراً يمتلكون دراجات هوائية ويمكنهم الذهاب إلى محطة المعالجة خلال ساعات العمل. ومع ذلك، فقد أضاع مصممو المركز فرصة تصميم نظام على نحو أفضل لأنهم أخفقوا في مراعاة ثقافة الذين يعيشون في المجتمع واحتياجاتهم جميعاً.
هذه الفرصة الضائعة شائعة جداً على الرغم من أنها اُعتبرت إهمالاً واضحاً في التجارب السابقة. تتعثر المبادرات مراراً وتكراراً لأنها لا تستند إلى احتياجات العميل أو الزبون ولا تصمم نماذج أولية للحصول على الملاحظات. وعندما تدخل الجهات الفاعلة إلى هذا المجال، تدخل بتصورات مسبّقة عن الاحتياجات والحلول، ولا يزال هذا النهج الخاطئ يمثل القاعدة في كل من قطاع الأعمال والقطاع الاجتماعي.
وكما توضح حالة شانتي، تتطلب التحديات الاجتماعية حلولاً منهجية ترتكز على احتياجات العميل أو الزبون. يتعثر هنا العديد من النُهج ويتفوق التفكير التصميمي -وهو نهج جديد لابتكار الحلول.
يركز المصممون اهتمامهم تقليدياً على تحسين شكل المنتجات ووظائفها. من الأمثلة التقليدية عن هذا النوع من التصميمات جهاز آيبود من شركة آبل وكرسي إيرون من شركة هيرمان ميلر (Herman Miller). لكن المصممين وسّعوا في السنوات الأخيرة نهجهم، وذلك بهدف إنشاء أنظمة كاملة لتقديم المنتجات والخدمات.
يدمج التفكير التصميمي أفكاراً عن مكونات المنتج أو أفكار المستهلكين في نماذج أولية سريعة بهدف تجاوز التصورات المسبّقة التي تعوق الحلول الفعالة. يركز التفكير التصميمي المتفائل والبنّاء والتجريبي بطبيعته على احتياجات متلقي المنتجات أو الخدمات بالإضافة إلى بنيتها التحتية.
تتبنى الشركات التفكير التصميمي لأنه ينمّي الابتكار فيها ويميز علاماتها التجارية على نحو أفضل، ويوصل منتجاتها وخدماتها إلى السوق على نحو أسرع. بدأت المؤسسات غير الربحية في توظيف التفكير التصميمي أيضاً لتطوير حلول أفضل للمشكلات الاجتماعية. يتجاوز التفكير التصميمي الحدود التقليدية بين القطاعات العامة والربحية وغير الربحية ويتيح للحلول العالية التأثير أن تخرج من القاعدة بدلاً من فرضها من القمة من خلال العمل من كثب مع العملاء والمستهلكين.
تطبيق التفكير التصميمي
كان مؤسس مبادرة الانحراف الإيجابي (Positive Deviance Initiative)، والأستاذ المساعد في جامعة تافتس (Tufts) جيري ستيرنن، قبل وفاته ماهراً في تحديد ما أطلق عليه الحلول الخارجية للمشاكل المحلية ودراستها. يعتبر نهج ستيرنن المفضل للابتكار الاجتماعي مثالاً على تطبيق التفكير التصميمي. طلبت الحكومة الفيتنامية من ستيرنن وزوجته مونيك في عام 1990 تطوير نموذج لخفض مستويات سوء التغذية المرتفعة بين الأطفال في 10,000 قرية بطريقة مستدامة. كان 65% من الأطفال الفيتناميين دون الخامسة يعانون سوء التغذية في ذلك الوقت، وكان معظم الحلول يعتمد على تبرعات الحكومة ووكالات الأمم المتحدة بالمكملات الغذائية. لكن المكملات الغذائية (الحل الخارجي) لم تحقق النتائج المأمولة. استخدم الزوجان ستيرنن نهجاً يُطلق عليه الانحراف الإيجابي بدلاً من ذلك، وهو نهج يبحث عن حلول قائمة (وبالتالي مستدامة) بين الأفراد والأسر في المجتمع نفسه الذين يتمتعون بصحة جيدة.
أجرى الزوجان وزملاؤهما من منظمة سيف ذا تشيلدرين (Save the Children) دراسة استقصائية لأربعة مجتمعات محلية في مدينة كيونغ زونغ في مقاطعة ثان هوا وطلبوا أمثلة عن الأسر "الفقيرة جداً" التي يتمتع أطفالها بصحة جيدة، ثم راقبوا سلوكيات الطهي وإعداد الطعام وتقديمه لدى هذه العائلات الست، التي أطلقوا على أفرادها "المنحرفين الإيجابيين"، ووجدوا بعض السلوكيات المتسقة والنادرة في الوقت نفسه. كان أهل الأطفال الجيدي التغذية يجمعون الروبيان الصغير وسرطان البحر والحلزون من حقول الأرز ويضيفونها إلى الطعام إلى جانب أوراق البطاطا الحلوة الخضراء. كان من السهل الحصول على تلك الأغذية، ولكن السكان لم يعتادوا على تناولها ظناً منهم أنها غير آمنة للأطفال. وكان المنحرفون الإيجابيون يطعمون أطفالهم وجبات متعددة أصغر حجماً، ما يسمح لمعداتهم الصغيرة بتحمل الكثير من الطعام وهضمه كل يوم.
تعاون الزوجان ستيرنن مع بقية أفراد مجموعتهما مع المنحرفين الإيجابيين لتقديم دروس في الطهي لعائلات الأطفال الذين يعانون سوء التغذية. وفي نهاية السنة الأولى للبرنامج، بات 80% من الأطفال الـ 1,000 المسجلين في البرنامج يحصلون على التغذية الكافية. وجرى تكرار هذه التجربة في 14 قرية في جميع أنحاء فيتنام.
يعد عمل الزوجين ستيرنن مثالاً جيداً على اعتماد الانحراف الإيجابي والتفكير التصميمي على الخبرات المحلية للكشف عن الحلول المحلية. يبحث المفكرون التصميميون عن حلول بديلة ويرتجلون حلولاً -مثل الروبيان وسرطان البحر والحلزون- ويجدون طرقاً لدمجها في المنتجات التي يبتكرونها. فهم ينظرون إلى ما نسميه بالأطراف، وهي الأماكن التي يعيش فيها الناس "المختلفون" بطريقة مختلفة ويفكرون بطريقة مختلفة ويستهلكون بطريقة مختلفة. تشرحهما المديرة الحالية لمبادرة الانحراف الإيجابي مونيك ستيرنن قائلة: "الانحراف الإيجابي والتفكير التصميمي نهجان يتمحوران حول الإنسان، حلولهما ذات صلة بالسياق الثقافي الفريد ولن تنجح بالضرورة خارجه".
كان برنامج توزيع الناموسيات في إفريقيا أحد البرامج التي استفادت من التفكير التصميمي. الناموسيات مصممة على نحو جيد وهي فعالة في الحد من الإصابة بالملاريا. وقد أشادت منظمة الصحة العالمية بالناموسيات ونسبت إليها الفضل في انخفاض كبير في الوفيات الناجمة عن الملاريا لدى الأطفال دون الخامسة، إذ انخفضت بنسبة 51% في إثيوبيا، و34% في غانا، و66% في رواندا. لكن الطريقة التي وُزعت بها الناموسيات كان لها عواقب غير محسوبة. ففي شمال غانا على سبيل المثال، تقدم الناموسيات مجاناً للنساء الحوامل والأمهات اللواتي لديهن أطفال دون سن الخامسة. يمكن لهؤلاء النساء الحصول على الناموسيات المجانية بسهولة من المستشفيات العامة المحلية، لكن من الصعب على الآخرين الحصول عليها. عندما سألنا مواطناً غانياً مثقفاً أصيب مؤخراً بالملاريا يدعى ألبرت إذا ما كان ينام تحت ناموسية أم لا، أجابنا بالنفي، إذ لا يوجد مكان في مدينة تامالي لشراء ناموسية، لأن الكثير من الناس يمكنهم الحصول على الناموسيات مجاناً، فليس من المربح لأصحاب المتاجر بيعها، ولا تبيع المستشفيات الناموسيات الإضافية.
تُظهر تجربة ألبرت أنه من الأهمية بمكان أن يأخذ مصممو البرامج قنوات التوزيع في الحسبان وليس النموذج والأداء فحسب. يمكن للمرء أن يقول إن الناموسيات المجانية لم تكن مخصصة قط لأشخاص مثل ألبرت، فهو ببساطة كان خارج نطاق المستهدفين من المشروع، لكن ذلك يعني ضياع فرصة كبيرة. لا يمكن توزيع الناموسيات على نطاق واسع من دون مراعاة المنظومة برمتها، ما يجعل القضاء على الملاريا مستحيلاً.
منشأ التفكير التصميمي
تأسست شركة آيديو (IDEO) في عام 1991 نتيجة الاندماج بين شركة ديفيد كيلي ديزاين (David Kelley Design) التي صممت أول ماوس كمبيوتر لشركة أبل عام 1982، وشركة آي دي تو (ID Two) التي صممت أول كمبيوتر محمول عام 1982. ركزت شركة آيديو في بادئ الأمر على أعمال التصميم التقليدية للأعمال التجارية، فصممت منتجات مثل المساعد الرقمي الشخصي بالم في (Palm V)، وفرشاة أسنان أورال-بي (Oral-B)، وكراسي ستيل كيس (Steelcase). وهي من المنتجات التي تُعرض في مجلات تعنى بنمط الحياة أو على منصات في متاحف الفن الحديث.
ازداد الطلب من شركة آيديو في عام 2001 لمعالجة مشكلات بدت بعيدة كل البعد عن التصميم التقليدي. طلبت منا إحدى مؤسسات الرعاية الصحية المساعدة على إعادة هيكلها التنظيمي، وأرادت شركة التصنيع التي يبلغ عمرها قرناً من الزمان أن تفهم عملاءها على نحو أفضل، كما أرادت إحدى الجامعات إنشاء بيئات تعليمية بديلة للقاعات الدراسية التقليدية. نقل هذا النوع من العمل شركة آيديو من تصميم المنتجات الاستهلاكية إلى تصميم تجارب المستهلكين.
لتمييز هذا النوع الجديد من أعمال التصميم، بدأنا نشير إليه بالتصميم الجديد. لكن لم تبدُ هذه العبارة مُرضية تماماً. أشار مؤسس معهد هاسو بلاتنر للتصميم في جامعة ستانفورد (Stanford University’s Hasso Plattner Institute of Design)، المعروف أيضاً باسم كلية دي سكول (d.school)، ديفيد كيلي إلى أنه يجد نفسه يُدخل كلمة "التفكير" لشرح ما يفعله المصممون في كل مرة يسأله أحدهم عن التصميم. وحينها علق مصطلح "التفكير التصميمي" في الأذهان.
يستفيد نهج التفكير التصميمي من القدرات التي نمتلكها جميعاً ولا تستفيد منها النُهج التقليدية لحل المشكلات، فهو لا يركز على ابتكار منتجات وخدمات تتمحور حول الإنسان فحسب، لأن آلية عمله نفسها تُركّز على الإنسان. يعتمد التفكير التصميمي على قدرتنا على الحدس، والتعرف على الأنماط، وبناء أفكار لها أهمية عاطفية بالإضافة إلى قدرتنا على الأداء والتعبير عن أنفسنا بوسائل أخرى غير الكلمات أو الرموز. لا نقول إن إدارة المؤسسات يجب أن تعتمد على المشاعر والحدس والإلهام، لكن الاعتماد المفرط على العقلانية والتحليل يمكن أن يحمل القدر نفسه من الخطورة. يوفر التفكير التصميمي مساراً ثالثاً باعتباره نهجاً متكاملاً لعملية التصميم.
من الأفضل أن يُنظر إلى عملية التفكير التصميمي على أنها نظام من المجالات المتداخلة وليس سلسلة من الخطوات المنظمة، وتلك المجالات هي الإلهام، والتفكير والتنفيذ. يمثل الإلهام المشكلة أو الفرصة التي تحفز البحث عن حلول؛ والتفكير عملية توليد الأفكار وتطويرها واختبارها؛ والتنفيذ المسار الذي يقود من مرحلة المشروع إلى تجربة الناس.
والسبب في تسميتها مجالات وليس خطوات هو أنها لا تُنفذ بالتتابع دائماً، فالمشاريع تتكرر أكثر من مرة عبر الإلهام والتفكير والتنفيذ، حيث يصقل الفريق أفكاره ويستكشف اتجاهات جديدة. ليس من المستغرب أن يبدو التفكير التصميمي فوضوياً للذين يمارسونه أول مرة، لكن الممارسين يدركون على مدار عمر المشروع أن العملية منطقية وتحقق النتائج على الرغم من اختلاف نموذجها عن العمليات الخطية القائمة على المراحل التي تنفذها المؤسسات عادةً.
الإلهام
صحيحٌ أن المصممين لا يتناولون دائماً المجالات الثلاثة بخطوات متتابعة، لكن عملية التصميم تبدأ عموماً بمجال الإلهام؛ أي المشكلة أو الفرصة التي تحفز الناس على البحث عن حلول. ونقطة البداية التقليدية لمرحلة الإلهام هي الموجز. والموجز هو مجموعة من الحدود الذهنية التي تمنح فريق المشروع إطار عمل يمكن الانطلاق منه، ومعايير يمكن من خلالها قياس التقدم المحرز، ومجموعة من الأهداف المراد تحقيقها مثل النقطة السعرية والتكنولوجيا المتاحة وشريحة السوق.
وكما تختلف الفرضية عن الخوارزمية، يختلف الموجز عن التعليمات وعن محاولة الإجابة عن السؤال قبل طرحه. إذ يتيح الموجز الجيد الصياغة المجال للصدفة وعدم القدرة على التنبؤ والتقلبات والتغيرات؛ أي المجال الإبداعي الذي تنبثق منه الأفكار المبتكرة. وفي حال كان الموجز فضفاضاً أكثر من اللازم فسيتوه فريق المشروع، أما إذا كان ضيقاً أكثر من اللازم فستكون النتائج محدودة ودون المستوى المطلوب غالباً.
بمجرد الانتهاء من الموجز يبدأ فريق التصميم في اكتشاف احتياجات الناس. من النادر أن تسفر الأساليب التقليدية عن رؤى مهمة، مثل مجموعات التركيز والدراسات الاستقصائية. في معظم الحالات تسأل هذه الأساليب الناس عما يريدونه فحسب، لأن الأبحاث التقليدية مفيدة في الإشارة إلى التحسينات التدريجية، لكنها لا تؤدي عادة إلى هذا النوع من الإنجازات التي نتساءل باستغراب لماذا لم يفكر أحد فيها من قبل.
عبّر هنري فورد عن فهمه لذلك عندما قال: "لو سألت زبائني عما يريدونه، لقالوا لي 'حصاناً أسرع'. لا يستطيع الناس في كثير من الأحيان أن يخبرونا ما هي احتياجاتهم، ولكن سلوكياتهم الفعلية تزودنا بأدلة لا تقدر بثمن حول مجموعة احتياجاتهم غير المُلباة.
البداية الأفضل هي أن يخرج المصممون إلى المجتمع ويراقبوا التجارب الفعلية لصغار المزارعين وأطفال المدارس والعاملين في مجال الصحة المجتمعية في أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية. من المهم أيضاً التعاون مع الشركاء المحليين الذين يعملون مترجمين فوريين ومرشدين ثقافيين، بالإضافة إلى تقديم المصممين إلى المجتمعات المحلية، ما يساعد على بناء المصداقية بسرعة وضمان التفاهم. من خلال "'الإقامة مع العائلات" وملازمة السكان المحليين في وظائفهم ومنازلهم، يندمج المصممون التفكيريون في حياة الناس الذين يصممون لهم الحلول.
في بداية عام 2010، التحقت الطالبة في جامعة إيميلي كار للفنون والتصميم (Emily Carr University of Art and Design) في مدينة فانكوفر، في مقاطعة بريتيش كولومبيا الكندية كارا بيكنولد بفترة تدريب في جمعية تعاونية نسائية في رواندا. كانت مهمتها تصميم موقع على شبكة الإنترنت لربط النساجات الروانديات الريفيات بالعالم. وسرعان ما اكتشفت بيكنولد أن النساجات لا يمتلكن أجهزة الكمبيوتر ولا شبكة إنترنت. وعوضاً عن أن تطلب من الجمعية إنشاء موقع إلكتروني، أعادت صياغة الموجز ووسعت نطاقه حين سألتها عن الخدمات التي يمكن تقديمها للمجتمع لتحسين سبل العيش فيه. استخدمت بيكنولد تقنيات مختلفة للتفكير التصميمي مستفيدة من تدريبها ومن مجموعة أدوات التصميم المتمحور حول الإنسان التي تقدمها شركة آيديو لفهم احتياجات النساء وتطلعاتهن.
لم تكن بيكنولد قادرة على التحدث بلغة النساء، فطلبت منهن توثيق حياتهن وتطلعاتهن بالكاميرا ورسم صور تعبّر عن النجاح في مجتمعهن. تمكنت النساء من معرفة ما هو مهم وثمين بأنفسهن من خلال هذه الأنشطة عوضاً عن الاستعانة بشخص غريب لوضع هذه التصورات بالنيابة عنهن. خلال مدة المشروع، قدمت بيكنولد لكل مشاركة ما يعادل أجر يوم واحد (500 فرنك أو ما يعادل دولاراً تقريباً) لمعرفة ما ستفعله بالمال. منحها ذلك مزيداً من المعلومات عن حياة الناس وتطلعاتهم. وفي الوقت نفسه، اكتشفت النساء أن مبلغ 500 فرنك يومياً يشكل مبلغاً كبيراً قادراً على تغيير حياتهن. ساعدت هذه الرؤية كلاً من بيكنولد والنساء على تحديد أولويات التخطيط للمجتمع.
التفكير
المجال الثاني من عملية التفكير التصميمي هو التفكير. بعد قضاء الوقت في الميدان للمراقبة وإجراء بحوث التصميم، يمر الفريق بعملية جمع المعلومات التي يستخلصون فيها مما رأوه وسمعوه أفكاراً تؤدي إلى العثور على حلول أو فرص للتغيير. يساعد هذا النهج على مضاعفة الاختيارات لخلق خيارات ورؤى مختلفة حول السلوك البشري، التي من الممكن أن تكون رؤى بديلة لتقديم منتجات جديدة أو خيارات بين طرق مختلفة لخلق تجارب تفاعلية. تزداد احتمالية قوة النتائج وقدرتها على الإقناع من خلال اختبار الأفكار المتنافسة.
وكما قال العالم الحائز جائزة نوبل مرتين لينوس باولنغ: "لكي تمتلك فكرة جيدة يجب أن تمتلك أولاً الكثير من الأفكار". تتحدى الأفكار المبتكرة الوضع الراهن وتتميز عن غيرها، فهي مزعزِعة بإبداع، وتوفر حلاً جديداً كلياً للمشكلة لم يكن الكثير من الناس يعلمون أنه متوافر لديهم.
وبطبيعة الحال، المزيد من الخيارات يعني المزيد من التعقيد، وذلك يزيد صعوبة العمل، بخاصة بالنسبة إلى الذين تنطوي وظيفتهم على التحكم في الميزانيات ومراقبة الجداول الزمنية. تقيّد غالبية المؤسسات الخيارات وتفضل الواضحة منها والتدريجية. قد يكون ذلك أكثر فاعلية على المدى القصير، ولكنه يجعل المؤسسة متحفظة وغير مرنة على المدى الطويل. فالتفكير التباعدي هو الطريق إلى الابتكار وليس العائق أمامه.
للوصول إلى تفكير تباعدي، من الضروري وجود مجموعة متنوعة من المشاركين في العملية. يتحلى بهذه الصفة غالباً أشخاص متعددو التخصصات مثل المهندسين المعماريين الذين درسوا علم النفس أو الفنانين الحاصلين على ماجستير في إدارة الأعمال أو المهندسين ذوي الخبرة في التسويق، فهم يتمتعون بالقدرة والاستعداد للتعاون في تخصصات عدة.
يحتاج الفرد إلى أن يتمتع بنقاط قوة في بُعدين لكي يعمل في بيئة متعددة التخصصات؛ أي أن تكون لديه نقاط قوة في تخصصين. يحتاج كل عضو في الفريق إلى امتلاك المهارة الراسخة التي تسمح له بتقديم إسهامات ملموسة في النتائج وهذا ما يمنحه التخصص الأول. والتخصص الثاني يمنح القدرة على التفكير التصميمي. يتعلق الأمر بالتعاطف مع الناس ومع التخصصات التي تتخطى حدود الفرد، ويعبَّر عنه عادة بالانفتاح والفضول والتفاؤل والميل نحو التعلم من خلال الممارسة والتجريب. (هذه هي السمات نفسها التي نبحث عنها في موظفينا الجدد في شركة آيديو).
تنتقل الفرق المتعددة التخصصات عادة إلى عملية عصف ذهني منظمة. تولد المجموعة مئات الأفكار التي تتراوح بين السخيفة والبديهية من خلال طرح سؤال استفزازي واحد في كل مرة. يمكن كتابة كل فكرة على ورقة ملاحظات وتوزيعها على الفريق. تُشجَّع العروض المرئية للأفكار لأنها تساعد الآخرين على فهم الأفكار المعقدة.
إحدى قواعد عملية العصف الذهني تأجيل تقديم الآراء. من المهم عدم تشجيع من يؤدي دور المشكك الذي غالباً ما يكون دوره معوِّقاً وغير منتج كما يشرح توم كيلي في كتابه "الوجوه العشرة للابتكار". وعوضاً عن ذلك، يُشجَّع المشاركون على طرح أكبر عدد ممكن من الأفكار. يتيح ذلك للمجموعة الانتقال إلى عملية تجميع الأفكار وفرزها. من الطبيعي أن ترتفع الأفكار الجيدة إلى القمة، في حين تتراجع الأفكار السيئة في وقت مبكر. تقدم شركة إنوسنتف (InnoCentive) مثالاً جيداً على الطريقة التي ينتج بها التفكير التصميمي مئات الأفكار. أنشأت شركة إنوسنتف موقعاً إلكترونياً يتيح للناس نشر حلول للتحديات التي يحددها الأعضاء، وهم مزيج من المؤسسات غير الربحية والشركات. وقد نشر أكثر من 175,000 شخص حلولاً، من بينهم علماء ومهندسون ومصممون من جميع أنحاء العالم.
دعمت مؤسسة روكفلر فاونديشن (Rockefeller Foundation) 10 تحديات للابتكار الاجتماعي من خلال موقع إنوسنتف وأبلغت عن معدل نجاح بنسبة 80% في تقديم حلول فعالة للتحديات التي تنشرها المؤسسات غير الربحية. نهج الابتكار المفتوح فعال في إنتاج الكثير من الأفكار الجديدة. تقع مسؤولية تصفية الأفكار واختبارها ميدانياً وتكرارها وإيصالها إلى السوق على عاتق المنفذ.
سعت شراكة إنوسنتف مع التحالف العالمي لتطوير أدوية السل (Global Alliance for TB Drug Development) إلى التوصل إلى حل نظري لتبسيط نظام علاج السل الحالي. وأفاد الرئيس التنفيذي لشركة إنوسنتف دواين سبرادلين بأن "هذه العملية مثال رئيسي عن التفكير التصميمي الذي يسهم في الابتكار الاجتماعي، في حالة تطوير دواء السل، كان الفائز عالماً، لكنه خاض التحدي لأن والدته أصيبت بالسل عندما كانت سنه 14 عاماً وكانت المعيل الوحيد للأسرة. كان عليها أن تتوقف عن العمل وتحمّل هو مسؤولية العمل إلى جانب الذهاب إلى المدرسة لإعالة الأسرة". توصل سبرادلين إلى أن مشاريع جمهور إنوسنتف تستفيد من هذه الروابط العميقة والمحفزة غالباً.
التنفيذ
أما المجال الثالث من عملية التفكير التصميمي فهو التنفيذ، حيث تتحول أفضل الأفكار التي تولدت خلال وضع الأفكار إلى خطة عمل ملموسة ومكتملة الرؤية. وضع النماذج الأولية أساس عملية التنفيذ؛ أي تحويل الأفكار إلى منتجات وخدمات فعلية يجري اختبارها وتكرارها وتحسينها.
تضع عملية التفكير التصميمي النماذج الأولية للكشف عن تحديات التنفيذ غير المتوقعة والتبعات غير المقصودة من أجل تحقيق نجاح أكثر موثوقية على المدى الطويل. تكتسب النماذج الأولية أهمية خاصة بالنسبة إلى المنتجات والخدمات الموجهة إلى العالم النامي، حيث يؤدي الافتقار إلى البنية التحتية وسلاسل البيع بالتجزئة وشبكات الاتصالات ومحو الأمية وغيرها من الأجزاء الأساسية في النظام إلى صعوبة تصميم منتجات وخدمات جديدة.
يمكن أن تتحقق النماذج الأولية من صحة أحد مكونات الأجهزة، أو صحة الرسومات على الشاشة، أو أحد التفاصيل في التفاعل بين المتبرع بالدم ومتطوع الصليب الأحمر. قد تكون النماذج الأولية في هذه المرحلة باهظة الثمن ومعقدة ولا يمكن تمييزها حتى عن المنتج الحقيقي. تصبح النماذج الأولية أكثر اكتمالاً مع اقتراب المشروع من الاكتمال والتوجه نحو التنفيذ على أرض الواقع.
بعد الانتهاء من عملية وضع النماذج الأولية وإنشاء المنتج أو الخدمة النهائية، يساعد فريق التصميم على وضع استراتيجية التواصل. يساعد سرد القصص، لا سيما من خلال الوسائط المتعددة، على توصيل الحل إلى مجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة داخل المؤسسة وخارجها، لا سيما عبر الحواجز اللغوية والثقافية.
تقدم مؤسسة فيجن سبرينغ (VisionSpring)، وهي مزود رعاية صحية منخفضة التكلفة للعيون في الهند، مثالاً جيداً عن الطريقة التي تكون بها النماذج الأولية خطوة حاسمة في التنفيذ. أرادت مؤسسة فيجن سبرينغ التي كانت تبيع نظارات القراءة للبالغين أن تبدأ بتوفير رعاية شاملة للعناية بعيون الأطفال. وشملت جهود تصميم مؤسسة فيجن سبرينغ كل شيء بالإضافة إلى تصميم النظارات، بدءاً من تسويق "مخيمات العيون" من خلال مجموعات المساعدة الذاتية إلى تدريب المعلمين على أهمية العناية بالعيون ونقل الأطفال إلى مركز العناية بالعيون المحلي.
من خلال العمل مع مؤسسة فيجن سبرينغ، وضع مصممو شركة آيديو نموذجاً أولياً لعملية فحص العينين مع مجموعة من 15 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 8 و12 عاماً. حاول المصممون أولاً فحص بصر فتاة صغيرة من خلال الاختبارات التقليدية. لكن الفتاة انفجرت في البكاء على الفور، فقد كان ضغط التجربة شديداً جداً وخطر الإخفاق مرتفعاً جداً. طلب المصممون من معلمة الأطفال فحص طالبة أخرى على أمل تخفيف حدة هذا الموقف المتوتر، فبدأت الأخرى البكاء. حينها طلب المصممون من الفتاة فحص معلمتها. أخذت الطفلة المهمة على محمل الجد، في حين كان زملاؤها ينظرون إليها بحسد. وأخيراً، طلب المصممون من الأطفال أن يفحص بعضهم بعضاً ويتحدثوا عن العملية. لقد أحبوا أداء دور الطبيب واحترموا العملية وامتثلوا لها.
من خلال وضع النماذج الأولية وإنشاء خطة تنفيذية لتجربة المشروع وتوسيع نطاقه، تمكنت شركة آيديو من تصميم نظام لفحص العيون يناسب متخصصي مؤسسة فيجن سبرينغ والمعلمين والأطفال. ابتداءً من سبتمبر/أيلول 2009، أجرت مؤسسة فيجن سبرينغ في الهند 10 مخيمات للعيون للأطفال، وفحصت 3,000 طفل، ونقلت 202 طفل إلى مستشفى العيون المحلي، ووفرت النظارات الطبية لـ 69 طفلاً كانوا بحاجة إليها.
وأوضح نائب رئيس المبيعات والعمليات في مؤسسة فيجن سبرينغ بيتر إلياسن قائلاً: "ينطوي فحص الأطفال وتوفير النظارات لهم على العديد من المشكلات الفريدة، لذا لجأنا إلى التفكير التصميمي ليوفر لنا الهيكلية المناسبة لتطوير استراتيجية التسويق والتوزيع". وأضاف إلياسن أن وضع النماذج الأولية أتاح لمؤسسة فيجن سبرينغ التركيز على الأساليب التي تجعل الأطفال يشعرون بالراحة في أثناء عملية الفحص. "والآن بعد أن أصبحنا مؤسسة تعتمد على التفكير التصميمي، نواصل استخدام النماذج الأولية لتقييم قابلية تطبيق أساليب السوق الجديدة وردود فعل أهم عملائنا، وهم رواد الأعمال [أو مندوبو المبيعات] والمستهلكون النهائيون".
المشكلات الشاملة تحتاج إلى حلول شاملة
تستخدم غالبية المؤسسات الاجتماعية بعض جوانب التفكير التصميمي على نحو تلقائي، ولكن معظمها لا يتبنى هذا النهج باعتباره وسيلة لتجاوز نهج حل المشكلات التقليدي المتبع اليوم. بالتأكيد، هناك عوائق أمام تبنّي التفكير التصميمي في المؤسسات. فقد لا تتبنى المؤسسة هذا النهج في المؤسسة برمتها، وربما تعارض اتباع نهج يركز على الإنسان وتخفق في تحقيق التوازن بين وجهات نظر المستخدمين والتكنولوجيا والمؤسسات.
إحدى أكبر العقبات التي تحول دون تبني التفكير التصميمي هي الخوف من الفشل فحسب. قد يكون من الصعب قبول الفكرة القائلة بأنه لا عيب في التجريب والفشل ما داما يحدثان في المراحل الأولى ويشكلان مصدراً للتعلم. لكن ثقافة التفكير التصميمي الحيوية تشجع النماذج الأولية السريعة والرخيصة وغير المكتملة باعتبارها جزءاً من العملية الإبداعية وليست وسيلة للتحقق من صحة الأفكار النهائية وحسب.
وكما قالت مديرة إدارة المعرفة والتواصل في مؤسسة أكيومن فاند (Acumen Fund) ياسمينة زيدمان: "تتطلب الأعمال التجارية إبداعاً مستمراً وحل المشكلات باستمرار، لذا فإن التفكير التصميمي عامل نجاح حقيقي لخدمة قاعدة الهرم الاقتصادي". يمكن للتفكير التصميمي أن يؤدي إلى مئات الأفكار وصولاً إلى حلول واقعية تحقق نتائج أفضل للمؤسسات والناس الذين تخدمهم.