قد يبدو أن هناك اختلافاً بين الابتكار والاستدامة، لكن في الواقع يوجد رابط قوي بينهما ويعملان معاً من أجل تحقيق التنمية، ففي حين أن قضايا الاستدامة تحفّز الابتكار وتلهمه، فإن الإبداع يساعد على تسخير إمكانات الممارسات المستدامة، وتتطلب هذه العلاقة المزيد من التعاون والبحث والتعلُّم لتعزيز تطوير الحلول المبتكرة التي تسهم في مستقبل أكثر استدامة.
على سبيل المثال، الاستدامة والابتكار عنصران أساسيان في بناء القدرة على الصمود في مواجهة تغيّر المناخ، إذ يتضمن الابتكار التكيفي تطوير الحلول التي تساعد المجتمعات والنظم البيئية على التكيف مع تأثيرات المناخ، وتعمل حلول مثل البنية التحتية المقاومة للمناخ وأنظمة إدارة المياه المبتكرة على تعزيز قدرة المجتمعات على تحمل التحديات البيئية والتعافي منها.
الابتكار المحرك الرئيسي للاستدامة
يتفق مجتمع العلماء وخبراء الصناعات وممثلو الحكومات على أن الابتكار هو المحرك الرئيسي للاستدامة، وذلك لأن التنمية المستدامة قضية مُلحة تتطلب إجراءات وتغييرات فورية من الحكومات والصناعة والمجتمع ككل.
فالابتكار يستلزم التبنّي والتنفيذ الفعّال للمفاهيم أو الأساليب الجديدة التي تعزز السمات المجتمعية المختلفة، وقد يتمثل في الجهود الاجتماعية، وتحسين العمليات، والتطورات التكنولوجية، ونماذج الأعمال التي تعطي الأولوية للاستدامة.
لنتخيل أن الاستدامة وجهة نتطلع للوصول إليها من أجل خلق عالم نستخدم فيه الموارد بكفاءة، ونحمي البيئة، ونضمن حياة أفضل للجميع، فالابتكار سيكون الوسيلة التي ستنقلنا إلى هذه الوجهة. الأمر يتعلق بالتوصل إلى طرائق جديدة وأكثر ذكاءً للقيام بالأشياء التي تساعدنا على العيش بطريقة أكثر صداقة للبيئة ومسؤولة اجتماعياً.
بالنظر إلى ابتكارات مثل توربينات الرياح والألواح الشمسية، نجد أنها جاءت نتيجة التفكير الإبداعي والتقدم العلمي، وجهود البحث عن استراتيجيات بديلة لمكافحة تغير المناخ، وحماية النظم البيئية، وتأمين الموارد الطبيعية.
وعليه، يمثل الابتكار محفّراً مهماً للأفراد والشركات والقادة على إعادة التفكير في قراراتهم واعتماد بدائل مستدامة، إذ يشجع الشركات على تبنّي طرائق جديدة لإنجاز العمل، والاستفادة من المواهب، والدفع بالتطوير المشترك والشراكات مع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الوكالات الحكومية والشركات والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني، كما يتحدى الممارسات الراسخة لدى الأفراد ويحثّهم على الانتقال إلى نمط حياة أكثر استدامة.
الاستدامة جزء من استراتيجيات الابتكار
الآن، للنظر إلى الأمر من الزاوية المعاكسة، عندما نتحدث عن الابتكار، فلا يمكن حصره بالتكنولوجيا أو الأدوات الرقمية فقط، إذ تبين الأبحاث، أن الشركات التي تعزز التنوع والشمول تميل إلى أن تكون أكثر ابتكاراً، لأن جمع أشخاص من خلفيات متنوعة سيوّلد وجهات نظر مختلفة وأفكاراً فريدة.
لطالما كان الابتكار مدفوعاً بالربح المادي، دون الأخذ بالاعتبار تحديات الاستدامة التي تبرز اليوم على نطاق واسع، وفي عالم اليوم السريع التغير، لا بد أن يرتبط الابتكار بأهداف أسمى تتمثل في إحداث التغيير الإيجابي، وتعظيم الأثر والقيمة.
إن أعظم الابتكارات يأتي من القدرة على إعادة تصور المستقبل، وتشير الأبحاث إلى أن الابتكار يؤثر تأثيراً إيجابياً على أداء الاستدامة، وفي حين تسعى الشركات لخلق عالم مستدام يمكنه تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها، فمن المهم أن تكون الاستدامة جزءاً أساسياً في استراتيجيات الابتكار الخاصة بها.
ومن خلال إعطاء الأولوية للاستدامة في الابتكار، لا تعزز الشركات سمعتها وميزتها التنافسية فحسب، بل تقلل من بصمتها البيئية وتسهم في تنمية المجتمع وتستقطب على نحو متزايد أيضاً قاعدة واسعة من المستهلكين المهتمين بالبيئة.
يُنظر إلى التكنولوجيا على أنها عامل تمكين أساسي للاستدامة، ما جعل تطوير التكنولوجيات الخضراء حجر الزاوية في الابتكار، وتُعَد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والمركبات الكهربائية، والأجهزة الموفرة للطاقة، أمثلة على التكنولوجيات التي تسخّر الموارد المتجددة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، فهي لا تعالج المخاوف المناخية فحسب، بل تسهم أيضاً في إنشاء بنية تحتية للطاقة أكثر استدامة ومرونة.
كما يعمل الابتكار المستدام على إعادة تشكيل طريقة إنتاج السلع واستهلاكها، فتصميم المنتجات القابلة لإعادة التدوير، وتقنيات تحويل النفايات إلى طاقة، تجعل من مفهوم الاقتصاد الدائري نهجاً مستداماً لإدارة الموارد.
إن ابتكارات مثل وضع العلامات التي تبيّن تصنيف المنتجات وفقاً لتأثيراتها على الصحة والبيئة، تُمكّن الأفراد من مواءمة قرارات الشراء الخاصة بهم مع القيم البيئية، ما يسهم في بناء أسواق أكثر استدامة ومسؤولية.
الابتكار والاستدامة وجهان لعملة واحدة. فالابتكار يدفعنا نحو الاستدامة من خلال خلق حلول وتكنولوجيات جديدة لمواجهة التحديات البيئية والاجتماعية، في حين توجّه الاستدامة نهجنا نحو الابتكار من خلال تذكيرنا بالنظر في التأثير الطويل المدى على الكوكب والمجتمع وتعزيز الثقافة اللازمة للابتكار.
لكن، أين يقع وضع تقارير الاستدامة ضمن هذه المعادلة؟ تُعد تقارير الاستدامة البوصلة التي تساعد على التنقل بين الابتكار والاستدامة، لذلك يجب أن تعكس الإجراءات والنتائج الملموسة والإسهامات الفعّالة في التحسين الفعلي للبيئة والمجتمع ككل، ويجب أن تسلط الضوء أيضاً على المجالات التي تحتاج إلى تحسين، ما يشجع على المزيد من الابتكار.
كثيراً ما يتم تجاهل التفاعل المعقد بين الاستدامة والابتكار، ولكن ينبغي ألا يكون الأمر كذلك. ومع تعزيز كلا المفهومين أحدهما للآخر، ستوفر هذه العلاقة فرصة رائعة للشركات والأفراد والكوكب على حدٍ سواء من خلال تعزيز التنوع والإبداع والابتكار، وضمان الشمولية، والعدالة الاجتماعية، والممارسات الخضراء، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز التغيير الإيجابي.
في الدمج بين الاستدامة والابتكار قوة تساعد على إعادة تشكيل الصناعات والاقتصادات وأساليب الحياة، ما يوفر طريقاً إلى مستقبل أكثر استدامة وإنصافاً.