كيف نخفف عن البائسين ونقلق راحة المترفين؟

الكرم إلى العدل
shutterstock.com/Woottisak
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الأمل مورد ثمين في الأوقات العادية، لكنه ضرورة ومسؤولية في هذه الأوقات الاستثنائية. في صفحات كتابي الجديد “من الكرم إلى العدل: دليل الثروة الجديد” (From Generosity to Justice: A New Gospel of Wealth)، تدعونا جوقة من الأصوات إلى تحسين الأنظمة والبنى التي تصوغ عملنا الحالي، وإلى التعامل مع الأسباب الجذرية لأزماتنا التي تتطلب حلولاً عاجلة، وليس فقط مع التبعات المباشرة لها، حتى لو كنا من هذه الأسباب الجذرية. فهي تدعونا إلى الثقة في الأشخاص والمجتمعات الأقرب للمشكلات للخروج بحلول أكثر فاعلية لتلك المشكلات، ولاعتبار تجربتهم المباشرة مساوية لخبرات المختصين.

ويتطلب ذلك قيادة وشجاعة أخلاقيتين لكي ننظر إلى آفاق المستقبل متجاوزين تقارير الأرباح أو نتائج الانتخابات القادمة، نحو رؤية بعيدة المدى لمجتمع أشمل وأعدل. كما يتطلب فعل شيء أصعب، وهو الابتعاد عن التطرف والمثالية والتظاهر بالنقاء واليقين، إذ يدعونا إلى الإصغاء والتعلم بفضول وانفتاح وتعاطف والتسامح بعضنا مع بعض.

يسرني أن أقدّم لكم هذا المقتطف الذي يتحدث عن التفاؤل المفرط الذي يجب أن نتغلب عليه ولا بد لنا من ذلك. وعلى الرغم من تقدمنا البطيء، سنواصل ارتقاءنا من الحقيقة إلى المصالحة إلى أقصى درجة من العدالة التي تتمثل في المساواة المطلقة بين الناس كافة. دارين ووكر

الاجتهاد لتحقيق الأمل

في يناير/كانون الثاني 2020، كتبت رسالة بمناسبة العام الجديد تعكس ما أطلقت عليه “الاجتهاد لتحقيق الأمل”. حيث توقعت سنة صعبة مقبلة علينا.

إذ وصلت حالات انعدام المساواة في تلك الفترة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في جميع أنحاء العالم. وكما كتبتُ في صحيفة نيويورك تايمز، كان العديد من الأصدقاء ذوي النوايا الحسنة يمنّون النفس بالنمو الاقتصادي الباهر داخل البلاد وخارجها. لكن ما أدركته وما تعلمته عبر تجربتي الخاصة، أن تقدم العمل الاجتماعي قد أصابه الشلل، ما أدى إلى يأس خفي بدأ يخنق القيم والمؤسسات الديمقراطية. ومع ترنح الملايين على حافة الهاوية الاقتصادية، تفاقم القلق والاستياء وازدادت المظالم، ومن المؤكد أن القوى التي تستغل حالة انعدام الأمن هذه ستستجيب بالمزيد من الكذب والتهرب من المحاسبة.

تساءلتُ حينها “ما هي الأزمة الجديدة التي يجب أن تحل بنا حتى ندرك أهمية العمل الجماعي؟” وفي حال لم نتحرك لتنظيم جهودنا لتحقيق العدالة بعد ما عانيناه في هذين العقدين المضطربين من القرن الحادي والعشرين، فمتى سنتحرك؟

أتصور أن الفرصة ضئيلة.

انتشر فيروس كورونا المستجد في جميع أنحاء آسيا وأوروبا في أسابيع معدودة. وفي اليوم الذي نشرت فيه مقالتي عن العام الجديد تحت عنوان “من الكرم إلى العدالة”، أبلغتْ مراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها عن أول حالة مؤكدة لكوفيد-19 في الولايات المتحدة.

وبعد ذلك تغير كل شيء، وعلى حد تعبير إرنست همنغواي، بدأ الأمر ببطء، ثم حدث دفعة واحدة.

وفي الأسبوع نفسه الذي أغلق فيه الأميركيون المدارس والمكاتب وألغوا المسابقات والعروض، أطلق ضباط الشرطة في مدينة لويزفيل النار على بريونا تيلور، فنيّة طوارئ طبية أميركية من أصل إفريقي، وقتلوها في منزلها. ومع انتشار الفيروس في ذلك الربيع، قتل ضابط شرطة جورج فلويد في مدينة مينيابوليس، الحدث الذي شاهده المليارات من الناس على أجهزة التلفزيون والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية في جميع أنحاء العالم.

مواجهة المخاطر

نزل الكثير من الناس إلى الشوارع مطالبين بتصفية الحسابات القديمة عبر تاريخ الولايات المتحدة وإرث العنصرية فيها، ليس في أنظمة العدالة الجنائية والسجون فحسب، بل في الفصول الدراسية وأماكن العمل وفي جميع نواحي الثقافة والمجتمع الأميركي، وفي جميع أنحاء العالم.

ورفض بعد ذلك رئيس الولايات المتحدة الاعتراف بانتخابات حرة ونزيهة. ودنس المتمردون مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة وحاولوا الانقلاب على دستورها. وكانت تلك أسوأ محاولة لإبطال حق التصويت على نطاق واسع لم نشهد مثيلاً لها منذ قوانين جيم كرو (تشريعات حكومية ومحلية أميركية شرّعت الفصل العنصري).

لكنني أعتقد أن الاضطراب التاريخي الجاري مختلف تماماً من حيث النوع، وليس من حيث الشدة فحسب. وقد ذكرتُ في مقال رأي في عام 2022 أن الولايات المتحدة تبدو منقسمة بدرجة لا يمكن إصلاحها وعلى نحو لم أشهد له مثيلاً في حياتي، وتتدحرج فيها الأحداث في مسار موازٍ للمسار الذي عرفه أجدادنا في خمسينيات القرن التاسع عشر.

تفاقمت أزماتنا المتداخلة والمتمثلة في حالة عدم المساواة المفرطة والظلم العرقي وإفلات السلطات من المحاسبة الذي يناهض مبادئ الديمقراطية، ليس عبر التأثير المتبادل فيما بينها فحسب، بل بسبب الوباء الذي أودى بحياة أكثر من 6.5 ملايين إنسان (والرقم آخذ بالارتفاع) ما يشكل خطراً وجودياً جسيماً، حيث يؤدي إلى تغير المناخ الذي يدفع المنظومات البيئية التي تحافظ على حياتنا إلى حافة الانهيار. إن موجات الجفاف والفيضانات والعواصف والحرائق تزداد سوءاً. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تشويه رأسمالية الولايات المتحدة واللامساواة التي تفرزها، قد أثقلتا كاهل الفقراء والمهمشين والضعفاء.

وتشاهد مجتمعاتنا المحلية والدولية هذه المخاطر الوجودية دون تحريك ساكن. ففي حال لم نغير نهجنا، فإن صدمة السنوات القليلة الماضية ستكون البداية فقط.

في هذا السياق، فرضت الضرورة على العمل الخيري عدداً من التجارب الجريئة منذ بداية عام 2020. فعلى سبيل المثال، نواصل عملنا بالتعامل مع رواد التغيير الاجتماعي الشجعان على الخطوط الأمامية باحترام كبير بصفتهم شركاء لنا وليس عملاء لدينا، ونوفر لهم الموارد وأسباب المرونة لرسم الطريق نحو المستقبل.

ومن ناحية أخرى، نستخدم المزيد من أصولنا بشكل كامل بما يتجاوز النمط التاريخي المتمثل في منح 5% فقط من قيمة الهِبات كل عام، كما هو مطلوب بموجب القانون الضريبي في الولايات المتحدة. كان ذلك في مؤسسة فورد (Ford Foundation) هو المبدأ التوجيهي وراء التزامنا بتقديم مليار دولار للاستثمارات ذات الصلة برسالتنا، التي تثبت قدرة أسواق رأس المال على تحقيق عائد مالي واجتماعي. وفي أوج اضطرابات عام 2020، دفعنا المبدأ نفسه إلى تمويل سند اجتماعي بقيمة مليار دولار، ومضاعفة معدل دفعاتنا بشكل فعال وتعزيز رأس المال للمؤسسات التي تواجه أزماتنا المتتالية. ويوظف العديد من زملائنا الممولين استراتيجيات مماثلة لاستغلال الـ 95% المتبقية.

آمل أن أعيد عبر كتاب من الكرم إلى العدل: دليل الثروة الجديد، تركيز الانتباه والعمل عبر القطاع العام، والأعمال التجارية، والمجتمع المدني على هذه الأساليب وأساليب أخرى. وفي كل الأحوال، إن الأفكار الموجودة في هذا الكتاب، التي تصورها ودافع عنها جيل جديد من القادة الصاعدين، تظهر قوتها في المواقف الصعبة.

في النهاية، لدي شعور قوي أن العمل الخيري لم يعد يتبع أسلوباً وحيداً أو بنية منفردة، بل بات سلسلة متصلة تبدأ من الكرم في بدايتها لتصل إلى العدالة في نهايتها، وعلينا تطوير عملنا متى حانت الفرصة وبأي طريقة كانت، لنتجاوز مرحلة الكرم ونصل إلى تحقيق العدالة.

تحقيق الأهداف

في مطلع القرن الماضي، صاغ الصحفي الساخر والمختص بالفضائح في شيكاغو، فينلي بيتر دان، هذه الجملة المعبرة: “خفف عن البائسين وأقلق راحة المترفين”. علينا أن نحقق الهدفين معاً، كما يؤكد صديقاي إليزابيث ألكسندر وكين فريجر.

وحسب فهمي لهذه العبارة، فإن “التخفيف عن البائسين” يتعلق بإحساننا، ولطفنا، وشهامتنا، أي تقديم الإغاثة وسبل التعافي. لكن “إقلاق راحة المترفين” تتعلق بسعينا لتحقيق العدالة، أي إعادة النظر والإصلاح. تطالب إحداها “بإعادة الحقوق”، بينما تصر الأخرى على “التخلي عن شيء ما”.

يُلزمنا إقلاق راحة المترفين بالاعتراف بحالات عدم المساواة التي تجعل مد يد العون ضرورياً وممكناً على حد سواء، فالطبقية الاجتماعية، كما وصفتها إيزابيل ويلكرسون، هي نتيجة عقود من سيطرة فكرة الجشع المفيد لآين راند وميلتون فريدمان، التي تصبُّ في اختيارات مدروسة في رأسمالية لا ضمير لها. ويتطلب إقلاق راحة المترفين التعرف على الطرق التي نستفيد بها نحن أنفسنا من حالات عدم المساواة الهائلة في النفوذ والقوة والصوت والقيمة. ويجبرنا إقلاق راحة المترفين أيضاً على تصحيح حالات عدم المساواة الشديدة وإصلاحها فهي التي تشجعنا على تجاهل سبب وضع أنفسنا أولاً والآخرين ثانياً، كما يدفعنا إقلاق راحة المترفين إلى إعادة هيكلة أوساط أصحاب الامتيازات الموجودة في قوانيننا وأعرافنا وعاداتنا وسلوكياتنا.

كل ذلك يشكل كتيباً إرشادياً جديداً للعطاء، تميزه مصطلحات ومبادئ خالدة، كما أناقش في هذه الصفحات. وهو يدعونا إلى تحسين الأنظمة والبنى التي تصوغ عملنا الحالي، وإلى التعامل مع الأسباب الجذرية لأزماتنا التي تتطلب حلولاً عاجلة، وليس فقط مع التبعات المباشرة لها، حتى لو كنا من هذه الأسباب الجذرية. كما يدعونا إلى الثقة في الأشخاص والمجتمعات الأقرب للمشكلات للخروج بحلول أكثر فاعلية لتلك المشكلات، ولاعتبار تجربتهم المباشرة مساوية لخبرات المختصين.

وذلك يتطلب قيادة وشجاعة أخلاقيتين لكي ننظر إلى آفاق المستقبل متجاوزين تقارير الأرباح أو نتائج الانتخابات القادمة، نحو رؤية بعيدة المدى لمجتمع أشمل وأعدل. كما يتطلب فعل شيء أصعب، وهو الابتعاد عن التطرف والمثالية والتظاهر بالنقاء واليقين، إذ يدعونا إلى الإصغاء والتعلم بفضول وانفتاح وتعاطف والتسامح بعضنا مع بعض.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.