العمل الخيري الاستراتيجي بخير وينبض بالحياة

6 دقيقة
دور العمل الخيري الاستراتيجي
shutterstock.com/ITTIGallery

ذكّرتنا قصة الغلاف في عدد صدر مؤخراً من مجلة ستانفورد للابتكار الاجتماعي بعنوان "أين أخطأ العمل الخيري الاستراتيجي"، برد مارك توين على شائعة عن وفاته نُشرت في صحيفة نيويورك جورنال عام 1897. وعندما سأله أحد الصحفيين عن تعليقه على الخبر، أجاب توين قائلاً: "ثمة مبالغة كبيرة في نبأ وفاتي". ردّنا على المؤلفين مارك كريمر وستيف فيليبس مشابه لما قاله توين، إذ نقول لهما: "لقد أعلنتما موت العمل الخيري الاستراتيجي قبل الأوان ودون أدلة مقنعة".

يعرّف كريمر وفيليبس العمل الخيري الاستراتيجي بأنه العطاء الخيري الذي يهدف إلى العثور على حلول دائمة للمشاكل المجتمعية في البلاد. ويرى كريمر وفيليبس أن الافتراضات الأساسية التي تحفز هذا النوع من العطاء هي استمرار لمعتقدات فاعل الخير الأميركي أندرو كارنيغي "بأن المستفيدين من الدعم الخيري غير قادرين على حل مشاكلهم، وأن المانحين الأثرياء لديهم الحكمة والحافز لحل مشاكل المجتمع الكثيرة، وأن القطاع الاجتماعي هو البديل الفعال للحكومة في بناء مجتمع عادل ومستدام". ويجد الباحثان أدلة على إخفاق العمل الخيري الاستراتيجي في مواجهة التحديات الاجتماعية المتزايدة في البلاد، ويريان أنه يجب استبدال "العمل الخيري التمكيني" به، وهو عبارة عن تحويلات نقدية غير مشروطة مترافقة مع تثقيف الناخبين وحشد جهودهم وتطبيق أساليب التأثير الجماعي التي تمنح الناس القدرة على مساعدة أنفسهم. ويحذّران من أن العمل الخيري الاستراتيجي خطر لأنه "يحوّل الانتباه عن الإصلاحات الأساسية الأقل قبولاً لدى المانحين الأثرياء وعن الواقع الذي يقول إن الحكومة وسلوك الشركات مسؤولان عن علل المجتمع".

هذا لا يعكس تجربتنا مع العمل الخيري الاستراتيجي، ونحن نرى في تصوير كريمر وفيليبس صورة بعيدة عن الواقع تخلط بين دور العمل الخيري ودور الحكومة. والأهم من ذلك أنهما يتجاهلان دور العمل الخيري الحيوي في المجتمع، والأدلة على دور العمل الخيري في التغيير الاجتماعي الناجح، ويخفقان في إدراك كيف تعلم فاعلو الخير والعاملون في مجال العمل الخيري وتحسنوا بمرور الوقت. سنتناول هذه النقاط تباعاً.

لا نعلم بوجود مؤسسة تظن أنها تحل محل الحكومة، حتى المؤسسات الكبرى لا تظن ذلك. ولكننا نعرف الكثير من المؤسسات التي تسعى إلى المساعدة على إتاحة الموارد الحكومية وسد الثغرات الحرجة التي خلّفتها البرامج الحكومية. في حين يرى كريمر وفيليبس أن البرنامج الفيدرالي للتخفيف من تداعيات كوفيد-19 دليل على قدرة الحكومة الفريدة على معالجة القضايا الوطنية، نرى أن العمل الخيري يساعد في سد ثغرات التمويل، وتسريع توزيع الإمدادات الطبية الوقائية الضرورية على المجتمعات الضعيفة، وتعزيز الوصول إلى اللقاحات في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، أغلق برنامج كوفاكس (COVAX)
في نهاية عام 2023 بعد أن أوصل ما يقرب من ملياري جرعة من اللقاحات إلى 146 بلداً وحال دون وقوع ما يقدّر بنحو 2.7 مليون حالة وفاة في البلدان المنخفضة الدخل.وقد أسهم العمل الخيري بقوة في هذا الجهد من خلال التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI) الذي يمول اللقاحات المرشحة ويدعم جهود التوزيع العالمية.

واليوم، نرى أن العمل الخيري يضطلع بدور تكميلي مماثل في مساعدة المجتمعات ذات الدخل المنخفض في الحصول على فوائد الطاقة النظيفة. يدعم العديد من المؤسسات الخيرية مؤسسات حماية البيئة الأهلية والوطنية لضمان تدفق حصة عادلة من الحوافز الضريبية والمنح التي يقدمها قانون خفض التضخم الفيدرالي (IRA) والبالغة 394 مليار دولار إلى المجتمعات التي قد لا تكون على علم بأنها مؤهلة أو تفتقر إلى الموظفين أو الخبرة اللازمة للحصول عليها.

يحدد كريمر وفيليبس مجموعة حلول ضيقة للغاية للعمل الخيري لا تترك مجالاً لفهم المشكلة بعمق قبل اتخاذ القرار بشأن ما يجب فعله وطريقة فعله، وهو التحليل الأساسي للعمل الخيري الاستراتيجي. فاقتراحهما بأن حشد جهود الناخبين وتثقيفهم وسيلتان كافيتان لتحسين الديمقراطية في البلاد يظهر محدودية تحليلهما. إن تثقيف الناخبين وحشد جهودهم أمران ضروريان لسلامة الديمقراطية، وهما وسيلتان فعالتان في كثير من الأحيان لزيادة مشاركة الناخبين. ولكن ثمة مشاكل هيكلية أعمق هنا. على سبيل المثال، يخلق النظام الانتخابي في البلاد، بما فيه من انتخابات تمهيدية حزبية ودوائر انتخابية ذات عضو واحد وتصويت الأكثرية في العديد من الولايات، حوافز تنافسية تدفع الأحزاب والناخبين إلى تبنّي مواقف متطرفة. يتعاون العديد من المسؤولين المنتَخبين والمؤسسات غير الربحية والباحثين والمؤسسات الخيرية على إصلاح نظام الحوافز الضمني هذا في كل من الولايات التي تنتخب الحزب الديمقراطي والتي تنتخب الحزب الجمهوري في جميع أنحاء الولايات المتحدة. يستبعد كريمر وفيليبس الفهم الشامل للمشكلة ويغفلان عن العديد من الحلول المبتكرة التي تحتاج إلى دعم خيري لتحقيق النجاح من خلال انتقاء أساليب محددة بوصفها حلولاً وحيدة للتحديات التي تواجه الديمقراطية.

يقترح كريمر وفيليبس أيضاً التحويلات النقدية المشروطة في نهجهما الجديد للعمل الخيري التمكيني، وهنا يغيب عنهما الدور الذي أداه العمل الخيري الاستراتيجي بالفعل. استخدم قادة التأثير الاجتماعي والمؤسسات غير الربحية والباحثون وفاعلو الخير وحكومات الولايات التحويلات النقدية غير المشروطة في استراتيجيات أوسع نطاقاً للتخفيف من حدة الفقر عبر تزويد الناس بإمكانية التحكم في الموارد. أُسست مؤسسة غيف دايركتلي (GiveDirectly)، وهي مؤسسة غير ربحية ساعدت في نشر فكرة التبرع النقدي للفقراء، في عام 2012 بمنحة من جوجل ثم من مؤسسة غود فنتشرز (Good Ventures) الخيرية. يسلط نجاح مؤسسة غيف دايركتلي وريادتها الفكرية في التخفيف من حدة الفقر الضوء على فائدة أخرى للعمل الخيري الاستراتيجي، إذ مولت مؤسسات خيرية تمارس العمل الخيري الاستراتيجي الدراسة التي أجرتها المؤسسة على مدار 12 عاماً حول الآثار الطويلة الأجل للدخل الأساسي. تمثل هذه الدراسة لفهم النتائج الطويلة الأجل لمعالجة الفقر بهذه الطريقة في سياقات مختلفة شراكة فريدة من نوعها مناسبة جداً للعمل الخيري. وخلافاً لما ذهب إليه كريمر وفيليبس، فإن التحويلات النقدية لا تمثل بديلاً عن العمل الخيري الاستراتيجي لأنه هو الذي مكّنها.

ثمة العديد من قصص التأثير الاجتماعي التي ساعد فيها العمل الخيري على تحقيق التغيير على نطاق واسع، وقد تجاهلها كريمر وفيليبس.
لقد ملأ العمل الخيري ثغرات مهمة، ووفر رأس المال المغامر الصبور، ودعم العلماء والمناصرين وقادة المؤسسات غير الربحية والمجتمعية للتكيف مع السياقات السياسية والمالية المتغيرة. تصف مبادرة العمل الخيري الجريء (Audacious Philanthropy) التي أطلقتها مؤسسة بريدجسبان (Bridgespan) هذه القصص وغيرها من القصص التعاونية الناجحة بطريقة رائعة. نسلط الضوء هنا على 3 أدوار حاسمة أداها العمل الخيري الاستراتيجي في الجهود الجماعية لتحسين حياة الناس.

  • توسيع نطاق التحركات الوطنية لتحسين صحة الناس. دخل العمل الخيري في شراكات مع مناصرين ومؤسسات غير ربحية وباحثين وغيرهم لبناء قطاع رعاية المحتضرين والمساعدة على انتشار الاعتماد على خدمات الطوارئ 911 والإنعاش القلبي الرئوي. هذه هي الجهود التي أطلقها العمل الخيري ووسعت نطاقها الحكومة والأسواق.
  • دعم الحركات الاجتماعية لتغيير المعايير الوطنية والسياسات الحكومية. دعمت المؤسسات الخيرية مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسي الحركات وحملات المناصرة العامة للمساعدة على إنهاء الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ومظاهر التمييز في الولايات المتحدة. وقد نشأت هذه الجهود عن التخطيط الاستراتيجي الدقيق، والشراكة مع النشطاء، والعمل بالتوازن الصحيح بين الصبر والسرعة.
  • معالجة العجز في السوق الذي يحرم البلدان المنخفضة الدخل من اللقاحات الأساسية. تمكنت البلدان المتقدمة من السيطرة على شلل الأطفال بحلول ستينيات القرن الماضي، لكن هذا المرض انتشر في البلدان الفقيرة في أوائل العقد الأول ومنتصفه من القرن الحالي. أعاد العمل الخيري تنشيط التحصين العالمي، وشجع الجهات المانحة الحكومية على مضاعفة الإنفاق العالمي وخفض عدد المصابين بشلل الأطفال بدرجة كبيرة سنوياً.

نحن نرى نسخة مختلفة كثيراً من العمل الخيري الاستراتيجي عما يراه كريمر وفيليبس. في مؤسستنا، مؤسسة آرثر إم بلانك فاميلي فاونديشن (Arthur M. Blank Family Foundation)، نستخدم الاستراتيجية بوصفها منهجية لفهم القضايا الاجتماعية من وجهات نظر مختلفة، وتركيز عطائنا وقياسه، والتصرف بحكمة في إدارة موارد الأسرة. نحن نرى الاستراتيجية أداة قوية ليس لأنها تضمن أن كل جهد واستثمار يؤدي إلى تغيير ناجح على نطاق واسع، بل لأنها تساعد المؤسسات على التركيز والتعلم والتكيف مع مرور الوقت. لكي نتمكن من فهم أي مشكلة، نخوض أولاً رحلة تعلم تتضمن قراءة الدراسات والتشاور مع مصادر المعلومات المختلفة وقادة مؤسسات غير ربحية ومجتمعية وخبراء وعاملين وقادة مدنيين وغيرهم. توفر استراتيجياتنا التركيز والضوابط اللازمة لاتخاذ القرارات لأننا لا نستطيع التمويل في كل المجالات. وبمجرد إطلاق الاستراتيجية، نواصل جمع الملاحظات من المستفيدين من المنح والاستفادة منها ودعمهم في استخدام أدوات مثل برنامج ليسن فور غود (Listen4Good) لضمان إيصال أصوات أفراد المجتمع واحترامها. نعتقد أن كريمر وفيليبس قد شكّلا تناقضاً زائفاً بين العمل الخيري الاستراتيجي ودعم القوة المجتمعية، ونحن نؤمن بشدة بكليهما.

إليك بعضاً من الدروس التي تعلّمها العديد من المؤسسات الخيرية، وتعلمناها على مر السنين من نظرائنا من المؤسسات الخيرية والمؤسسات غير الربحية وقادة التغيير الاجتماعي والمجتمعات التي سافرنا إليها وعشنا وعملنا فيها.

  • عامل الجميع باحترام ولطف، واحرص على بناء العلاقات وليس المعاملات.
  • لا تغتر بأفكارك أو تسعى إلى السيطرة على المؤسسات أو المجتمعات التي تدعمها.
  • اجمع الآراء والملاحظات بتواضع من الموظفين والمستفيدين من المنح وأفراد المجتمع واستخدمها لتحسين فهمك والعمل الذي تؤديه.
  • اعرف الخطوات الناجحة وغير الناجحة حتى تتمكن من البناء على نجاح الآخرين والتعلم من إخفاقاتهم.
  • عليك بالقياس والتقييم بهدف التعلّم والتحسين، وليس بهدف الإثبات أو التشكيك.
  • احرص على التوافق مع المستفيدين من المنح منذ البداية بشأن ما تريدون أن تفعلوه معاً ولا تُخضع عملهم لإدارة تفصيلية.

نأمل أن يوفر هذا الرد للقراء سبباً للشك في صحة الإعلان المبكر عن وفاة أحد الأساليب المختلفة للعمل الخيري. وبدلاً من العودة إلى النظرة الفوقية للعمل الخيري باعتباره عملاً خيرياً يحول فيه الأثرياء دون حدوث تغيير تقدمي، نختتم بالعودة إلى أصل الكلمة اليوناني، إذ تعني كلمة "philanthropy" (العمل الخيري) في اللغة اليونانية حب الإنسانية. يبدو مقال كريمر وفيليبس في أسوأ حالاته دعوة للانقسام. ثمة ما يكفي من الانقسام في العالم ولا حاجة لنا إلى خلق انقسام لا داعي له في مجال يهدف إلى دعم حب الإنسانية. بدلاً من ذلك، دعونا نركز على أفضل ما يمكن أن يفعله العمل الخيري عندما يكون في أفضل حالاته، فهو خدمة ودعم وحلول وتحفيز وابتكار وشراكة مع الآخرين لتحقيق تغييرات هادفة في المجتمع والبلد والكوكب.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.