لم يعد الابتكار في الوقت الراهن متعلقاً بالتكنولوجيا أو التنمية الاقتصادية فقط، بل طال الجانب الاجتماعي أيضاً لحل جميع المشاكل المتعلقة بالتعليم والبيئة والخدمات الصحية. لذلك فبات الابتكار الاجتماعي مسؤولية اجتماعية أخلاقية تقع على عاتق الجميع بداية من الأفراد وصولاً إلى أكبر المؤسسات.
عمل الأفراد حول العالم على إيجاد حلول لأصعب المشكلات والتحديات التي واجهتهم، فعلى سبيل المثال جاءت فكرة استغلال منصة "إير بي إن بي" (Airbnb) لدعم المواطنين الأوكرانيين في الآونة الأخيرة، وإيصال التبرعات لهم، بينما استخدم آخرون مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا لدعم أهالي المخيمات.
وقد أدت المؤسسات دوراً مهماً في تعزيز دور الابتكار الاجتماعي، لم تعد تقيس نسبة نجاحها بمدى ما تحققه من أهداف اقتصادية فقط، بل بما تحققه كذلك على المستوى الاجتماعي من خلال التزامها بالتصرف أخلاقياً مع أصحاب المصالح من مساهمين وعمال وعملاء وأفراد المجتمع المحلي.
لكن تظل النظرة المستمرة إلى الابتكار غالباً على أنه اختصار للتطوير، وبهذا التصوّر يصبح الابتكار مبالغاً في تقديره؛ إذ يتم تهميش القيمة الهائلة الناتجة عن التحسينات التدريجية للإجراءات الأساسية والروتينية لمؤسسات قطاع التنمية المجتمعية، لذلك، فإن الدفع بالابتكار على حساب تمكين المزيد من الإجراءات الروتينية قد يدمر العملية بدلاً من أن يخلق قيمة، وهذا ما سبق أن تناولناه في مقال "افتراضات مضللة عن الابتكار الاجتماعي تعرقل نجاحه".
ما هو الابتكار الاجتماعي حقاً؟
الابتكار هو عملية ومُنتَج على حدّ سواء. وفقاً لذلك؛ تنقسم المُؤلّفات الأكاديمية حول الابتكار إلى مسارينِ مُختلفين؛ يستكشفُ أحد هذين المسارين العمليات التنظيمية والاجتماعية التي تُنتِجُ الابتكار، مثل الإبداع الفردي، والهيكل التنظيمي، والسياق البيئي، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية. بينما يقاربُ التيار الآخر الابتكارَ كنتيجة تتجلى في المنتجات الجديدة، وميزات المنتج، وأساليب الإنتاج.
وهنا، يحتاج الممارسون إلى معرفة كيفيةِ إنتاج ابتكارات أكثرَ وأفضل لدعم النتائج المنشودة منه. ولكي تُعتبر هذه النتيجة ابتكاراً يجب أن تفي بمعيارين؛ الأول هو الحداثة: على الرغم من أن الابتكارات لا يجب أن تكون أصليةً بالضرورةِ، فإنها يجب أن تكون جديدة على المُستخدم أو ضمن السياق أو التطبيق. المعيار الثاني هو التحسين؛ يجب أن تكون العملية أو النتيجة إما أكثر فاعلية أو أكثر كفاءة من البدائل الموجودة مسبقاً.
كل ذلك يؤكد تعريف الابتكار، لكن هل استنتج الباحثون تعريفاً عن الابتكار الاجتماعي؟ للرد عن هذا السؤال يتبادر إلى أذهان البعض مقولة "بوتر ستيوارت"، قاضي المحكمة العليا الأميركية: "لا يمكنني تعريفُهُ؛ لكنني أعرفهُ عندما أراه". فنتائج الابتكار الاجتماعي دائماً ما تظهر بصماتها على المجتمع ذاته، سواء كحلول لدعم التعليم، أو تطوير الخدمات الصحية، أو استغلال التقنية بأسلوب إنساني.
وقد أشارت ورقة مناقشة أصدرها المركز العالمي لتميز الخدمة العامة التابع لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي أن الابتكارات الاجتماعية تعتبر مجموعة من الحلول الجديدة، التي تظهر علي هيئة منتجات وخدمات ونماذج وأسواق وعمليّات، تستجيب لاحتياجات المجتمع بصفة أكثر فاعلية مقارنة بالحلول المتوفرة وتؤدي إلى بزوغ قدرات وعلاقات جديدة أو تحسينها واستخدام أفضل للأصول والموارد.
يقول أندرو هوغ، مدير برنامج "بايلور للابتكار الاجتماعي التعاوني والعمل الخيري والخدمة العامة" (Social Innovation Collaborative and the Philanthropy & Public Service) التابع لجامعة بايلور (Baylor University)، في مقاله بعنوان "الابتكار الاجتماعي من منظور ثلاثي الأبعاد" إن المبتكرين الاجتماعيين لديهم مهارات فريدة، نظراً لأنهم يطورون بعداً اجتماعياً جديداً لإحداث التغيير في المجتمع. وهذا ما أكده أيضاً الباحث أسامة حاتم من جامعة دمشق في دراسة بعنوان: "مدخل إلى تصميم الابتكار الاجتماعي"، حيث أوضح أن هناك حرية في تصميم أفكار جديدة وإبداع العديد من الحلول للمشكلات الاجتماعية، وبالتالي يمكن للمبتكر اجتماعياً أن يقدّم ما يراه مناسباً للتأثير في المجتمع بطريقة مباشرة.
التصميم الاجتماعي
يمتلك الابتكار الاجتماعي عدة فئات منها الابتكار الشعبي الذي يستجيب إلى المطالب المجتمعية المهمة، والمستوى الأوسع الذي يهتم بعلاج أكبر التحديات المجتمعية، والفئة المنهجية التي تتعلق بالقيم والمواقف والاستراتيجيات، وتقول شيريل هيلر، الرئيسة الأولى لبرنامج (MFA) في تصميم الابتكار الاجتماعي إن العمل الحقيقي للابتكار الاجتماعي هو إصلاح أنظمتنا البشرية المحطمة، وهنا يأتي دور تصميم الابتكار الاجتماعي.
تُعرف الدراسة السابق ذكرها، مفهوم تصميم الابتكار الاجتماعي على أنه ممارسة إبداعية مكرسة لفهم المشاكل الاجتماعية ودعم التغيير الاجتماعي الإيجابي، وهو بالضرورة يخلق العديد من الفرص للأفراد أو المؤسسات لدعم التغيير. في الوقت الذي يعتمد تطبيقه على منهجيات التصميم من أجل معالجة القضايا الإنسانية في المجتمع.
ويتم توجيه التصميم الاجتماعي لفهم المشاكل من جذورها، والإبداع لإيجاد حلول لها، فهو يتمحور حول الإنسان، ويركز على احتياجات الأفراد الأكثر تأثراً بمشكلة اجتماعية ما.
واستلهمت أفكار التصميم الاجتماعي خلال القرن الماضي، من كتابات فيكتور بابانيك، المصمم الشهير، فبعدما أصبح مدافعاً قوياً عن التصميم من أجل المشكلات الاجتماعية والبحث عن حلول مستدامة لها، ازداد التركيز على إحداث التغيير من خلال التصميم ومراعاة احتياجات الأفراد، فيما ساهم فيكتور مارغولين، الباحث الأميركي ومؤلف كتاب "سياسات اصطناعية: مقالات ودراسات عن التصميم" (The Politics of the Artificial: Essays on Design and Design Studies) في تعزيز مفهوم التصميم الاجتماعي.
لم يغفل "مارغولين" تأثير التصميم في تقديم حلول للمشاكل البشرية، بل أكد أن التصميم الاجتماعي ليس نشاطاً متعلقاً بالأعمال الخيرية، إنما هو مساهمة مهنية لا بد منها من أجل ضمان أسلوب حياة عادل.
الفرق بين الابتكار الاجتماعي و"التصميم للابتكار الاجتماعي"
على الرغم من تسخير التصميم لدعم أهداف الابتكار الاجتماعي، فإن هناك فرق بين الابتكار الاجتماعي والتصميم له، فالاثنين يجتمعان من أجل العمل لصالح المجتمع، لكن هناك من وضع تفسيراً للاختلافات فيما بينهما.
يختلط الأمر على الكثيرين، بينما هناك من اعتبر التصميم للابتكار الاجتماعي غايته نبيلة في المقام الأول، مثلما قال "إيزو مانزيني"، الأكاديمي الإيطالي المعروف بعمله في التصميم من أجل الابتكار الاجتماعي والاستدامة، حيث أوضح أن التصميم للابتكار الاجتماعي يتعامل مع مواقف إشكالية لا يمكن التدخل من قبل المؤسسات أو الدول لحلها، وهنا، فإن التفسير البسيط له يكمن في اعتماد كنشاط يتعامل مع المشكلات التي يتعامل معها السوق أو الجهات المعنية، وهذا ما يُكسبه طابعاً نبيلاً.
ويتعامل التصميم للابتكار الاجتماعي مع هذه الإشكاليات في البداية، للوصول إلى حلول الابتكار الاجتماعي التي يمكن حينها العمل على إضافة حلول تشمل كل الفئات المجتمعية سواء الأكثر احتياجاً أو الطبقات العليا، وذلك بما ينعكس إيجاباً على النسيج الاجتماعي.
وفي النهاية، قد تتداخل مفاهيم الابتكار الاجتماعي والتصميم الاجتماعي معاً، لكن الهدف والغاية واحدة، وتعمل على ضمان الوصول إلى حل مختلف للمشكلات التي يمكنها أن تقضي على تكاتف المجتمع، أو تضعف قدرته على العيش الآمن.
نُشر المقال استناداً على بحث من منصة "ساهم".