يروي أحد طلاب الجامعات قصته مع التطوع، ويقول: "عشت أغلب مرحلة المراهقة والشباب مؤمناً بأن العالم يرتكز حول احتياجاتي ورغباتي فقط، لكن عالمي بدأ يتغير عندما بدأت التطوع، وساعدني ذلك في اكتساب منظور مختلف للحياة. عندما عملت في وحدة العناية المركزة للقلب في المستشفى المحلي؛ لم يكن لدي خلفية طبية أو تدريباً خاصاً، لكن كل ما يمكنني تقديمه للمرضى هو الابتسامة والتحدث مع أقارب المريض في غرفة الانتظار وطمأنتهم".
تقدر المجتمعات أهمية التطوع ذي القيمة المادية، لكن المال لا يعني شيئاً للمتطوعين، فمعظمهم يريد التطوع لمساعدة الآخرين وإحداث فرق في حياة من هم أقل حظاً.
علاقة التطوع بالضبط الاجتماعي
تمثل فئة الشباب أداة حيوية للتغيير، ومشاركتهم في التطوع وخدمة المجتمع تساعدهم في إنجاز المسؤوليات التي تولد لديهم مشاعر الولاء والارتباط بالمجتمع والإحساس بقيمتهم، لذا عمل الباحثان السعوديان، جميلة أبو رشيد الحربي وفهد بن سلطان السلطان على دراسة بعنوان:التطوع كوسيلة لتحقيق الضبط الاجتماعي: دراسة تطبيقية على طلاب وطالبات جامعة أم القرى، لمعرفة العلاقة بين التطوع والضبط الاجتماعي لدى طلاب الجامعة، ومعرفة دوافع العمل التطوعي لديهم والمعوقات التي تحول دون مشاركتهم بالأعمال التطوعية.
وتوصلت الدراسة التي شملت 362 من طلاب جامعة أم القرى السعودية، إلى أن الإناث أكثر إيجابية نحو العمل التطوعي من الذكور، وكلما زاد التطوع، زاد الضبط الاجتماعي، وأوصت الدراسة بضرورة غرس القيم الإيجابية لتدعيم المشاركة في العمل التطوعي والامتثال الطوعي للقيم والمعايير التي تحقق الضبط الاجتماعي للمتطوعين، والعمل على زيادة التوعية بأهمية العمل التطوعي، وإنشاء وكالة للعمل التطوعي في كل جامعة.
ويُمثل الضبط الاجتماعي مجموعة من القوى التي يمارسها المجتمع على أفراده، لضبط سلوكهم وأساليب تفكيرهم لضمان سلامة البناء الاجتماعي والحرص على استقرار نظمه ومحاربة مظاهر الانحراف من خلال التمسك بالقيم المرغوبة والمقبولة، وبحسب دراسة مصرية بعنوان: تصور مقترح لدعم ثقافة التطوع للشباب الجامعي لتحقيق الأمن المجتمعي من منظور طريقة تنظيم المجتمع، يسهم التطوع في القضاء على الصراع والمنافسة بين أفراد المجتمع، والوقاية من الجريمة.
ويؤثر التحكم السلوكي والمعايير الذاتية في نية التطوع لدى الشباب، وفق ما بينته دراسة يمنية بعنوان: الدوافع الرئيسية لنية التطوع بين الشباب في اليمن، وعليه، يساعد فهم دوافع الشباب للتطوع في تحقيق الانضباط الاجتماعي من خلال الأنشطة الخدمية.
عوامل الامتثال لمعايير المجتمع
تساهم الرقابة الاجتماعية في نمو الأفراد وتوفير مجتمع أكثر إنتاجية، على سبيل المثال، من المرجح أن تكون الأماكن التي ترتفع فيها معدلات الجريمة هي المكان الذي يزداد فيه مستوى الفقر، ومن منظور الضبط الاجتماعي؛ فإن علاقات الناس والتزاماتهم وقيمهم ومعتقداتهم تشجعهم على عدم خرق القانون.
يمكن استخدام الضوابط الاجتماعية كوسيلة لدعم النظام والقضاء على الفوضى، وفهم المجتمع والعوامل التي تقود إلى تغيّره، ومعرفة العوامل المؤثرة في سلوك الأفراد، وسبل مواجهة السلوك المنحرف قبل أو بعد وقوعه، ما يؤدي إلى إيجاد حالة من التوازن داخل المجتمع.
ونظر عالم الاجتماع الأميركي ترافيس هيرشي (Travis Hirsch) إلى الضبط الاجتماعي في كتابه أسباب الجنوح (Causes of Delinquency) عام 1969 على أنه امتثال الأفراد للقانون، واعتبر أن الانحراف أمر طبيعي وسوي، وبالتالي فإن الامتثال هو محور التساؤل الذي يستحق التفسير. وفسّر هيرشي في نظريته للضبط الاجتماعي العوامل التي تربط الفرد بالمجتمع، وتؤدي إلى امتثاله لمعايير المجتمع، وهي:
- الارتباط: يعد ارتباط الفرد بمجتمعه من أهم العوامل التي تدفعه للامتثال، ومن خلال الاشتراك في أنشطة التطوع المختلفة؛ سيبني الأفراد علاقات قوية مع غيرهم من المتطوعين.
- الالتزام: يساعد اهتمام المتطوع بالأهداف المجتمعية على توجيه طاقته بعيداً عن السلوكيات غير السليمة، والتزام الأفراد بالأعمال التطوعية يكسبهم مكانة وشهرة في مجال التطوع؛ لذا يأخذون في الاعتبار المخاطر المترتبة على أي سلوك غريب قد يقومون به و يزعزع مكانتهم.
- الاندماج: يساعد الانخراط في الأعمال التطوعية الأفراد في تقليل أوقات فراغهم، وبالتالي ابتعادهم عن السلوكيات المنحرفة والتفكير فيها.
- الاعتقاد: يعكس هذا العامل نظرة الشخص لعدالة قوانين المجتمع، ما يُحتم عليه احترامها وشعوره بالتزام أخلاقي تجاهها وفي إطار العمل التطوعي؛ يمكن تفسير هذا العامل بأن اعتقاد الفرد بعدالة قوانين التطوع لكل المتطوعين تساعده في الالتزام بتلك القوانين والامتثال لها، ما يؤثر في كافة مناحي حياته.
الآثار الإيجابية للتطوع على المجتمع
يُشعرنا التطوع بأننا أكثر ارتباطاً بالآخرين، ونصبح أكثر استعداداً لمواجهة ضغوط الحياة اليومية العادية. نشارك تجاربنا مع الآخرين وتتملكنا الرغبة بتقديم المزيد من المساعدة، ويمكن تلخيص فوائد التطوع التي تصب في إطار الانضباط الاجتماعي فيما يلي:
- بناء المجتمع
يخلق العمل التطوعي روابط أقوى بين الأصدقاء والعائلة وزملاء العمل، إذ يبني الأشخاص علاقات أفضل وأكثر قوة مع الأشخاص الذين يعملون معهم، ما يعزز بناء المجتمع واستقراره.
- إنهاء الشعور بالوحدة
تؤثر الوحدة سلباً في سلوك الأفراد، وبحسب حملة إنهاء الوحدة (Campaign to End Loneliness) فإن نحو 45% من سكان المملكة المتحدة يشعرون بالوحدة. علاوة على ذلك، توصلت دراسة بريطانية أجرتها مؤسسة الارتباط والعلاقات إسكتلندا (Relate and Relationships Scotland) إلى أن واحد من كل عشرة بالغين ليس لديهم أصدقاء مقربين؛ وبالتالي أبسط طريقة للقضاء على العزلة الاجتماعية هي التطوع.
- زيادة التنشئة الاجتماعية
من الناحية الاجتماعية، تظهر فوائد التطوع بسرعة ولها آثار طويلة المدى، إذ يُحسّن التفاعل الاجتماعي الصحة العقلية والجسدية، ويقلل خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق، وبالتالي يحافظ على السلوك السوي للأفراد.
- تطوير الاستقرار العاطفي
قد يساعد العمل التطوعي في علاج الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة وتدني احترام الذات وحتى اضطراب الوسواس القهري؛ فعندما يتطوع الأشخاص المصابون بالوسواس القهري أو اضطراب ما بعد الصدمة، يشعرون بأنهم أكثر ارتباطاً بالآخرين ما يؤدي إلى تحسين دورهم في المجتمع.
- تنمية مجتمعات الشركات
يمثل انخراط الشركات في العمل الخيري أحد أهم الاتجاهات في مجال التطوع اليوم، فباتت الشركات الكبرى تدعم البرامج المحلية والوطنية مالياً أكثر من أي وقت مضى، وتنظم برامج تطوعية للموظفين وتشجعهم على الالتزام بعدد معين من الساعات كل عام لبرامج الخدمة المجتمعية، الأمر الذي يزيد من احتمالية تطوع الأشخاص، حتى خلال أوقاتهم الشخصية، ويعزز الانتماء للمجتمع.
ختاماً، التأثير الإيجابي للتطوع لا ينعكس على الآخرين فقط، بل يخرجنا من دائرتنا الخاصة إلى عالم الآخرين، ويُكسبنا رؤية أفضل للعالم من حولنا، ويدفعنا إلى التفكير والعمل بطريقة سليمة تعزز بناء المجتمع.