الابتكار الاجتماعي من منظور ثلاثي الأبعاد

5 دقائق
الابتكار الاجتماعي
Shutterstock.comNovikov Aleksey

تُعدّ شركة «ماكنزي آند كومباني» أول من وضع مفهوم «المهارات المتقاطعة» (T-shaped person)؛ والتي تأخذ شكل حرف T، السائد في تخصص الابتكار الاجتماعي والابتكار عموماً لأهميته، حيث تتشكل هذه المهارات لدى الأشخاص الذين يمتلكون ويهتمون باستمرار بمختلف المعارف، وفي العديد من المجالات، مصحوبة بعمق المعرفة في مجال واحد؛ أي أن لديهم معرفة أفقية عامة وشاملة في الكثير من المجالات، وخبرة عمودية عميقة ومتخصصة في مجال واحد. يقول كل من داير وغريغرسن وكريستنسن في كتابهم؛ الذي يحمل عنوان «السمات المميزة للمبتكرين» (The Innovator’s DNA)، بأن الشخص الذي يمتلك مهارات متقاطعة مؤهل تماماً للابتكار لأنه قادر على إجراء ربط مذهل عبر القطاعات أو مجالات المعرفة، ويحدث هذا بطريقتين: الأولى عن طريق استيراد فكرة من مجال المعرفة العامة إلى مجال المعرفة العميقة، والثانية عن طريق تصدير فكرة من مجال المعرفة العميقة إلى أحد المجالات العامة والشاملة.

بدأت ألاحظ المبتكرين الذين يمتلكون هذه المهارات في كل مكان بعد تزودي بذلك الاستدلال المهني، وأدركت أن أفضلهم يستمرون في صقل تلك المهارات على طول المحورين، وتعتبر زميلتي فيونا بوند أحد هؤلاء الأشخاص، إذ من خلال الجمع بين عمق الخبرة في المسائل الثقافية واتساع المعرفة المكتسبة بعد حصولها على درجة الماجستير إدارة الأعمال، حولت ما كان عليه المشهد الفني ضمن مجتمعها، وتستخدم هذا التحول للمساهمة في تعزيز اقتصاد محلي متنام.

نسبتُ نجاحها في البداية إلى قدرتها على الربط بين البعدين لتلك المهارات، وأنها كانت أيضاً تسخّر فرص النمو الاقتصادي وتشجع المبدعين على الانطلاق، لكن من المثير للاهتمام أنه بعد مراقبة عمل فيونا بمرور الوقت، أعدت النظر في الاستعارة لأنها لا تنطبق تماماً على تخصص الابتكار الاجتماعي، أو لأكون دقيقاً أكثر، فقد جعلتني فيونا أتساءل عما إذا كانت المهارات المتقاطعة التي تأخذ شكل حرف T كافية للابتكار الفعال في القطاع الاجتماعي؛ إذ يبدو أن هناك المزيد، لذلك بدأت في مراقبة المبتكرين الاجتماعيين المؤثرين في مجالات متنوعة أخرى، والمشاركة في مناقشة هذا الموضوع مع مجموعة من أصحاب المصلحة في القطاع الاجتماعي.

البعد الثالث لمهارات تخصص الابتكار الاجتماعي

ما تعلمته هو أن المبتكرين الاجتماعيين مختلفون في واقع الأمر، نظراً لأنهم يطورون بعداً ثالثاً؛ وهو ما أسميه المحور z الذي يتقاطع مع المحورين x و y للمبتكرين الذين يمتلكون المهارات المتقاطعة، هذا البعد الثالث هو «اجتماعي» ويتطلب القدر نفسه من الاهتمام مثل البعدين الآخرين.

حضرت حدث إطلاق «ذا ويكو 52» (The Waco 52) بناء على دعوة فيونا؛ وهو معرض فني يخضع لمعايير معينة ويُقام في مبنى الكابيتول بولاية تكساس للاحتفال بالمكانة التي اكتسبتها مدينة واكو بصفتها «منطقة ثقافية»، وتجد ذات الأعمال الفنية الـ52 المعروضة على وجوه مجموعة من أوراق اللعب، والتي عُرضت للبيع في المدينة للمساعدة على تمويل مشاريع فنية جديدة. كان الأمر اللافت في ذلك المساء إلى جانب الأعمال الفنية الاستثنائية هو تنوع الاهتمامات الخاصة لدى الأشخاص الحاضرين من فنانين ومشرعين وقادة شركات ومدراء تنفيذيين في مؤسسات غير ربحية ومسؤولين في جامعات وغيرهم، وقد تضمن كتالوج المعرض رسائل دعم من رئيس أميركي سابق تحول إلى فنان، واثنين من المشاهير في مجال ترميم المنازل حيث عرض برنامجهما التلفزيوني ترميم المنازل القديمة في مدينة واكو ومحيطها. كان السياق الذي يمر عبر جميع هؤلاء الأشخاص وجميع تلك القطاعات هو قدرة فيونا على جمعهم معاً؛ أي قدرتها على تسخير هذا البعد الثالث.

عملت على توظيف استعارة المهارات المتقاطعة على مستوىً عالٍ كمحاولة مني قبل ذلك لتشكيل فِرق من زملائي في الجامعة حول الالتزام المتواصل تجاه القضايا الحرجة، ومحاكاة سمات المبتكرين الاجتماعيين. ألن يكون من الرائع جمع فِرق من الأشخاص الذين يمتلكون هذه المهارات حول قضايا مشتركة؟ على سبيل المثال، ألن تعالج مثل تلك المهارات قضايا معقدة؛ مثل الأعداد المخيفة للأطفال الذين يغادرون بمفردهم من المثلث الشمالي لأميركا الوسطى متجهين إلى حدود تكساس عبر تضاريس خطيرة، مستفيدين من تجمُّع خبراء السياسة واسعي الاطلاع والعاملين في مجال الرعاية الصحية والمهندسين والعاملين في المجال الاجتماعي وعلماء الأنثروبولوجيا والمحامين. يمكن لجميع هؤلاء الخبراء التحدث من جوانب مختلفة لهذه القضية، وتوظيف خبراتهم على مختلف مراحل رحلة المهاجر؛ من العوامل المعقدة التي تدفع الأطفال بعيداً عن منازلهم، إلى اجتياز مساحات كبيرة في الصحراء مع القليل من المياه، والأزمات على المستوى النفسي والروحي والقانوني التي تنتظر الأطفال على طول الرحلة. قد تكون الفرق المكونة من الأشخاص الذي يمتلكون مهارات متقاطعة والمجمَّعة بشكل صحيح، قادرة على التعامل مع تعقيدات هذه القضية بطرق تؤدي إلى الابتكار المزعزع.

تعلمت أن البعد الاجتماعي مهم بالقدر نفسه، ليس فقط بالنسبة إليّ فيما يتعلق بالقدرة على جمع هذه الفِرق، ولكن لجميع أصحاب المصلحة المساهمين في «برنامج الابتكار الاجتماعي التعاوني»؛ الذي نديره في «جامعة بايلور» (Baylor University). تم تصميم البرنامج؛ أو كما نسميه «باي سك» (BAY-SIC)، للجمع بين جهات متعاونة متنوعة، وأحياناً على نحو متطرف، للمضي قدماً نحو اكتشاف وتطوير طرق مبتكرة لدعم النهوض بالإنسان. نحن نرى أن التعامل مع القضايا المعقدة من زوايا جديدة وتخصصات متعددة سيؤدي إلى الخروج برؤى واستراتيجيات جديدة، لكن أصحاب المصلحة هؤلاء يواجهون العديد من العقبات أثناء تعاونهم والتي ستستمر في الظهور نظراً لأنها غالباً ما تكون حتمية، ولا شك أن تطوير بُعد اجتماعي أقوى للابتكار سوف يكون أمراً جوهرياً.

لأكون واضحاً أكثر، فإن تحقيق ذلك يتطلب الكثير من العمل؛ إذ يحدث التطور على طول المحورين x و y على الشكل ،T نتيجة لرغبة قوية في إحداث التغيير. تفترض «قاعدة العشر آلاف ساعة»؛ التي وضعها مالكولم غلادويل وأُجريت عليها دراسة من قِبل أندرس إريكسون، أن الخبرة؛ أو المحور العمودي، تتطور فقط من خلال التعلم والممارسة المستمرين على مدى سنوات عديدة، وتنطوي «قاعدة الخمس ساعات»؛ التي تعتبر قاعدة أساسية لدى كبار قادة الشركات اليوم، أن كبار المبتكرين جميعاً يخصصون ساعة في اليوم؛ أو خمس ساعات في الأسبوع، لتعلم أشياء جديدة؛ وهو ما يشير إلى التطوير على طول المحور الأفقي. إن تطوير البعد الاجتماعي لا يقل صعوبة، لأنه أمر أبعد من مجرد تنمية المهارات الشخصية لكنه بذات القدر من الأهمية، ذلك إلى جانب وجود إرادة ورؤية للتغلب على العقبات الهيكلية والالتزام بـ«التعاون العميق».

عندما أضع نفسي في مكان فيونا، أتخيل أن مهمة إقناع قادة الأعمال والمشرعين المحافظين لتوظيف الموارد من أجل دعم الفن المحلي تتطلب حضوراً قوياً، إلا أن ما يذهلني أكثر هو رؤيتها التعاونية التي تلهم الفنانين، والمؤسسات غير الربحية، والمشرعين، والشركات، والجامعات وغيرهم للمشاركة في صقل جوانب الحياة الثقافية للمجتمع. إن العقبات أمام هذا التعاون كثيرة، لأننا معتادون على البقاء ضمن مجالات عملنا، لذلك يجب أن ينطوي نهجها على تطوير وصياغة حجة تجبر العديد من الأشخاص على اختلافهم على تحدي أنفسهم للتغلب عليها.

لا شك أن العقبات لا تكون خارجية دائماً، إذ أننا نحب الاستقلالية ضمن الجامعات على سبيل المثال، فهي مقسمة إلى تخصصات تشكل بدورها أقساماً، ويتفرع عن هذه الأقسام كليات التي غالباً ما يصل عددها إلى 10-15 كلية ولا تلتقي في شيء في كثير من الحالات، والأسوأ من ذلك، هو أنها تتنافس علانية مع بعضهما البعض، ويتكلم زملائي في القطاعات الأخرى كثيراً عن تجارب مماثلة داخل مؤسساتهم.

تكمن المشكلة في أن شواغل عالمنا الأكثر إلحاحاً لا تتوافق مع الخطوط الصارمة للتخصصات أو الأقسام، ويمكن أن تتفاقم القضايا الحرجة بطبيعتها من خلال ذلك النهج أحادي الأسلوب أو النهج الواحد، هذا هو السبب الذي يدفعنا أكثر إلى تزويد المبتكرين الاجتماعيين بالرؤية والشجاعة لكسر حالة تبعية المسار؛ إذ لن يكون عمل المبتكرين الذين يمتلكون مهارات متقاطعة كاف، بل ما نحتاج إليه هو مبتكرون اجتماعيون يعملون من منظور ثلاثي الأبعاد.

اقرأ أيضاً: أماكن العمل الداعمة والقوة التي يمكن أن يكتسبها الموظفون فيها

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي