شخص من ذوي الهمم يواجه صعوبة في الحركة والانتقال داخل المدن، وكبير في السن يفتقر إلى خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية مع دخوله مرحلة التدهور المعرفي "الخرف". إنهما للأسف مثالان على فئات مستضعفة لا تتمتع بالميزات المتاحة للعامة، لكن عند وضع معيار إمكانية الوصول في صميم بناء المدن فإن هياكلها وخدماتها سوف تصبح شاملة للجميع.
الحاجة إلى نهج شامل للتخطيط الحضري
تنتشر الشيخوخة بوتيرة سريعة، إذ من المتوقع أن ترتفع نسبة سكان العالم الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً من 12% إلى 22% تقريباً بحلول عام 2050، وسيعيش 80% من كبار السن في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ويمثل ذوو الهمم حالياً واحداً من كل ستة أشخاص على مستوى العالم، ويواجهون العديد من العوائق التي تحول دون اندماجهم الفعّال في المدن، مثل عدم إمكانية الوصول إلى وسائل النقل والأماكن العامة والحصول على التعليم والوظائف.
مع توسع نطاق التحول الحضري، تبرز أهمية التصميم المرتكز على العنصر البشري لإبقاء احتياجات السكان أولوية، بغض النظر عن أعمارهم أو قدراتهم العقلية والجسدية، للمشاركة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
فهناك أطر وتحركات تدعم حقوق الفئات الضعيفة في المجتمع، منها اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الهمم (CRPD)، وإطار المدن الصديقة لكبار السن الذي وضعته منظمة الصحة العالمية لمساعدة الدول على تحديد العوائق التي تحول دون رفاه كبار السن ومشاركتهم ومعالجتها، كما اعتُبرت إمكانية الوصول شرطاً مسبّقاً لكبار السن وذوي الهمم للعيش بشكل مستقل والمشاركة الكاملة في المجتمع، وتتضمن أهداف التنمية المستدامة مساعي لتشكيل مجتمع مستدام ومستقبل حضري أكثر شمولاً يتيح إمكانية الوصول للجميع.
ولا تقتصر إمكانية الوصول في المدن على استخدام منحدرات الكراسي المتحركة والرصْف الملموس؛ بل تتعداه إلى النهج الشامل للتخطيط الحضري الذي يركز أيضاً على الجانب الحسي، ويشمل ذلك دمج ميزات مثل لافتات بلغة "برايل"، والخرائط اللمسية، والإشارات الصوتية عند معابر المشاة، بما يضمن قدرة الأشخاص الذين يعانون إعاقات بصرية أو سمعية على التنقل بسهولة.
كما يعد الوصول إلى المعلومات أمراً حيوياً في العصر الرقمي، إذ تحتاج المدن إلى التأكد من أن المعلومات حول الخدمات العامة، وجداول النقل، والأحداث متاحة للجميع.
فما الذي يحول دون بناء مدن شاملة للجميع؟
قد لا تتمكن المدن من تحقيق معيار الشمول وإمكانية الوصول بسبب:
- عدم إشراك الفئات الضعيفة وخاصة ذوي الهمم وكبار السن في تخطيط التنمية الحضرية وتصميمها ومتابعتها.
- غياب المؤشرات المستخدمة في تصميم سياسات التخطيط الحضري واستراتيجياته التي يمكنها رصد الشمول وقياسه.
- الافتقار إلى بيانات شاملة تُصنف الفئات المستضعفة تصنيفاً أفضل وتوضح الحواجز التي تحول دون حصولها على الخدمات المتاحة في المدن.
- ضعف التنسيق بين القطاعات المختلفة بشأن الإدماج وإمكانية الوصول.
- قلة وعي صانعي السياسات والمخططين الحضريين ومقدمي الخدمات والمصممين حول الفوائد الاجتماعية والاقتصادية والابتكارية للشمول وإمكانية الوصول.
- عدم وضع ميزانيات وآليات تمويل شاملة تساعد على تحمل تكاليف إنشاء أماكن ومساحات حضرية لجميع المواطنين.
مدينة صديقة للخرف وبيئة عمل ملائمة لذوي الهمم
يمكن كسر الحواجز التي تعوق بناء مدن أكثر شمولاً من خلال اعتماد سياسة تنمية حضرية شاملة يتعاون فيها القطاعان العام والخاص، ففي اليابان مثلاً هناك تراجع في معدل المواليد ومن المتوقع أن يعاني واحد من كل خمسة من كبار السن من الخرف بحلول عام 2025، وعليه، تسعى مدينة فوكوكا لتصبح مدينة صديقة للخرف، من خلال التعاون بين الحكومة والمؤسسات الخاصة والجامعات والمواطنين لتصميم مدينة مناسبة لكبار السن الذين يعانون التدهور المعرفي.
ويقوم مشروع المدينة الصديقة للخرف على استراتيجيات وبرامج لتصميم بنية تحتية تضمن استمرار المرضى في العيش بحيوية في مجتمعهم، وتنظيم ورش لتدريب المقيمين على كيفية التواصل مع المرضى ورعايتهم؛ وقد شارك بالفعل 8,357 شخصاً في 180 ندوة.
واعتمد أكثر من 50 منشأة في فوكوكا إرشادات التصميم الملائمة لمرضى الخرف، وأسهم بنك أورانج تالنت (Orange Talent Bank) في توفير فرص عمل لـ 138 شخصاً يعانون أعراض خرف خفيفة ليتمكنوا من العيش بنشاط لفترة أطول.
وفي أميركا، تعمل شركة فيرتكل هارفست (Vertical Harvest) مع المجتمعات المحلية لتطوير المساحات الزراعية غير المستغلة في الأحياء الحضرية المحرومة، وصممت نموذج غرو ويل (Grow Well) لتوفير فرص العمل المخصصة للسكان الذين يعانون البطالة الجزئية، مثل ذوي الهمم، وأعطت الأولوية لإمكانية الوصول والقدرة على تحمل التكاليف عبر تقديم الخدمات الشاملة بما في ذلك محو الأمية المالية، والرعاية الصحية وتأمين وسائل نقل ومساكن يمكن الوصول إليها لجعل بيئة العمل أكثر سهولة لـ 40% من موظفيها الذين لديهم عجز.
ونجحت قطر خلال استضافتها لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 في خلق تجربة فريدة للمشجعين من ذوي الهمم، إذ حوّلت مترو الدوحة إلى أكثر الأماكن ملاءمة لذوي القدرات البصرية الخاصة من خلال الإعلانات الصوتية والعلامات الأرضية، وجعلت 80% من المواقع الرئيسية سهلة الوصول بالنسبة لمستخدمي الكراسي المتحركة، وخصصت غرف المساعدة الحسيّة للمشجعين من ذوي القدرات الذهنية الخاصة، وأولت لذوي الهمم دوراً كبيراً في تصميم ملاعب البطولة ومرافقها للتأكد من أنها مبنية وفق أفضل المعايير الدولية لتلبية متطلباتهم.
تُظهر هذه القصص أنه يمكن جعل المدن أكثر سهولة وشمولاً من خلال العمل مع المجتمع وليس من أجله فقط، إذ يمكن للمتأثرين على نحو مباشر بعدم المساواة تشخيص الحواجز الهيكلية واقتراح الحلول الأكثر فعالية للاحتياجات المُلحة على نحو أفضل.
ومع تزايد التحديات المرتبطة بعدم المساواة وتهميش الفئات الضعيفة؛ تحتاج المدن إلى تغيير العقلية والانتقال من ثقافة "الاهتمام بالداخل" إلى ثقافة "التواصل" وبناء التحالف مع مجموعات قوية من الشركاء للوصول إلى حلول أكثر فعالية.