"يخاف الناس بعضهم بعضاً لأن كلاً منهم لا يعرف الآخر، وكلٌّ منهم لا يعرف الآخر لأنهم لا يتواصلون فيما بينهم، ولا يتواصلون فيما بينهم لأن كلاً منهم منعزل عن الآخر" كانت هذه كلمات مارتن لوثر كينغ الابن التي ألقاها أمام طلاب كلية كورنيل (Cornell College) قبل أكثر من 60 عاماً في زمن شهد انقسامات سياسية حادة في الولايات المتحدة؛ لكنها تعبر أيضاً عن واقعنا الحالي وتمثل دعوة لبناء المجتمع، وهو ما يستطيع القطاع غير الربحي تحقيقه بكفاءة من خلال التواصل الذكي.
في بدايات مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن (WFF)، كان استثمارها في مجال قدرات التواصل أو أنشطته محدوداً، لكن التجربة أثبتت لنا في الأعوام الماضية أن التغيير الذي يقوده عدد محدود من الأفراد لا يضاهي في فعاليته واستمراريته التغيير الذي يقوده عدد كبير من الناس، وأدركنا أيضاً أن التواصل الاستراتيجي قادر على أداء دور محوري في توسيع دائرة المشاركين في عملية صناعة التغيير.
على سبيل المثال، دعمت مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن عام 2019 جهوداً أسفرت عن تفاوض الولايات السبع الواقعة في حوض نهر كولورادو على أكبر اتفاقية للحد من الاستهلاك المفرط للمياه في التاريخ. وقد دعمت المؤسسة إشراك المجتمعات القبلية في المفاوضات، وعملت معها للتوصل إلى اتفاق بشأن المشاركة في مشاريع الحفاظ على المياه، ما ساعد كل ولاية على استيفاء التزاماتها وإبرام الاتفاقية. ركزت جهودنا المتعلقة بالتواصل طوال العملية على توضيح أن إشراك هذه الفئة كان الخيار الصحيح والطريقة المثلى للمضي قدماً.
شجّعتنا هذه النتائج على تطوير أساليبنا في التواصل ونهجنا العام لزيادة فرص الوصول للأفراد والمجتمعات؛ حيث ينصب تركيزنا الآن على بناء المجتمع ضمن مجالات برامجنا الثلاثة: تحسين التعليم لمختلف الطلاب وحماية الموارد المائية وتحسين جودة الحياة في شمال غرب ولاية أركنساس ومنطقة دلتا نهر الميسيسيبي. تستمد المؤسسة قوتها من التقاء أجيال متعددة من العائلة، على الرغم من اختلاف مواقعها الجغرافية وتنوّع وجهات نظرها، وهو ما تعكسه استراتيجيتها المتعلقة بالتواصل اليوم، إلى جانب جذورها الراسخة في وسط أميركا؛ إذ تُدرك المؤسسة أن بناء مجتمع يتشارك الجميع في قيادته أمرٌ بالغ الأهمية، وأن مشاركة مختلف الأطراف المعنية بحل المشكلات الاجتماعية تؤدي إلى ظهور أفكار أفضل.
البحث عن غاية مشتركة
في أكتوبر/تشرين الثاني 2024، نشرت مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن نتائج دراسة أعدّها فريق بحثي في الرأي العام يضم أطيافاً سياسية متعددة، أثبتت أن الأميركيين، على الرغم من حالة الاستقطاب الراهنة، متفقون على الرغبة في التوصُّل إلى حلول للقضايا الاجتماعية المعقدة ويثقون في قدرة القطاع غير الربحي على قيادة هذا المسار. أثبتت الدراسة أيضاً أن غالبية الأميركيين يؤمنون بأهمية دور القطاع في حشد الجميع لحل المشكلات (بنسبة 82%) وتمكين المعنيين مباشرة بالتحديات الاجتماعية من التوصُّل إلى الحلول (بنسبة 93%).
تبدأ تلبية هذه التوقعات بالتواصل، وتعتمد استراتيجيات التواصل الفعالة على تحديد الفئة المستهدفة بوضوح ونوع المجتمع الذي تسعى إلى بنائه، علماً أن مفهوم المجتمع لا ينحصر في الحدود الجغرافية أو السياسات أو الفوارق بين الأجيال، بل يشمل أيضاً المجموعات التي يجمعها هدف مشترك. يتمحور الخطاب السائد في الولايات المتحدة حالياً حول الانقسامات، مثل الانتماء السياسي إلى الحزب الجمهوري أو الديمقراطي والتوزيع الجغرافي للسكان في المدن والريف أو السواحل ووسط البلاد وحَمَلة الشهادات الجامعية وغيرهم والانتماء إلى الجيل إكس أو الجيل زد. وعلى الرغم من ذلك، يتفق معظم الأميركيين على أهمية ضمان الحصول على أساسيات الحياة، مثل مياه الشرب (78%) والرعاية الصحية الجيدة والميسورة التكلفة (72%) والتعليم العالي الجودة من مرحلة الروضة إلى الثانوية (71%)؛ فماذا لو كان تعريف المجتمع قائماً على ما يجمعنا، وإن اختلفنا في جوانب أخرى؟ تستطيع المجتمعات التي يجمعها هدف مشترك أو تجارب مشتركة أن تتجاوز الفروقات الجغرافية والتعليمية والعمرية والسياسية، وأن تبني جسور التواصل على الرغم من هذه الاختلافات.
كي تستطيع المؤسسات الاستفادة من نقاط الإجماع في تشكيل هذه المجموعات، عليها أن تعيد النظر في تحديد الأطراف المشاركة في عملية صناعة القرار. على سبيل المثال، يمكن أن يضم المجتمع المهتم بتوفير المياه كلاً من الجهات المحلية المسؤولة عن إمدادات المياه، إلى جانب حكومات المدن والولايات والمزارعين والشركات والمجتمعات القبلية. ويمكن أن يضم المجتمع الذي يركز على توفير تعليم عالي الجودة كلاً من الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور والقادة الحكوميين ومسؤولي الشركات.
وقد لاحظنا في مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن أن الجمع بين 3 منهجيات يساعد على تعزيز التعاون بين المجتمعات التي تتباين وجهات نظرها لكنها تشترك في غاية واحدة.
1. الأسلوب الإخباري
يُمثل الأسلوب الإخباري الطريقة التقليدية الأكثر شيوعاً في تواصل المؤسسات، وكان لعقود يقتصر على إصدار تقارير سنوية أنيقة تتضمن محتوى سردياً مطولاً وصوراً فوتوغرافية جذابة. لا يزال الأسلوب الإخباري يؤدي دوراً مهماً، خاصة عندما يعزز الشفافية ويوفر معلومات حيوية، لكن إن لم نتوخَّ الحذر أو اعتمدنا على هذا الأسلوب وحده، فقد نبدو وكأننا نخاطب أنفسنا. تشكّل المؤسسات مصدراً غنياً بالمعلومات والخبرات، لكنها لا تجيد دائماً توصيل هذه المعلومات بأسلوب يسهّل على المستفيدين والشركاء والمجتمعات الأخرى استيعابها بسرعة وتطبيقها على أرض الواقع. وإليك بعض المبادئ التي تجب مراعاتها في هذا السياق:
- قدّم المعلومات بأسلوب ميسّر. لا يتحدث الجميع اللغة نفسها، سواء بالمعنى الحرفي للكلمة أو بسبب التعقيد الناجم عن المصطلحات المتخصصة أو الفوارق الجغرافية أو اختلاف مستويات التعليم أو عبء المعلومات. وتسعى مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن جاهدة لتبسيط أساليب تواصلها مع الأطراف الخارجية بأقصى درجة ممكنة، ليس لأن أفراد المجتمع يفتقرون إلى الذكاء ولكن لأنهم ينتمون إلى خلفيات متباينة ولديهم خبرات ووجهات نظر مختلفة، علاوة على انشغالهم الشديد.
- تجنب اللغة المنفِّرة. عليك أن تدرك أن بعض المفردات والعبارات قد تعوق التواصل الفعّال أو تثير حساسيات معينة لدى الجمهور. ويساعد استخدام مصطلحات بديلة على تعزيز التفاعل مع المنتمين إلى مختلف الفئات أياً كانت خلفياتهم الفكرية. وتمثل مبادرة "مشروع انطباعات الخطاب المدني" (Civic Language Perceptions Project) الذي أعدّته مؤسسة فيلانثروبي فور آكتيف سيفيل إنغيجمنت (Philanthropy for Active Civil Engagement) مصدراً قيّماً لفهم الانطباعات السلبية المحتملة لبعض المفردات واكتشاف بدائل إيجابية أكثر. كما يمثل الذكاء الاصطناعي وسيلة مفيدة أيضاً؛ جرّب أن تسأل تشات جي بي تي عن الطريقة التي قد يفهم بها شخص ذو وجهة نظر مخالفة ما تحاول قوله.
- ركِّز على القيم. غالباً ما ينصبّ اهتمامنا في العمل الخيري على "كيفية" إصلاح المشكلة قبل أي شيء آخر. وقد تكون الحلول المقترحة في بعض الأحيان مربكة ومثيرة للجدل؛ ولكن التحدث عن "السبب" بدلاً من "الكيفية"، أي سبب تكريس جهودنا لحل المشكلة، يساعدنا على الوصول إلى نقطة اتفاق. وبما أن الجميع تقريباً يريدون تعليماً جيداً للطلاب وإمدادات كافية من المياه، فلنبدأ من هذه النقطة.
2. الأسلوب التمثيلي
يتميز الأسلوب التمثيلي بقدرته على نقل الرسائل من خلال تجسيد الأحداث. يمكن القول باختصار إن الأسلوب التمثيلي هو فن رواية القصص؛ فالاعتماد على البيانات وحدها قد يكون مربكاً وجافاً. يوضح دانيال كانيمان الحاصل على جائزة نوبل في كتابه "التفكير السريع والبطيء" (Thinking Fast and Slow) أن العقل الحدسي يتحكم في 95% من معتقداتنا، بينما يتحكم العقل التحليلي في النسبة المتبقية، وهي 5%. ويستجيب العقل الحدسي للقصص، بينما يستجيب العقل التحليلي للبيانات. ولدى مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن كميات كبيرة من البيانات التي تدعم نهجها في التغيير الاجتماعي، لكنها تتبنى أيضاً مبدأ أساسياً: "لا قصص دون بيانات، ولا بيانات دون قصص". لا شك في أن رواية القصص تشهد تغيرات مستمرة مع ظهور منصات جديدة وتناقص قدرة الجمهور على التركيز، لكننا نلتزم بمبادئ معينة عند تسليط الضوء على التحديات التي تواجهها المجتمعات والأفراد الذين يسعون لحلها:
- التركيز على الإمكانات، لا المشكلات. تُعد منطقة دلتا نهر الميسيسيبي واحدة من أفقر المناطق في الولايات المتحدة، لكنها تزخر بالتراث الثقافي والفرص الواعدة. وتروي سلسلة أفلامنا الوثائقية للمخرج السينمائي نولان دين الذي يقيم في منطقة دلتا قصص أشخاص استثنائيين يعملون على تغيير مجتمعاتهم نحو الأفضل.
- التحلي بالشفافية. تعمل مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن على ذلك، لا سيما فيما يخص استراتيجيات البرامج. على سبيل المثال، لمساعدة المستفيدين والشركاء على إدراك الصورة الكاملة لجهودنا الجماعية، أعددنا مجموعة من الرسومات التي تبرز نظرية التغيير في برنامج المنطقة الأم (Home Region)، مع توضيح طبيعة العمل والأطراف المعنية والنطاق الجغرافي والأسباب الدافعة. ودعمنا انتشار المحتوى من خلال التواصل المباشر بين فريق البرنامج والمستفيدين، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي والمراسلات الإلكترونية. أدى ذلك إلى تحقيق أحد أعلى معدلات تفاعل الجمهور على منصاتنا خلال العام الماضي، ما يؤكد رغبة شركائنا في فهم استراتيجياتنا.
- توصيل المعنى بالفعل لا بالكلام. يمثل هذا الاتجاه الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي قبل بضع سنوات إطاراً رائعاً يجب وضعه في الاعتبار. لا تكتفِ بقول إنك حريص على الاستماع لمختلف الأطراف، بل برهن على ذلك من خلال إشراكهم فعلياً في قراراتك.
3. الأسلوب الاستفهامي
يُعد هذا من أكثر أساليب التواصل تأثيراً في بناء المجتمعات، فمَن يواجهون التحدي من قرب غالباً ما يمتلكون أفضل الرؤى لحلها. وبفضل استقرار موارد القطاع الخيري ورؤيته القائمة على أداء رسالة محددة، فهو يمتلك القدرة على ضمان إشراك هؤلاء الأفراد في ابتكار الحلول.
وقد بدأنا مؤخراً سؤال الطلاب عن آرائهم بهدف توجيه جهودنا في دعم التعليم. وبفضل تعاوننا مع مؤسسة غالوب (Gallup) في إجراء دراسة آراء الجيل زد (The Voices of Gen Z Study)، استطعنا التعرف بصورة أعمق إلى الصعوبات التي يواجهونها ومصادر إلهامهم وآمالهم للمستقبل. ومن أبرز النتائج التي توصلنا إليها أن 50% من الشباب يرون أن التعلم التطبيقي هو أكثر أسلوب يثري تجربتهم التعليمية، في حين أفاد 23% فقط بوجود فرص للعمل على مشاريع تتماشى مع طموحاتهم المهنية. تمثلت استجابتنا لهذه التحديات جزئياً في تعزيز دعمنا للنماذج المدرسية التي تربط الطلاب بالمسارات المهنية الممكنة؛ فعلى سبيل المثال، تركز مدرسة ألاباما الثانوية للطيران والفضاء (Alabama Aviation and Aerospace High School) على تأهيل الطلاب لشغل مناصب قيادية في قطاعي الطيران والفضاء.
حرصنا أيضاً على التعاون المباشر مع أفراد ومؤسسات من المجتمعات التي نقدم لها الدعم؛ إذ التقى فريق البرنامج للمرة الأولى بالسيدة هيذر تانانا، التي وُلدت في محمية نافاهو وكانت آنذاك أستاذة مساعدة في جامعة يوتا (University of Utah)، خلال مؤتمر عُقد قبل تفشي جائحة كوفيد-19 بقليل. وجّه قادة مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن الدعوة إلى تانانا للمشاركة في عدة زيارات ميدانية، وعند تفشي الجائحة، أدت خبرتها دوراً محورياً في التنسيق مع المجتمعات القبلية. وهي ترأس الآن مبادرة "مشروع وصول مياه الشرب للمجتمعات القبلية" (Universal Access to Clean Water for Tribal Communities Project) الحاصلة على منحة مؤسسة والتون فاميلي فاونديشن التي تركز على تأمين وصول المياه إلى المجتمعات القبلية في حوض نهر كولورادو. تقول تانانا: "ثمة فرصة كبيرة أمام المؤسسات الخيرية للتعاون مع القبائل الأميركية الأصلية ومساعدتها في الحصول على التمويل وسد الفجوة المائية، إلى جانب تعزيز دورها في المناقشات المتعلقة بتأمين إمدادات المياه الآمنة والمستدامة في حوض نهر كولورادو".
في ظل الانقسامات الحادة التي يشهدها المجتمع حالياً، يتطلع الكثيرون إلى القطاع غير الربحي ليقود التغيير، مع إيمانهم بقدرته على توحيد الجهود لتحقيق هذا الهدف. وعلى الرغم من عدم شمولية هذه الاستراتيجيات التواصلية، فقد أثبتت صلاحيتها لأن تكون أساساً موثوقاً لبناء مجتمعات فاعلة ومتميزة تمتلك القدرة على الابتكار وحل المشكلات وتغيير حياة الناس.