كي يتمكن العالم من منع انتشار المعلومات المضللة المتعمد أو غير المتعمد والحدّ من آثارها الضارة، لا بد من توسيع نطاق الهجمات المضادة لها وتسريعها بدرجة كبيرة، بالاعتماد تحديداً على الحلول التي تركز على العنصر البشري والارتقاء بمستوى ثقافة الناس على صعيدي الإعلام والمعلومات.
لا يزال انتشار المعلومات المضللة المتعمد أو غير المتعمد متفشياً بدرجة كبيرة على الرغم من أنه يجذب الانتباه العام على نطاق واسع، إذ تمثل مؤخراً في الادعاءات الزائفة حول لقاحات فيروس كوفيد-19، وأعمال الشغب في مبنى الكابيتول الأميركي (التي قام بها مناصرو الرئيس دونالد ترامب)، والعديد من المواضيع الأخرى. تؤدي هذه "الجائحة المعلوماتية" (الانتشار السريع واسع النطاق لمزيج المعلومات الصحيحة والخاطئة) إلى الاستقطاب السياسي (انقسام في المواقف السياسية إلى رأيين متضادين)، ويعرّض المجتمعات للخطر، ويضعف المؤسسات، ويوقع الناس في حيرة بشأن من يمكنهم تصديقه والوثوق به، كما تشكل تهديداً لأسس الحكم الديمقراطي والتماسك الاجتماعي والأمن القومي والصحة العامة.
مشكلة المعلومات المضللة
تعَد المعلومات المضللة مشكلة طويلة الأمد تتطلب تطبيق حلول مستدامة طويلة الأمد مع اتخاذ إجراءات على المدى المنظور في آن معاً، وقد شهدنا تطبيق عدد من الحلول التكنولوجية السريعة التي تحسّن منصات وسائل التواصل الاجتماعي المصدّرة للمعلومات، إذ عمدت شركات مثل فيسبوك وتويتر إلى تعديل خوارزميات تطبيقاتها أو اتخاذ إجراءات لتمييز المحتوى الإشكالي عن غيره. كما شهدنا اتباع أساليب أكثر تركيزاً على العنصر البشري بوتيرة أبطأ تساعد الأفراد على التعامل بذكاء أكبر مع وسائل الإعلام التي يستخدمونها عبر الإنترنت. خذ مثلاً البرامج التعليمية المبنية على الأدلة، إذ حسّنت قدرة الناس على التحقق من موثوقية مصادر المعلومات والتمييز بين الحقائق والآراء ومقاومة أساليب التلاعب العاطفي، وجعلتهم مواطنين يتبعون الممارسات الرقمية السليمة.
لكن كل ذلك ليس كافياً؛ كي نتمكن من منع نشر المعلومات المضللة والحدّ من آثارها الضارة، لا بد لنا من توسيع نطاق هجماتنا المضادة لها وتسريعها بدرجة كبيرة، وسيقتضي ذلك تضافر جهود كافة قطاعات المجتمع من شركات تجارية ومؤسسات غير ربحية ومؤسسات المناصرة الاجتماعية وهيئات خيرية وباحثين وحكومات وغير ذلك. كما أن علينا موازنة جهودنا؛ لطالما ركزنا الكثير جداً من الموارد والحوارات على تغيير التكنولوجيا بدلاً من التركيز على تثقيف الناس، وقد يؤدي هذا التركيز على جانب العرض من المشكلة من دون استثمار مماثل في جانب الطلب منها إلى هدر الوقت والطاقة.
مع أن الحلول التي تركز على التكنولوجيا القائمة على الرقابة الذاتية، مثل برمجيات التصفية (filtering software) والذكاء الاصطناعي والخوارزميات المعدلة وتصنيف المحتوى، قادرة على إجراء تغييرات سريعة وواسعة النطاق، إلا أنها تواجه قيوداً هائلة من النواحي الأخلاقية والمالية واللوجستية والقانونية.
فمثلاً يتحقق نجاح نماذج عمل وسائل التواصل الاجتماعي بازدياد المشاركة، وهذا يشكل حافزاً لنشر المحتوى المشحون عاطفياً المتوفر بكثرة . يتردد قادة قطاع التكنولوجيا مثل مؤسس شركة فيسبوك، مارك زوكربيرغ، في اتخاذ إجراءات بهذا الشأن بسبب المخاوف المتعلقة بحرية التعبير، ولطالما حاولوا تجنب الخوض في الجدالات السياسية إلا إذا اضطروا إلى ذلك، وإذا اتخذوا إجراءات بالفعل فهم يخضعون للتدقيق من أجل ضمان عدم اتباعهم نهجاً مناقضاً. إضافة إلى ذلك، تُبين الأبحاث أن بعض أكثر الأساليب المستخدمة شيوعاً في التصدي للمعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل شريط استعراض أدوات التحقق من الوقائع، ليس لها تأثير يذكرعلى احتمالات تصديق الناس الأخبار المضللة المنشورة عمداً، وحتى أن بعضها يعود بنتائج عكسية. ونظراً لرغبة معظم الناس العميقة في مشاركة ما يعرفونه مع الآخرين، لا سيما المعلومات التي تبدو خطيرة أو مثيرة للاهتمام، لم يعد بإمكان شركات التكنولوجيا اتخاذ المزيد من الإجراءات لضبط المحتوى. ونواجه أيضاً مشكلة الكم، إذ تعاني المنصات التكنولوجية صعوبة في مواكبة المعلومات المضللة بأشكالها ومصادرها العديدة، وستكون محاولة إيقافها أشبه بمحاولات مستمرة بلا نهاية للإمساك بخُلد في حقل مملوء بالحفر والألغام.
تحسين التثقيف الإعلامي والمعلوماتي للأفراد
ونظراً لكل هذه التحديات، يجب علينا زيادة استثمارنا في الحلول القائمة على العنصر البشري التي تركز على الارتقاء بمستوى ثقافة الناس على صعيدي الإعلام والمعلومات، فتأثير هذه الحلول أعمق وأطول أمداً، إلى جانب أن تطبيقها أسهل وأقل تكلفة من الاعتقاد السائد.
تُظهر الأبحاث التي أجرتها شركة "راند كوربوريشن" (RAND Corporation) وشركات أخرى أن التثقيف على صعيدي الإعلام والمعلومات يعزز التفكير النقدي ويرفع الوعي بتحيز وسائل الإعلام ويزيد الرغبة في تلقي أخبار ذات جودة عالية، وكل ذلك له دور في التصدي للمعلومات المضللة. حتى أن تدريب الناس على مدى فترة وجيرة يعزز كفاءتهم في التعامل مع الإعلام، ويمنحهم قدرة أكبر على فهم مصداقية الأخبار أو قدرة أكبر على تقييم التحيزات. أثر التثقيف الإعلامي أقوى من أثر المعرفة السياسية في قدرة الفرد على تقييم دقة الرسائل السياسية، أياً كان توجهه السياسي، وأدى التثقيف الإعلامي الرقمي إلى تخفيض الدقة المتصَوّرة للأخبار الكاذبة، ويكون التدريب فعالاً عندما تقدمه مجموعات مختلفة بأساليب مختلفة.
يوقع تدريب الثقافة الإعلامية أثراً دائماً، فبعد مرور عام ونصف على مشاركة عدد من الأفراد البالغين في برنامج قدمته مؤسسة آي آر إي إكس ( IREX) (وهي مؤسسة غير ربحية تعمل فيها مؤلفتا هذا المقال)، لا تزال نسبة 25% منهم أكثر ميلاً لتفقد عدة مصادر للأخبار، كما تميل نسبة 13% منهم للتمييز بين المعلومات المضللة والتقارير الموضوعية. كما تمكن المشاركون في تدريب مؤسسة "آي آر إي إكس" في الأردن وصربيا من تطوير مهارات الثقافة الإعلامية بنسبة تصل إلى 97%.
يمكن أيضاً تقديم برامج التثقيف الإعلامي المكثفة بتكلفة معقولة عن طريق إدراجها في المناهج المدرسية؛ إذ حققت فنلندا والسويد نتائج إيجابية من دمج التثقيف الإعلامي في أنظمتهما التعليمية منذ عقود، وبدأت أوكرانيا بالسير على خطاهما. أظهر الشباب البريطانيون الذين تلقوا تدريبات في المدارس تحسناً في مهارات الثقافة الإعلامية.
قد يقول النقاد إن حلول تعزيز التثقيف الإعلامي للأفراد وغيره من الحلول القائمة على العنصر البشري تستهلك كثيراً من الموارد ولن تعالج المشكلة بسرعة كافية أو على نطاق كاف؛ هذه التحديات حقيقية بالفعل لكن الفعالية طويلة الأمد لمثل هذه البرامج هي ما نحتاج إليه بالضبط في صراعنا اللا نهائي مع المعلومات المضللة. لذا لا بد من زيادة استثمارنا في هذه البرامج مع مواصلة السعي لإنشاء حلول تكنولوجية، وإلا فلن نتمكن من بناء مجتمع المواطنين الذين يملكون المعرفة الصحيحة والحفاظ عليه من أجل بناء الأنظمة الديمقراطية السليمة.
يستدعي هذا المسعى تعاون مختلَف قطاعات المجتمع في جميع أنحاء العالم لفهم المشكلة وحلها بالكامل: يجب على المؤسسات غير الربحية ومؤسسات المناصرة الاجتماعية أن تنبّه المجتمعات التي تخدمها إلى المخاطر؛ ويجب أن تكثف الهيئات الخيرية جهود التمويل لتوسيع نطاق تطبيق الحلول؛ ويجب أن يعمل عدد أكبر من الباحثين على تقديم إجابات قائمة على الأدلة لجميع جوانب المشكلة وإثبات كفاءة الحلول المستخدمة لمعالجتها؛ ويجب أن تدمج الحكومات معايير التثقيف الإعلامي في المناهج المدرسية وتقدم الحوافز لإنشاء برامج التدريب عليها؛ ويجب ألا تكتفي شركات التكنولوجيا بتعديل منصاتها، بل يجب أن تستثمر في توعية عملائها أيضاً.
الأدوات اللازمة لإضعاف هيمنة المعلومات المضللة متاحة، لكن يجب أن نعمل بسرعة أكبر وبأسلوب أذكى وإلا فسنجازف بخسارة معركة تزداد شراسة يوماً بعد يوم، لا يزال علينا أن نتعلم أكثر ونبني مزيداً من التحالفات ونوسع جهودنا بدرجة أكبر ونتواصل فيما بيننا بفعالية أكبر من أجل "النجاة من فشل المعلومات". الحلول معقدة ولكنها في متناول أيدينا، وعواقب التراخي في مواجهة المشكلة وخيمة؛ فزعزعة الاستقرار التي تزداد عنفاً في مجتمعاتنا وحياتنا اليومية تستمر ما استمرت الأكاذيب بطمس الحقيقة.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.