التطلع إلى الوراء لاستشراف مستقبل الابتكار الاجتماعي

استشراف المستقبل
Shutterstock.com/banu sevim
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

غالباً ما يضطر المتخصصون في علوم استشراف المستقبل إلى تخيل أمور تبدو مستحيلة اليوم، وهذا ما يدفعنا إلى أن نكون مؤرخين ومفكرين في المستقبل في الوقت ذاته؛ إذ يميل الناس بطبيعة الحال إلى استشراف المستقبل والتفكير فيه على أنه امتداد لليوم، وإلى افتراض أن العديد من أساليب العيش والعمل الراسخة غير قابلة للتغيير؛ أي أنها جزء من الترتيب الطبيعي للأمور. من الصعب اليوم، على سبيل المثال، أن نرى كيف يمكن العيش من دون عمل، ومن الصعب تخيل نظام اقتصادي بديل يتجاوز الرأسمالية أو الشيوعية.

إن الغوص في الماضي يوسع دائرة ما قد نعتبره ممكناً، وعندما نقرأ التاريخ، نكتشف أن العمل بأجر؛ أي فكرة أن عملنا يُعدّ بمثابة سلعة يمكن بيعها للآخرين، هو مفهوم حديث نسبياً (منذ حوالي 300 عام)، كما نتعلم أنه على مدى التاريخ الإنساني، طوّر الوجود البشري والمجتمعات العديد من نظم المنح وإجراء الصفقات والتجارة المختلفة التي لم يطلها الانقسام التقليدي بين الشيوعية والرأسمالية.

في ضوء انتشار الأخبار الكاذبة اليوم والنقاشات حول مجتمع ما وراء الحقيقة، كنت أعيد قراءة تاريخ آلة الطباعة؛ التي ابتكرها يوهان غوتنبرغ والعائدة إلى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وقد يكون الاستكشاف الأكثر شمولاً لهذا الموضوع مذكور في كتاب إليزابيث آيزنشتاين المكوّن من مجلدين، «آلة الطباعة: كأداة تغيير» (The Printing Press as an Agent of Change)، تشير آيزنشتاين في كتاباتها إلى «الثورة غير المعترف بها»؛ التي أعقبت اختراع غوتنبرغ وشملت ليس فقط الإصلاح البروتستانتي، ولكن أيضاً عصر النهضة والثورة العلمية؛ حيث أتاحت وسائل الإعلام المطبوعة لعامة الناس الوصول إلى أفكار ومعلومات لم تكن متاحة لهم من قبل، وأدى هذا بدوره إلى نمو المعرفة العامة، ومكّن الأفراد من صياغة أفكارهم ومشاركتها، بصورة مستقلة عن الكنيسة، وبالتالي، ظهرت هيئات جديدة بعيدة عن الكنيسة؛ إلى جانب نمو القدرة على التأثير، وازدهار الفنون والعلوم.

يمكنني القول أننا نعيش زمن غوتنبرغ الخاص بنا؛ زمن حدوث تحول في أدواتنا الأساسية لخلق المعلومات والأفكار والمعرفة والتعبير عنها ومشاركتها، ومثل اختراع آلة الطباعة؛ من المرجح أن يؤدي ظهور أدوات التواصل الرقمي إلى ثورات متعددة تتمثل في كيفية إدارتنا وفهمنا وتنظيمنا لاقتصادنا. كتب جيمس ديوار في ورقة بحثية أصدرتها مؤسسة «راند» (RAND) عام 1998 بعنوان «عصر المعلومات وآلة الطباعة: التطلع إلى الوراء لاستشراف المستقبل» (The Information Age and the Printing Press: Looking Backward to See Ahead): «ستكون التغييرات في عصر المعلومات دراماتيكية مثل تلك التي حدثت في العصور الوسطى في أوروبا»، وعلى مستوى أبعد، يمكننا ملاحظة كيف أن التغييرات في أدوات وتقنيات التواصل الأساسية لدينا تحوّل ديناميات السلطة الحالية، وتعيد تحديد الجهة التي تمتلك قوة التأثير، والقدرة على تشكيل الأخبار السائدة والتأثير في طريقة تفكيرنا وأفعالنا. مع الإقرار بأننا قد نشهد تغييرات اجتماعية دراماتيكية، يلفت ديوار الأنظار إلى أن مثل هذه التغييرات ستنجم عن حدوث آثار غير متعمدة للتقدم التكنولوجي؛ كما كان الحال في الماضي، بدلاً من التصميم التكنولوجي المتعمد، ويكتب: «كان الإصلاح البروتستانتي والتحول من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس بمثابة نتائج غير متعمدة في عصر آلة الطباعة»، ومن المرجح أن تعيد هذه النتائج تشكيل المقومات الأساسية لمجتمعنا وثقافتنا.

في الوقت الذي نحاول فيه ضبط التغييرات السريعة؛ التي بدت وكأنها بلغت ذروتها خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، تظهر أمامنا دروس مستفادة من التاريخ تبدو أيضاً أنها ذات صلة، أولاً، ربما ينبغي تجاهل التصريحات الطوباوية للعديد من مبتكري التكنولوجيا؛ إذ نتيجة حماسهم كمبتكرين أو مسوقين، فإنهم يميلون إلى بيعنا وعود متعلقة بأمجاد المستقبل؛ مثل الديمقراطية، والحريات الشخصية، والمزيد من الوصول، والمزيد من الشفافية، وأذكر هنا جو تريبي؛ مدير حملة هوارد دين البارع في التكنولوجيا، حين قال: «الإنترنت هو أكثر ابتكار ديمقراطي رأيناه على الإطلاق، وربما يتفوق في هذا على آلة الطباعة»، يُعدّ المتعصبون للتكنولوجيا على حق جزئياً فقط؛ إذ صحيح أننا نحصل على كل تلك الأمور العظيمة، ولكن مقابل كل مدينة فاضلة، هناك أيضاً مدينة فاسدة، كما رأى ديفيد سارنوف، أحد رواد الإذاعة والتلفزيون ومؤسس «راديو كوربوريشن أوف أميركا» (Radio Corporation of America)، أن تقنيات البث الجديدة هي بمثابة طرق لتنوير الجمهور؛ مثل إمكانية إيصال الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والمسرح والفنون إلى منازل الناس، ومع وجود مئات القنوات الإذاعية اليوم، يمكنك على الأرجح الاستماع إلى الأوبرا ومسرحيات رائعة والكثير من البرامج التعليمية الأخرى، ولكن إلى جانب التعليم، فإن تلك التقنيات تخدم أيضاً برامج مثل «برنامج جيري سبرينغر» (Jerry Springer Show)، ومسلسل تلفزيون الواقع «ريل هاوسوايفز أوف نيو جيرسي » (Real Housewives of New Jersey). بينما نفتح قنوات جديدة، يمكننا أن نتوقع المزيد من كل شيء؛ المزيد من الأوبرا مقابل المزيد من برامج الواقع، والمزيد من الحقائق مقابل الأكاذيب، والمزيد من الصحافة الموضوعية مقابل أخبار موقع «برايتبارت» (Breitbart)، وتتمثل النتائج غير المتعمدة لإضفاء الطابع الديمقراطي على القنوات الإعلامية في صعوبة العثور على الأمور الجيدة أو الالتفات إليها، لأنها تغرق في بحر من الأمور التي لا قيمة لها، ومع تدفق المزيد منها، بدأنا نرى أثراً آخر غير متعمد؛ وهو تقويض المصادر الثابتة للخبرة والآراء القيمة.

إذاً، مَن هي الجهة التي ستحدد ما هو الفن وما هي الأمور التي لا قيمة لها؟ أو ما هو صحيح وما هو غير صحيح؟ يقودنا هذا إلى درس ثالث ثابت نستخلصه من التاريخ، وهو مع تلاشي مصادر المرجعية والخبرة الراسخة، فإننا نلجأ إلى علاقاتنا الاجتماعية كأطراف مرشدة لنا ويمكن الوثوق بها، ولمساعدتنا على اكتشاف ما هو حقيقي وما هو غير ذلك. في العصور الوسطى، كان أولئك المرشدون أشخاصاً موجودين في المدن أو الجمعيات ذاتها التي ننتمي إليها؛ والذين يشاركون المنشورات المطبوعة حديثاً مع أصدقائهم وجيرانهم، أما اليوم، فإن تلك الأطراف المرشدة أصبحت متمثلة في أصدقائنا على «فيسبوك» أو الأشخاص الذين نتابعهم على «تويتر»، لا ينبغي أن يفاجئنا إذاً أننا خاضعون لخوارزميات تُظهر لنا ما تتوقع أننا نريده فقط؛ وهو ما يسمى بـ«فقاعات التصفية»، وبالتالي، فإن  الاعتماد على الشبكات الاجتماعية كعوامل تصفية تجعله أمراً لا مفر منه.

في ظل تحديات الإعلام الجديد، ما الذي نركز عليه؟ وما هي المهمة الأكثر إلحاحاً؟ أعتقد أن الأمر يتعلق بخلق آليات لاكتشاف الآثار غير المتعمدة وتطوير طرق للتخفيف منها. بعبارة أخرى، نحتاج إلى تصميم آليات جيدة لتبادل الإشارات والنتائج؛ مثل التي تستخدمها النظم البيولوجية للحفاظ على البيئة الطبيعية سليمة. كيف نجعل تكاليف خلق أفكار وسائل الإعلام الضارة ونشرها عالية، وتكاليف الوصول للمعلومات المفيدة ونشرها منخفضة؟ مَن الجهة الجديدة والموثوق بها التي قد تكون وصية على الجودة، وكيف يمكننا تمكينها من نقل معرفتها والعمل لتصفية النظام الأكبر؟ كيف نبني مناعة ضد الميمات المنتشرة والمطورة في نظامنا الإعلامي؛ لما لها من دور في تضليل الجمهور؟ وما الأدوات التي يمكن خلقها للتخلص من بعض فقاعات التصفية، وتعزيز الشعور بواقع مشترك بدلاً من واقع مقسّم؟

 

قد يستغرق الأمر عقوداً حتى نتمكن من مواجهة جميع هذه التحديات والمزيد منها، إذ أننا لم نقفز من النشرات المطبوعة إلى الصحف الموثوقة ثم إلى الأخبار التي نسمعها من إدوارد مورو (الصحفي الأميركي المعروف أنه من أعظم رموز الصحافة) خلال جيل واحد، ولم تكن الثورات التي أطلقتها آلة الطباعة هادئة وغير مسببة للأضرار، كما أدت قدرة الناس والجماعات على نشر الأخبار والآراء إلى زرع الانقسامات بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين المذاهب العلمية والدينية، وبين المجموعات داخل المجتمع التي أصبح بإمكانها استخدام قوة الكلمة المطبوعة للتأثير على مشاعر العامة، وقد أدت تلك الانقسامات إلى حرب الثلاثين عاماً في أوروبا الوسطى بين عامَي 1618 و1648؛ وهي واحدة من أكثر الحروب الدينية دمويةً؛ والتي دارت بين الدول البروتستانتية والكاثوليكية، ودمرت ألمانيا، وقتلت ما بين 25% و40% من إجمالي سكانها، إذاً، دعونا لا نخدع أنفسنا أن مواجهة التحديات سيكون أمراً سهلاً.

من جهة أخرى، لا ينبغي أن يكون التاريخ قدراً، ولا يتعين علينا تكراره، في زمن غوتنبرغ الخاص بنا؛ وهو زمن لا بد أن يحدد فيه التاريخ اسماً خاصاً به بعد مرور قرون، دعونا نستفيد من كل شيء تعلمناه منذ الحروب الأوروبية الدموية حتى لا نكرر أخطاء الماضي، وأهم خطأ يجب تجنبه هو التفكير في أنه يمكننا الحفاظ على المؤسسات وأساليب عملنا التي أنشأناها منذ زمن ظهور آلة الطباعة، ونحتاج بدلاً من ذلك إلى تصور ووضع نماذج أولية لترتيبات مؤسسية جديدة، وطرق جديدة لإدارة مجتمع ديمقراطي بالنظر إلى القدرات والتحديات التكنولوجية الحالية.

تُبذل جهود مبتكرة في هذا الاتجاه بالفعل، على سبيل المثال، يمكن للصحفيين المتصلين بشبكات عالمية؛ والذين يستخدمون نظم تخزين البيانات المفتوحة والخبرة المحلية والخوارزميات، الكشف عن عمليات كبيرة للجريمة والفساد، بحيث لا يمكن لأي حكومة ذات سيادة فعل الأمر نفسه؛ كما حصل فيما يتعلق بوثائق بنما، كما يتتبع هواة العلم المحترفون؛ بمساعدة شبكات أجهزة الاستشعار، الانتهاكات التي تحدث في أنشطة الصيد، ويمكن للموظفين الذين تم تمكينهم بواسطة تقنيات الهاتف المحمول الإبلاغ عن انتهاكات العمل ضمن سلاسل التوريد؛ مما يوفر مستوى جديداً من الشفافية لظروف العمل على مستوى العالم. تشير هذه الجهود والعديد غيرها إلى أنه يمكننا التكيف مع زمن غوتنبرغ الخاص بنا، وعلينا رعايتها على الرغم من أنها قد تبدو صغيرة وهامشية، لكن المستقبل غالباً ما يبدأ على الهامش، وكلما أدركنا ذلك سريعاً، كنا قادرين على التكيف بصورة أفضل مع الواقع الجديد.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.