نستعرض في هذه المقالة دور البساطة في استراتيجية التواصل الناجحة.
عينت هيئة الدفاع عن الموارد الطبيعية (NRDC) عام 2006 عالمة شابة وذكية أرادت التوصل إلى طريقة ناجحة لحث المزارعين الأمريكيين على استخدام كميات أقل من المياه والغاز والأسمدة والمبيدات الحشرية أثناء الزراعة. تدعى تلك العالمة «دانا غوندرز»، وبعد دراستها للمشكلة لعدة سنوات، أصدرت تقريراً يتكون من 69 صفحة بعنوان: «تحسين كفاءة النظام الغذائي الأمريكي : خلاصة المشكلة وخطوات معالجتها».
يكون ذلك عادة نهاية الأمر، لكن ليس بالنسبة لهيئة الدفاع عن الموارد الطبيعية، ومن الجدير بالذكر أنه تم تأسيس هذه الهيئة (أو المنظمة) منذ أكثر من 46 عاماً، وهي مؤلفة عموماً من خبراء في السياسة؛ مدعومين بالعلم والقانون. ساهمت منظمتنا في إصدار قانون الهواء النظيف، وقانون المياه النظيفة، وبتقديم بعض الأفكار التحليلية لخطة الرئيس السابق باراك أوباما المعنية بخفض التلوث الكربوني الناتج عن محطات الطاقة. لكن إذا نظرنا إلى الجانب الأكبر من تاريخ عملنا، فقد كان التواصل مع الجمهور ووضعه في صورة ما يجري مجرد فكرة ثانوية. لقد تعمقنا في عملنا وكنا شغوفين فيه، إلا أننا أكثرنا الشك في أي شيء قد يبدو وكأنه «يُضعف » نهجنا.
استراتيجية التواصل ودورها في ذلك
من ناحية أخرى، تزامن تقرير غوندرز مع إحداثنا لتغيير جذري في أسلوب تواصلنا. إذ أصبحت إدارة استراتيجية التواصل لدينا؛ تحت مُسماها الأساسي «النشرة الصحفية عند الطلب»، شريكاً في عمليات التخطيط في المنظمة؛ حيث تعمل على إيجاد وسائل جديدة وغير مُتوقعة من أجل لفت انتباه الجمهور لعمل هيئة الدفاع عن الموارد الطبيعية والقضايا التي تطرحها.
لاحظنا بعض الإحصاءات المُربكة عند انتهائنا من قراءة التقرير: 40% من المحاصيل الزراعية في الولايات المتحدة تُهدر خلال مرورها من المزرعة إلى المائدة؛ و ذلك بكلفة 165 مليار دولار أو 2,200 دولار سنوياً لكل عائلة في أمريكا. وإذا عملنا على الحد من هذه الخسائر بنسبة 30% فقط، يمكننا حينها إطعام 50 مليون أمريكي في البلاد؛ التي تعيش فيها 48 مليون أسرة تعاني من انعدام الأمن الغذائي.
عندما أنهى فريق استراتيجية التواصل عمله على التقرير، كانت تلك الأرقام مذكورة في مقدمته وفي منتصفه، وكان له عنوانٌ جديدٌ: «هدر الطعام: كيف تهدر أمريكا ما يصل إلى 40% من محاصيلها الزراعية خلال مرورها من المزرعة إلى الموائد؟».
اقرأ أيضاً: هدر الطعام: حلول مبتكرة لهذه المشكلة من جوانبها المختلفة.
عملنا على وضع كامل النتائج المثيرة للاهتمام في مقدمة التقرير، وأعدنا هيكلة المحتوى بحيث يضمن تكثيف البيانات بسرد واضح وجذاب؛ ابتداءً من المزرعة وانتهاءً بالمائدة، أي أن التقرير تتبع الطعام المهدور من المزرعة، مروراً بالإنتاج والبيع، وصولاً إلى مطابخنا. وبالنظر إلى ما تعلمناه من علم الأعصاب؛ بأن العناصر المرئية مهمة، عملنا على إعداد مجموعة تكميلية من الرسوم البيانية لتوضيح مقدار الطعام المهدور في كل مرحلة من مراحل السلسلة الغذائية، وحصلنا على صور للفاكهة التي يتجاهلها الناس عادةً لأن شكلها غير مثالي.
بدء العمل على استراتيجية التواصل
أردنا طرح بياناتنا وأفكارنا أمام صناع القرار الرئيسيين وأصحاب المصلحة. كما أردنا استخدام النتائج المذهلة للوصول إلى الفئات التي لم تسمع من قبل عن هيئة الدفاع عن الموارد الطبيعية، أو لم تربط الطعام على الموائد بالقضايا البيئية. هذا يعني أننا كنا بحاجة إلى خلق أساليب مختلفة لتواصلنا مع الجمهور، لذلك استخدمنا التقرير لتنبيه الخبراء إلى مشكلة هدر الطعام خلال مروره بدورة الإنتاج، بينما ركز ترويجنا الصحفي الرئيسي؛ الذي استهدف مدونات عشاق الطعام، ومنظمة «مراسلي المستهلكين»، والمواقع الإلكترونية المختصة بمواضيع المنزل ونمط الحياة، على الطعام المهدور في المطابخ، وكلفة ذلك الاستهلاك، وتقديم نصائح حول كيفية جعل الطعام يدوم لفترة أطول. كان المراسلون البيئيون أيضاً على القائمة، لكن الاستراتيجية التي اتبعناها دفعتنا إلى تجاوزهم.
كان لدينا العديد من الأهداف المترابطة. أولاً، أردنا الاستفادة من هذه الفرصة للترويج لاسم منظمتنا، إذ لم يتحدث أي شخص آخر عن هذا الموضوع، لذلك فقد أُتيحت لنا الفرصة لطرح مشكلة جديدة وتسليط الضوء على منظمتنا بشكلٍ أساسي. ثانياً، أردنا تعميم برنامج عملنا، فمصطلح "حماية البيئة" قديم ومبهم حقاً عندما يتعلق الأمر بالطعام الذي نتناوله، والهواء الذي نتنفسه، والمياه التي نشربها. لقد أتيحت لنا الفرصة لإعادة تشكيل المصطلحات والتخلص من الأحكام المسبقة، ومد الجسور بين عمل هيئة الدفاع عن الموارد الطبيعية وحياة الناس اليومية. ثالثاً، أردنا تمكين الناس، إذ غالباً ما يشعرون بالعجز أمام مواجهة المخاطر التي تواجه البيئة. لكن هنا، فقد طرحنا مشكلة يمكنهم فعل شيء حيالها. أخيراً، من شأن عملنا الهادف إلى رفع الوعي العام أن يزود المدافعين عن سياستنا بالقوة اللازمة لإحداث تغيير كبير فيها.
نجاح استراتيجة التواصل
لمس التقرير المُعاد هيكلته وتراً حساساً؛ حيث استقطب أكثر من 200 قصة مميزة، و مقالات افتتاحية، وتدوينات حول مشكلة هدر الطعام في أمريكا. استمرت التغطية الإعلامية لأسابيع بعد إصدارنا للتقرير، وتضمنت مقالات خاصة في وكالات أنباء وصحف وشبكات عديدة، مثل «أسوشيتد برس» و«سي إن إن» و«نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» و«لوس أنجلوس تايمز» و«فوربس» و«سي إن بي سي» و«بي بي سي» و«إن بي آر». كما نشرت منافذ إعلامية من الدرجة الأولى، مثل «ذي أتلانتك» و«واشنطن بوست»، قصصاً متعددة. عملنا على تأمين تغطية مستهدفة مع العشرات من وسائل الإعلام الزراعية والتجارية والبيئية الرائدة، بالإضافة إلى المجلة غير الربحية «غريست دوت أورغ» (Grist.org)؛ التي غالباً ما تُعتبر مصدراً مرجعياً لدُعاة حماية البيئة، والتي نشرت سلسلة من المدونات بقلم غوندرز. كما دفعنا تواصلنا الإعلامي وحماسنا إلى نشر رسوم كاريكاتيرية تحريرية وفكاهات لاقت رواجاً في البرنامج الحواري «ذا تونايت شو» (The Tonight Show).
في النهاية، كان تقرير سياسة هدر الطعام هذا أنجح تقرير نشرته هيئة الدفاع عن الموارد الطبيعية حينها، ولا يزال يثير استفسارات وسائل الإعلام الجديدة أسبوعياً. والأهم من ذلك أنه ساعد على إشعال شرارة التغيير. حددت كل من إدارة أوباما والأمم المتحدة لأول مرة أهدافاً للحد من هدر الطعام في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2015. وقدم الكونغرس تشريعاً تاريخياً لتوسيع نطاق التبرع بالطعام الذي قد يتم رميه بخلاف ذلك.
لعبت الشركات أيضاً دوراً هاماً، فعلى سبيل المثال، أطلقت شركة تدعى «إمبرفكت بروديوس» (Imperfect Produce) خدمة توصيل صناديق المنتجات غير المكتملة من ناحية الشكل، وأعلنت شركة «جنرال إلكتريك» عن إصدار ثلاجة مفتوحة المصدر قد تسمح ببعض الابتكارات الحقيقية في تصميم الثلاجات. كما انضمت المطاعم أيضاً إلى المشهد، حيث تلقت منظمة «فيدينغ أميركا» (Feeding America) غير الربحية دعماً من شركة «جوجل» لإنشاء سوق عبر الإنترنت يمكن المزيد من المطاعم ومحلات البقالة من التبرع بالطعام الفائض. كما افتتح الطاهي المعروف دان باربر مؤخراً مطعماً مؤقتاً أسماه «ويستد» (WastED) يستخدم الأطعمة المهملة أو غير الجذابة من ناحية الشكل.
تعلمنا خلال مسيرتنا بعض الأمور حول تحويل مشروع متخلخل إلى نجاح في استراتيجية التواصل، وإليك أهمها :
- تبني البساطة: إن المصطلحات التخصصية لا تجعل عملك يبدو أكثر حنكة، بل تجعل من الصعب على أي شخص آخر فهمه. بحثنا خلال عملنا عن الرسائل والإحصاءات الأساسية، وأعطينا الأولوية لتقديم أفكار قصة مقنعة للناشرين المحتملين.
- فهم المحتوى الذي تقدمه: كلما فهم موظفو إدارة استراتيجية التواصل المشروع بصورة معمقة أكثر، أصبحوا أفضل في إنتاج قصص مقنعة من زوايا مختلفة. وقد انطوى نهج برنامجنا على التشارك مع الفرق المتعددة لدينا في وقت مبكر وبصورة متكررة.
- التركيز على الحلول: إن طرح مشكلة معينة يصنع قصة ليوم واحد، ولكن إذا كان بإمكانك أيضاً التحدُث عن الحلول، فإنك ستكسب قوة البقاء. بالنسبة إلى قضيتنا المطروحة، فقد قدمنا مجموعة من التوصيات القابلة للتنفيذ للحد من هدر الطعام؛ والتي جرى إعدادها لتناسب جماهير مختلفة، بما في ذلك المزارع والمطاعم ومحلات البقالة والمستهلكين.
- نشر القصة في الوقت المناسب: تستفيد كل قصة من خبر مرتبط بها. بالنسبة إلى تقريرنا، فقد ربطنا أفكار قصتنا المطروحة فيه بالجفاف المهلك في البلاد والمخاوف المتزايدة بشأن ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
- مشاركة ما هو غير متوقع: الطريقة الوحيدة لمنع المراسلين من إهمال فكرة قصتك هي كتابة عنوان جذاب، وقد استفدنا من الحقائق الأكثر إقناعاً من خلال إدخال عبارة «هل تعلم؟» في العناوين التي جذبت الانتباه.
- استخدام اللغة المرئية: يساعد استخدام اللغة المرئية والمعبرة والفردية على رؤية مدى جدية المشكلات القائمة وكيف يمكن إحداث التغيير. على سبيل المثال، يهدر المواطن الأمريكي العادي الكثير من الطعام لدرجة تشبيه ذلك بشرائه أربعة أكياس من المتجر وتركه لواحد هناك.
- تعزيز مصداقيتك لدى الجمهور: عملنا على دمج العديد من الأمثلة الواقعية وقصص النجاح في التقرير، وفي مدوناتنا، وبياناتنا الصحفية، ذلك لإضفاء طابع من المرجعية والمصداقية لأفكارنا. وحقيقة أن الشركات والطُهاة تبنوا حلول هدر الطعام التي اقترحناها طواعيةً تثبت أن تلك القصص ساعدت على تنمية عامل الثقة.
- التكرار: ربما تظن أن تكرار الفكرة ذاتها سوف يضجر الجمهور، لكن التكرار يجعل رسالتك ثابتة. بالنسبة إلينا، كانت أرقام الإحصاءات هي الرسالة الأقوى.
- بناء علاقات طيبة مع المنافذ الإعلامية: حدد جهات الاتصال الصحفية المناسبة في المحطات والوكالات الوطنية واسعة الانتشار. وقدم للمراسلين المعلومات المحجوبة قبل تاريخ النشر الفعلي لضمان نشر القصص في الوسائل الإعلامية المرموقة. ستسفر التغطية الإعلامية لتلك المنافذ عن توسيع النطاق نحو منافذ أخرى، بالإضافة إلى إنتاج قصص محلية.
- الحفاظ على الفاعلية: إن تقديم الخبير لديك (في حالتنا، كانت العالمة دانا غوندرز) كقائد فكري وحثه على التدوين، سوف يسمح لك بطرح القصة من زاوية جديدة حول موضوع ساخن بالفعل.
تجاوزت إنجازاتنا؛ التي تضمنت الإجراءات والتغييرات الهامة في جميع القطاعات وعلى جميع المستويات، توقعاتنا إلى حدٍ كبير، ومع ذلك فلم نكن قد انتهينا بعد. فقد دخلنا في شراكات مع المدن لمعرفة كيفية توفير الطعام على النطاق المحلي، وعملنا مع غوندرز لنشر كُتيِب يتحدث عن كيفية الحد من إهدار الطعام في مطابخنا. أطلقنا حملة «سيف ذا فود» (Save the Food) في شهر أبريل/نيسان عام 2016؛ وهي أول حملة إعلانية واسعة النطاق تطلقها منظمتنا بالاشتراك مع شركة «إيد كونسيل» (Ad Council) الإعلانية. هدفت الحملة؛ التي تضمنت بث محتوى الفيديو الخاص بنا؛ والذي حمل عنوان «الحياة الاستثنائية وموسم الفراولة» (The Extraordinary Life and Times of Strawberry)، إلى إحداث تغيير عميق في سلوك المستهلك والدفع نحو إجراء المزيد من التغيير في السياسة على جميع المستويات. أما عن النتائج، فقد كان من المبكر جداً معرفة ذلك، لكننا كنا على يقين من أننا جميعاً سوف نتوقف عن هدر الطعام قدر الإمكان.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أن المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.