ما هي أجندة بدء التغيير التي تعزز تأثير المؤسسات الاجتماعية؟

6 دقيقة
التغيير الاجتماعي المستدام
shutterstock.com/MIA Studio

الملخص: يجب على مؤسسات العمل المجتمعي أن تتجاوز بجهودها مجرد توجيه الانتباه إلى المشاكل والتوعية بها ومنع الممارسات الضارة، وتركز أيضاً على تنفيذ الحلول، لأن التغيير المستدام يستند إلى خطة لبدء التغيير وتنفيذه. وهناك 3 خطوات حاسمة لتحقيق التغيير الدائم؛ هي نشر الوعي في المجتمع بالمشكلة، وتسليط الضوء على مشكلات استمرار الوضع الراهن وتكلفته، وتنظيم مراحل تنفيذ التغيير المنشود. لذلك، تتعثر مؤسسات عديدة لأنها تحصر تركيزها على الخطوة الأولى، إذ إن الوصول إلى توافق على الحلول أصعب بكثير من الاتفاق على وقف الممارسات الضارة دون تقديم مسار بديل واضح. وهناك نماذج عديدة على مؤسسات العمل المجتمعي التي نجحت في تنفيذ هذه الآلية وتقديم حلول متكاملة للمشكلات بطريقة تضمن تغييراً مستداماً مثل مؤسسة وورث رايزز (Worth Rises) التي تمكنت من وقف الممارسات التجارية الجشعة لشركات الاتصالات، التي تفرض على المساجين نحو دولار في الدقيقة لإجراء مكالمة هاتفية عادية، ودعمت ودعت إلى تشريعات وقوانين من المتوقع أن توفر على المساجين والمحتجزين وعائلاتهم أكثر من 500 مليون دولار سنوياً.

في عام 2017، كتب أستاذ علم الاجتماع كينيث أندروز في مقال رأي نشرته صحيفة نيويورك تايمز، أن الحركات الاجتماعية التي نجحت في إحداث تغيير دائم كانت بحاجة إلى تنفيذ 3 مهام بنجاح هي نشر الوعي بالمشكلة بين الناس وجذب انتباههم إليها، وهو ما أسميه "طاقة الإيقاف"؛ وزعزعة الواقع عن طريق تعميم التغيير الذي تسعى إلى إحداثه بحيث تصبح "تكلفة دعم الوضع الراهن باهظة" على حد تعبيره؛ إلى جانب تنظيم عملية تنفيذ التغيير المنشود، وهي مهمة لا تقل أهمية عن المهمتين السابقتين. وأضاف أندروز أن عدم تنفيذ المهام الثلاث بالكامل سيؤدي في النهاية إلى تقويض قدرة الحركات الاجتماعية على إحداث تغيير دائم. وكما أكدت الأستاذة المساعدة في السياسة العامة بجامعة هارفارد، ليز مكينا: "غالباً ما تعمل الحركات الاجتماعية على مدى سنوات أو عقود، وأكثرها نجاحاً يبني منظومة مؤسسات مرنة بوسعها إعادة توزيع القوى تدريجياً لتصبح ذات أثر مستدام بدلاً من حشدها مؤقتاً لتحقيق أثر قصير الأمد فقط".

بعد مرور 7 سنوات أثبتت غالبية الحركات الاجتماعية صحة هذه النظرية، ذلك أن المبادرات التي يقتصر تنظيمها على هدف إيقاف المشكلة غالباً ما تنتهي عند إتمام هذه المهمة، ولكن هذا ليس ما ترمي إليه جهود "طاقة الإيقاف" (Stop Energy)، (وهو مصطلح صاغه الكاتب ورائد الأعمال ديف وينر لوصف تجربة شائعة في تطوير التكنولوجيا)، فما هو السبب؟ عند دراسة عدد من المبادرات الاجتماعية الحديثة، التي بدأت بتنظيم جهودها لإيقاف سياسة أو إجراء ما، تبيّن في الغالب أنه من السهل نسبياً بدء جهود "طاقة الإيقاف" لأنها لا تتطلب إجماع الآراء حول سبب المشكلة. وفي المقابل، نجد أن إطلاق "طاقة البدء"، المشار إليها باسم "أجندة بدء التغيير" (Start Agenda)، صعب جداً لأنها تتطلب اتفاقاً حول السياسة أو الإجراء غير المرغوب فيه إلى جانب الإجماع على السياسة أو الإجراء البديل. وفي حين نلاحظ ذلك النموذج غالباً فيما يطلق عليه علماء السياسة والاجتماع "الفيتوقراطية" (vetocracy)، التي عرّفها الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان بلغة مبسطة عام 2012 بأنها "نظام لا يمكن لأحد فيه حشد ما يكفي من القوة لصنع أي قرار مهم"، فإن هذا النموذج حاضر في الحركات الاجتماعية ولكنه ليس واضحاً.

لقد ركزت دراسات وأبحاث عديدة على مدى فعالية الحركات الاجتماعية، لكن القليل منها طبّق هذه الإجراءات الضرورية على المؤسسات الاجتماعية التي يجب أن تنفذ المهام الثلاث، وإن اختلفت في طرق التنفيذ: تحديد المشكلة التي يجب إيقافها؛ ونشر الوعي بالحل الذي تقدمه في المجتمع أو إثبات مفهومه من أجل تحفيزه على تبنّي الحل؛ ثم تنظيم كياناتها لتكون قادرة على التوسع في تنفيذ ذلك الحل.

بصفتنا مستثمرين نقيّم محفظتنا الاستثمارية ونستكشف الفرص المحتملة، نقضي وقتاً طويلاً في فهم المشكلة التي تحاول المؤسسة حلها والقيود التي تريد التخلص منها. كما نقضي القدر نفسه من الوقت في التركيز على ما تراه المؤسسة حلاً ومن عليه في النهاية أن يتبناه ويموّله، بما ينطوي عليه ذلك من بناء علاقات وتواصل مع أطراف أخرى. وتلك المؤسسات بطبيعتها تعرف ما تريد إيقافه والبديل المناسب له، ونتيجة لذلك تتجنب مزلق التركيز على إيقاف المشكلة فقط.

الحركات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية، التي لا تركز إلا على المشكلة التي تراها وترغب في القضاء عليها، سواء تمثلت في مشكلة التشرد أو عدم المساواة في تطبيق العدالة الجنائية أو التوسع في إتاحة خدمات الرعاية الصحية مثلاً، عاجزة غالباً عن تنفيذ حل بديل للوضع الذي تريد إيقافه، مثل مخيمات إيواء المشردين أو عدم المساواة بين الجنسين في الملاحقة القضائية وإصدار الأحكام أو عدم المساواة في إتاحة الرعاية الصحية. صحيح أنها تلفت الانتباه إلى المشكلة، ولكنها تفشل غالباً في تقديم حل بديل مستدام.

من أوضح الأمثلة على قوة الجمع بين طاقة الإيقاف وأجندة بدء التغيير هو عمل مؤسسة وورث رايزز (Worth Rises) على وقف الممارسات التجارية الجشعة لشركات الاتصالات، التي استغلت حاجة المساجين والمحتجزين الإنسانية للتواصل مع العائلة والأصدقاء. وقدمت المؤسسة، في مقال نشره موقع ذي أبيل (The Appeal) الإلكتروني في أبريل/نيسان 2024، نموذجاً لقوة الجمع بين طاقة الإيقاف وأجندة بدء التغيير.

استخدمت وورث رايزز طاقة الإيقاف مستهدفةً أكبر شركة مشغّلة لشبكة اتصالات السجون في البلاد، سيكيورس (Securus)، التي يغطي نشاطها الولايات الخمسين كافة، وكانت حتى وقت قريب تفرض على المساجين نحو دولار في الدقيقة لإجراء مكالمة هاتفية عادية. فمارست المؤسسة الضغط على الشركة مباشرة ومنعتها من إبرام صفقات الاندماج وأجبرت مسؤوليها التنفيذيين على الخروج من عضوية مجالس المؤسسات الثقافية، واستفادت من قاعدة مستثمريها في منع الشركة من إدراج أسهمها في أسواق رأس المال. ونتيجة لذلك، تخلفت شركة الاتصالات عن سداد أكثر من مليار دولار من الديون في وقت سابق من هذا العام وأصبح مستقبلها على المحك.

يرجع جانب من نجاح وورث رايزز في إيقاف هذا القطاع الجشع إلى أسلوبها في تنفيذ أجندة بدء التغيير بالتزامن مع جهود طاقة الإيقاف، التي أحدثت تغييراً جذرياً في طريقة عملها. وبعد أن حققت انتصاراتها الأولى في مدينتي نيويورك وسان فرانسيسكو، ساندت وورث رايزز بقوة اتجاهاً في مجالس الولايات التشريعية يدعو إلى حظر رسوم الاتصالات المرتفعة هذه وتوفير خدمات اتصال مجانية بدلاً منها في سجون الولايات. وبالفعل، مررت 5 ولايات هذه التشريعات، بدءاً من كونكتيكت وصولاً إلى كاليفورنيا. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ دعت وورث رايزز كذلك لتمرير قانون "مارثا رايت-ريد" (Martha Wright-Reed) للاتصالات العادلة والمعقولة التكلفة في الكونغرس الذي يتيح توسيع صلاحيات لجنة الاتصالات الفيدرالية وتفويضها لتنظيم نشاط شركات الاتصالات في السجون. وصدرت القوانين الجديدة في وقت سابق من هذا الصيف، ومن المتوقع أن توفر على المساجين والمحتجزين وعائلاتهم أكثر من 500 مليون دولار سنوياً، وفقاً لتقديرات وورث رايزز.

على صعيد آخر، ركزت مؤسسات غير ربحية على الحد من مشكلة التشرد. وفي حين استهدفت جهود عديدة في السابق رؤساء البلديات ومجالس المدن لوقف التشرد، لم يمتلك سوى قليل منها أجندة لبدء التغيير من أجل تنفيذ الحل البديل. وكانت جهود مؤسستَي ديغنيتي موفز (Dignity Moves) وباليت (Pallet) من الأمثلة على ذلك، حيث قدمتا للمدن حلولاً سكنية وأخرى أشمل تتعدى مجرد حظر بناء مخيمات المشردين أو نومهم في الأماكن العامة، فهو إجراء لا يحل المشكلة أبداً، إذ تقدم ديغنيتي موفز حلولاً تشمل توفير رأس المال اللازم لبناء وحدات الإسكان الطارئ المؤقتة وإدارة مشروع البناء أيضاً، كما تساعد في دراسة الخدمات الشاملة التي يقدمها المزودون المحليون لإدارة الحالات بهدف تحسينها. أما مؤسسة باليت، فتساعد المدن في تلبية حاجتها لوحدات الإسكان الطارئ الميسورة التكلفة والسريعة التنفيذ لخدمة مواطنيها. وإضافةً إلى ذلك، تضم المؤسسة موظفين يتمتعون بخبرة واسعة في التعامل مع مشكلة التشرد، وهي تدرك أهمية تصميم مناطق الإسكان المؤقت التي تساعد على تسريع انتقال السكان إلى وحدات سكنية دائمة وتوظيفهم.

تقدم مؤسسة ريسيديفيز (Recidiviz) نموذجاً آخر، فهي تكرس جهدها لتقليل حالات السجن والاحتجاز، وهي ليست مؤسسة مناصرة تركز على الاحتجاج على أنظمة العدالة الجنائية في الولايات، بل تتعاون مع هيئات إدارة السجون في الولايات كلها لتصميم برمجيات تحدد الأفراد الذين اقترب موعد الإفراج عنهم بأمان لتيسير إتمام الأعمال الورقية اللازمة، ما يمكّن موظفي هذه الهيئات من تحديد الأشخاص المؤهلين ونقلهم عبر النظام بكفاءة أكبر. كما أن أجندة بدء التغيير في مؤسسة ريسيديفيز مستندة إلى البيانات، إذ تكرس عملها بالكامل للتعاون مع هيئات إدارة السجون التي تتجاوب معها نتيجة لنقص الموظفين أو تقلص الميزانيات والحاجة إلى تخفيف أعباء العمل، وحتى لا يعاني موظفوها من الاحتراق الوظيفي. ويجسد هذا الالتزام الجاد بأجندة بدء التغيير؛ أي تعريف المجتمع بالحل وتنفيذه بغض النظر عن دافع الجهة الراعية، ما وصفه أندروز بقوة بناء الثقافة التنظيمية المتصوّرة والقدرة على إحداث تغيير حقيقي. والفرد الذي يستحق الإفراج عنه وعودته إلى عائلته هو النتيجة التي يرجوها الجميع، بغض النظر عن الدافع وراء تنفيذ هذه الإجراءات.

في عصر التحديات المجتمعية المستمرة، غالباً ما يكون رأس المال البشري هو المورد الأعلى قيمة لدينا. ويقتضي استخدامه المدروس في مواجهة تلك التحديات التفكير في المهام الثلاث التي حددها أندروز؛ طاقة الإيقاف للتركيز على المشكلة، والحل البديل للوضع الذي أوقفناه، وإدراك واضح لمن عليه تبنّي حل المشكلة. وسوف يؤدي العجز عن تنفيذ هذه المهام الثلاث مجتمعة إلى العجز عن تحقيق الأثر المنشود، بل قد يؤدي إلى ما هو أسوأ، ألا وهو ترسيخ الوضع الذي تريد إيقافه.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي