المؤسسات الخيرية والأثر الاجتماعي، مؤسسة مرسال نموذجاً

الأثر الاجتماعي للمؤسسات الخيرية
shutterstock.com/Andrei Korzhyts
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يُعرّف الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة غايد ستار (GuideStar) والمؤلّف والخبير في استراتيجيات الأثر الاجتماعي للمؤسسات الخيرية، جيكوب هارولد، الأثر الاجتماعي للمؤسسات الخيرية بأنه الفرق بين ما يحدث الآن بالفعل وما كان ليحدث إذا لم تكن المؤسسة موجودة. وبناءً عليه يظهر لنا السؤال: “ماذا سيحدث إذا لم نكن هنا؟” يجب أن يقود هذا السؤال أي محادثة عن استراتيجية الأثر الاجتماعي للعمل الخيري. وطبقاً لهارولد، فإن أجمل هدية قدّمتها المشاريع الخيرية للإنسانية هي أنها اكتشفت طريقة لجعل مهمة الناس الأساسية هي دعم بعضهم لبعض، ودعم المجتمع الذي يعيشون فيه، والانشغال بمحيطهم وبيئتهم والعمل من أجل الصالح العام.

هناك طرائق عدة لقياس الأثر الاجتماعي للمؤسسات الخيرية؛ من الاستماع إلى تعليقات الحضور على آخر الأنشطة التي قامت بها المؤسسة، وحتى استخدام البيانات وتحليلها وإنشاء استطلاعات رأي قوية تدعم اتخاذ القرار المبني على البيانات. لكن، ومع الاعتراف بأهمية هذه المؤشرات، تظل أهم طريقة وأقواها لقياس تأثير جهة خيرية ما هي معرفة إن استطاعت هذه الجهة الوصول إلى معتقدات الناس وأفكارهم أم لا؛ هل أثمرت جهود المؤسسة عن “محامين” و”حُرّاس” لمهمة المؤسسة وأهدافها أم هناك فقط ذلك الرابط الضعيف الذي يقوم أساساً على شعور مؤقت بالرضا عن الذات بعد إرسال تبرع مادي.

لكن، هل يمكن أن تنتقل المؤسسة الخيرية من مرحلة الوجود الهامشي المرتبط بأوقات معينة ومحدودة للغاية إلى مرحلة بناء ثقافة كاملة واجتذاب مجتمع من الداعمين المخلصين دائماً؟ وما تكلفة هذا الانتقال؟

فكرة تجعل المستحيل ممكناً

كنت أشاهد برنامجاً حوارياً مع مؤسِّسة مرسال، هبة راشد، عن بدايتها في العمل الخيري؛ من طالبة ماجستير بكلية الألسن إلى رئيسة أهم مؤسسة خيرية متخصصة في توفير الرعاية الصحية لغير القادرين بمصر، ومن مشروع مقرّه شقة صغيرة بغرفة واحدة وبموظفين اثنين إلى مؤسسة صحية متكاملة تضم عيادات ومراكز وحضّانات (وتسعى في الوقت الحالي لإنجاز مستشفى أطفال كامل). تقول هبة إنها لم تجد شغفها بسهولة، ففي البداية لم تكن مشاركاتها التطوعية تزيد على التبرُّع لحالات محتاجة أو جمع المال على نطاق ضيق للغاية لهدف بسيط. ثم علمت في يوم ما أن صديقتها تجمع تبرعات لعملية “زراعة قوقعة” لطفلة من أسرة فقيرة. تقول هبة: “قبل ذلك اليوم، لم أكن أعرف أن استعادة السمع شيء ممكن. كنت أعتقد أن من يولدون بلا سمع يعيشون ويموتون هكذا. معرفة أن بإمكان هؤلاء الأطفال استعادة سمعهم أنارت شيئاً ما في عقلي. قلت لنفسي: أريد البقاء هنا، أريد فعل هذا للأبد”. هكذا وجدت هبة شغفها، حين رأت ما ظنته مستحيلاً يتحقق أمام عينيها.

في نهاية شهر رمضان الماضي، وقبل العيد بيوم واحد، نشرت هبة راشد على صفحة فيسبوك الخاصة بمرسال أن هناك فتاة صغيرة تريد التبرع للمؤسسة لكنها لا تملك أي مال، وكل ما تملكه هو “كارت شحن” بقيمة 10 جنيهات، وسألت إن كان هناك مَن يريد شراء هذا الكارت بأي قيمة مالية على أن تعود قيمة التبرع بقيمة الكارت لتلك الفتاة. إذاً، فالهدف من شراء الكارت كان إعانة فتاة غير مقتدرة على التبرع للمؤسسة. لم تكن هبة تأمل الكثير، فكان أقصى طموحها أن تجد من يجبر خاطر تلك الفتاة وأن يسهم منشورها ذلك في إدخال السرور على قلبها قبيل العيد.

لكن تصاريف القدر عجيبة وغير متوقعة؛ لم تعلم هبة، ولا الفتاة، أن ذلك الكارت ستصبح قيمته 17 مليون جنيه مصري خلال ساعات، وأن انتشار المنشور على فيسبوك سيجذب اهتمام شركات كبرى، مثل الشركة المُنتجة للكارت، التي صرّحت أنها ستسهم بمثل المبلغ الذي سيجمعه هذا الكارت (أياً كانت قيمته). ومن ثم أصبحت قيمة الكارت 34 مليون جنيه، خلال يوم واحد فقط.

تعتمد هبة على قوة وسائل التواصل الاجتماعي فقط، ولا تقوم بأي إعلانات لمؤسستها. وفي لقاء أجرته العام الماضي، صرّحت أن عيادات مرسال ومراكزها تخدم 42 جنسية على أرض مصر.

هناك تفسيرات عديدة لموقف الكارت، منها مثلاً نظرية تأثير كرة الثلج، وقد يجادل أحدهم بأن هناك نوعاً من الغيرة ينشأ في المواقف المشابهة، وهناك من قد يفسّر الموقف بنظرية الـ (FOMO) وهي الخوف من تفويت شيء/تجربة للظن بأنها لن تُعوّض، لكن ما لا اختلاف عليه هو أن المؤسسة التي احتوت تحت مظلتها كل تلك المشاعر بذلت جهداً كبيراً لإرساء قيم ومبادئ جعلتها جديرة بمثل هذه الثقة، كما استطاعت الحضور ضمن اهتمامات أناسٍ من فئات مختلفة؛ مَن لا يملكون إلا نياتهم الطيبة وكارت بعشرة جنيهات، ومَن يستطيعون التبرع بمئات الآلاف والملايين من الجنيهات.

هذا مثال حي على ما يمكن أن يعنيه “إحداث فرق اجتماعي”؛ أن تكون مهمتك نبيلة وإدارتك عادلة وشفافة بما يكفي لإقناع الناس أن المستحيل قد يصبح ممكناً إذا تكاتف الجميع ووضعوا المصلحة العامة نصب أعينهم. ومثال رائع لمفهوم الأثر الاجتماعي للمؤسسة الخيرية. ولك بالطبع أن تتخيّل ما نُشر بواسطة رواد فيسبوك الذين شاركوا المنشور الأصلي، كل المدح والشهادات الإيجابية بحق المؤسسة والإدارة، وسعيها الحثيث وطموحها الذي لا ينضب لإنقاذ حيوات لا تُحصى، والحديث عن كيف غيّرت تلك المؤسسة مفهوم الرعاية الصحية بالنسبة لغير المقتدرين: كيف غيّرت مفهوم الجودة وسهولة الوصول وحفظ الكرامة (التي تزداد أهميتها في هذا السياق تحديداً باعتبار الرعاية الصحية أكثر المجالات حساسية).

والناس يصدّقون الناس، أكثر من أي حملات ترويجية مدفوعة أو إعلانات ممولة أو غيرها من أساليب التسويق.

هل تُحدث مؤسستك الخيرية فرقاً في عقليات الناس؟ هل تحقق أثراً اجتماعياً ملموساً؟

إذا كنت مؤمناً بما تفعل، وتؤمن بأهمية دور مؤسستك في المجتمع، وتستطيع قياس هذه الأهمية بطريقةٍ ما، فلا تنسَ أن تشارك الناس (جمهورك) أسباب إيمانك ونتائج جهودك، وأن تبقيهم على اطلاع دائم بما حدث وما يحدث وما تتطلع إلى حدوثه. لديك دائماً فرصة لتكون آراء الناس (وهي ترجمتي المفضلة لمصطلح Word of mouth) سلاحاً قوياً وأداة فعّالة لضمان استدامة مؤسستك.