على مدى سنوات طويلة، كان النفط والغاز يشكلان المصدر الرئيسي للطاقة في الشرق الأوسط، لكننا نشهد اليوم بداية مرحلة جديدة تقوم على الطاقة الشمسية وتسترشد باستراتيجيات مدروسة. فما بدأ قبل نحو عشر سنوات باعتباره مبادرة للحد من التغير المناخي، أصبح اليوم استراتيجية واضحة المعالم لقطاع الطاقة؛ إذ تستثمر دول الشرق الأوسط الطاقة الشمسية على نطاق واسع، فتحولها إلى فرص عمل وصادرات ومصادر دخل مستدامة.
يبرهن التسارع الحثيث في زيادة القدرة الإنتاجية للطاقة الشمسية على أنها ليست مجرد أثر بيئي إيجابي، فوفقاً لقمة المستقبل الأخضر العالمية، فإن دول المنطقة تسابق الزمن للاستفادة من وفرة أشعة الشمس، وتشير عدة تقارير بقطاع الطاقة إلى أن قدرة الطاقة الشمسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سترتفع من بضع عشرات غيغا واط في الوقت الراهن إلى أكثر من 100 غيغا واط بحلول عام 2030. كما ذكر تقرير صادر عن مجلة بي في مغازين إنترناشونال أن إجمالي القدرة الإنتاجية للطاقة الشمسية في المنطقة يسجل معدل نمو سنوي يتراوح بين 20% و25%، مع توقعات بوصوله إلى ما بين 75 و180 غيغا واط بحلول عام 2030.
وتعمل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على تحويل الطاقة الشمسية إلى قيمة اقتصادية واسعة عبر 3 مسارات مترابطة:
أولاً، أدى إنشاء محطات ضخمة للطاقة الشمسية، مثل مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية في دبي، الذي تجاوزت قدرته الإجمالية 3.8 غيغا واط مؤخراً، ومجمع بنبان في مصر، ومشروع محطة سكاكا للطاقة الشمسية الكهروضوئية ومحطة جدة للطاقة الشمسية في السعودية، إلى تعزيز قاعدة الاستثمار والإنتاج في قطاع الطاقة. وأدى هذا النمو إلى زيادة الطلب على مطوري المشاريع والفنيين المهرة وشركات الخدمات اللوجستية والصيانة. وباختصار، فإن مشروعات الطاقة الشمسية العملاقة التي تصل قدراتها إلى عدة غيغا واط أسهمت في تنشيط قطاع الطاقة، وأسفرت عن ظهور عشرات الشركات الصغيرة والمتوسطة في سلاسل التوريد، إضافة إلى النمو المتواصل في الكفاءات البشرية.
ثانياً، أدت مشروعات الطاقة الشمسية العملاقة إلى نشوء قطاع جديد للتصدير هو قطاع الجزيئات الخضراء؛ إذ ينتج الهيدروجين الأخضر عندما تقترن الطاقة الشمسية منخفضة التكلفة بأجهزة التحليل الكهربائي التي تفصل جزيئات الماء إلى عنصري الهيدروجين والأوكسجين. ويمكن بعد ذلك تحويل الهيدروجين إلى أمونيا أو مركبات أخرى يسهل شحنها إلى المستهلكين في القطاعات المعنية حول العالم. ووفقاً لشركة أكوا باور، تمثل مبادرة نيوم للهيدروجين الأخضر في السعودية ومبادرة العين السخنة بقيادة شركة سكاتك في مصر بعضاً من أبرز المشاريع الرائدة في المنطقة التي تتهيأ لتكون مراكز تصدير إلى أوروبا وآسيا. وقد أبرمت هذه المشاريع اتفاقيات بيع طويلة الأجل واستقطبت تمويلات بمليارات الدولارات، ما جعل الشرق الأوسط قاعدة موثوقة لتصدير الطاقة الخضراء.
ثالثاً، يعكس توجه السعودية نحو التوسع في مصادر الطاقة المتجددة، بهدف زيادة القدرة الإنتاجية للطاقة المتجددة بعشرات الغيغا واط ورفع حصة الطاقة المتجددة إلى نحو 50% من إنتاج الكهرباء (بما يعادل نحو 130 غيغا واط إجمالاً) بحلول عام 2030، وفقاً لتقرير مركز سياسات الطاقة العالمية، قدرة الطاقة الشمسية على توفير أداة استراتيجية للتحوط ووسيلة لتنويع الإيرادات المالية. وللحد من الاعتماد المباشر للاقتصاد على النفط، تخصص الموارد الهيدروكربونية لاستخدامات ذات قيمة أعلى، مثل الصناعات البتروكيماوية أو التصدير، بدلاً من حرقها لتوليد الكهرباء محلياً.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في هذا المجال، ثمة تحديات متعددة تلقي بظلالها على مسار تطوير الطاقة الشمسية في الشرق الأوسط؛ إذ يتطلب دمج الإنتاج غير المنتظم للطاقة الشمسية في الشبكات القائمة استثمارات كبيرة في تقنيات تخزين الطاقة والبنية التحتية المرنة. ويظل التمويل عقبة رئيسة، إذ يحتاج الأمر إلى مشاركة أوسع من القطاع الخاص لاستكمال جهود صناديق الثروة السيادية. إضافة إلى ذلك، فإن الانتقال إلى اقتصاد قائم على الطاقة النظيفة يتطلب قوة عاملة ماهرة تمتلك خبرات في الهندسة وعلوم البيانات وإدارة المشاريع. وأخيراً، يتعين التخطيط لمشروعات الطاقة الشمسية العملاقة وتنفيذها مع مراعاة الآثار البيئية بدقة بالغة، ومنها استخدام الأراضي والحفاظ على التنوع البيولوجي.
لكن تحويل الطاقة الشمسية إلى محرك اقتصادي يتطلب حزمة متكاملة من السياسات. ومن المتطلبات الأساسية تحديث شبكات الكهرباء وتوفير حلول لتخزين الطاقة وآليات واضحة لنقل الكهرباء من مزارع الطاقة الشمسية الواقعة في المناطق الصحراوية إلى المراكز الصناعية. ومن الأهمية بمكان أيضاً وضع قواعد للمشتريات تعطي الأولوية للمحتوى المحلي ورسم خطط توجيهية للقطاعات الصناعية تهدف إلى كهربة القطاعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة (مثل الإسمنت وتحلية المياه وصناعة الأسمدة) وخفض انبعاثاتها الكربونية، إلى جانب برامج تدريبية تحول الوظائف المؤقتة في مرحلة الإنشاء إلى مسارات مهنية مستدامة في المجالات التقنية. وحين تتوافق السياسات مع الأنظمة التمويلية، تتدفق الاستثمارات على نطاق واسع، أما في حال وجود تشوهات في نظام الدعم، فإن الاستثمارات تتأخر أو تتوقف.
ما هي الأولويات التي ينبغي أن يركز عليها صانعو السياسات وقادة القطاع؟
- ينبغي أن تتضمن عقود المناقصات نسباً محددة للمحتوى المحلي وبنوداً لنقل المهارات، بحيث يكون كل عقد منطلقاً لتعزيز التصنيع والتدريب لا مجرد توليد الكهرباء.
- إلى جانب صادرات الهيدروجين، على الدول أن تضمن تحويل قطاعاتها الصناعية إلى الاعتماد على الكهرباء وخفض انبعاثاتها الكربونية باستخدام الطاقة المنخفضة التكلفة المتعاقد عليها عبر عقود طويلة الأجل لتزويد القطاعات، مع الاستفادة من تقنيات تحويل الطاقة والحوافز لتشجيع خفض الانبعاثات الكربونية.
- تحتاج المشروعات الكبرى إلى مزيج تمويلي متكامل يشمل تقديم المساعدة التقنية وخطوط ائتمان ميسرة وضمانات التصدير للحد من المخاطر التي تواجه المشاريع الأولى وجذب رأسمال القطاع الخاص على نطاق واسع.
- ستعتمد أسواق الهيدروجين الأخضر والأمونيا على استقرار عقود الشراء وقواعد التبادل التجاري، كما أن التعاون بين دول الخليج في مجالي اعتماد الشهادات والبنية التحتية للشحن والرسوم الجمركية سيسهم في تقليل عوائق التبادل التجاري وتسريع وتيرة الصادرات.
يتميز الشرق الأوسط بسطوع الشمس معظم أيام السنة، ما يمنح دوله ميزة طبيعية، لكن المهمة الاستراتيجية تكمن في تحويل هذا المورد الأولي إلى اقتصاد متنوع قائم على القيمة المضافة. وإذا تحقق هذا الهدف على النحو المنشود، فستتمكن المنطقة من تصدير الطاقة المنخفضة الكربون والجزيئات الخضراء ومكونات الطاقة النظيفة المصنعة، مع خلق فرص عمل في قطاعات متنوعة، بدلاً من الاكتفاء بتصدير النفط الخام والمواد الأولية الأحفورية.
بالنسبة إلى مختلف الأطراف المعنية، من مستثمرين وجامعات ومجموعات صناعية ووزارات، ستحدد السنوات الخمس المقبلة إذا ما كانت الطاقة الشمسية ستصبح العمود الفقري لتحول ثابت الأركان في قطاع الطاقة بمنطقة الشرق الأوسط، بما يدر عائدات تصديرية ويدعم فرص عمل مستدامة لأجيال مقبلة، أم ستظل مجرد مجموعة من المشاريع الضخمة ذات الآثار المحدودة.