استراتيجيات إنهاء الخدمات من المؤسسات غير الحكومية

إنهاء الخدمة
shutterstock.com/Castleski
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

متى يكون الوقت مناسباً لإنهاء عمل المؤسسة غير الحكومية؟ هذا السؤال خادع؛ فالوقت مناسب دائماً. لكني بالتأكيد لا أقصد أن تغلق المؤسسات غير الحكومية كلها أبوابها على الفور، وإنما أشير إلى ضرورة أن تخطط كل مؤسسة تنموية غير حكومية ممولة من الخارج لليوم الذي ستوقف عملها فيه وتستعدّ له يومياً.

شاركت قبل 10 أعوام في تأسيس مؤسسة غير حكومية في كمبوديا تدعى ووتر شيد (WaterSHED)، كانت نسبة الأسر التي تستخدم المراحيض في المناطق الريفية الكمبودية آنذاك لا تتجاوز 20%، حتى بعد أن أنفق عدد لا يحصى من المؤسسات غير الحكومية والوكالات الثنائية الأطراف ووكالات الأمم المتحدة والمؤسسات متعددة الأطراف مبالغ خيالية لتوفير مراحيض مجانية في الأرياف وإقامة حملات توعية حول استخدامها، وعلى الرغم من آثارها الصحية الهائلة لم نلحظ تحسناً يذكر. استهدفت مؤسسة ووتر شيد مجموعة من أبرز مواضع العجز في السوق التي حالت دون توفير الخدمات التي تحتاج إليها الأسر، ولكننا حاولنا منذ البداية حلّ المشكلات الأساسية على نحو يتيح لمؤسستنا إنهاء خدمتها في نهاية المطاف (وحين لم نتمكن من إحراز تقدم عرفنا أن علينا إنهاء عملنا على أي حال وعدم إضاعة وقتنا ومالنا).

حالياً، أصبحت المراحيض ميسورة التكلفة ومتوفرة في جميع أنحاء الدولة، وهذا هو ثاني أسرع تحسن في مجال المرافق الصحية على مستوى العالم، ويرجع الفضل في ذلك إلى اتباع الأساليب المبنية على السوق بدرجة كبيرة. والآن يستخدم 80% تقريباً من سكان الأرياف الكمبودية المراحيض، وتقود الحكومة المحلية جهود توسيع نطاق هذه الخدمات.

ولذا توقفت مؤسسة ووتر شيد عن العمل بصورة نهائية في شهر يونيو/حزيران من عام 2021 بعد أن حققت هدفها المنشود.

التخطيط لإنهاء خدمة المؤسسة مفيد بحد ذاته

تخيل أنك ترغب في تأسيس مؤسسة غير حكومية لمعالجة مشكلة معينة مثل عدم توفّر المياه النظيفة؛ عندما تعلم أنك لن تستطيع الاستمرار في توصيل المياه النظيفة إلى الناس إلى الأبد فستبحث عن حلّ يدوم أكثر يتمثل في حفر بئر وتركيب مضخة يدوية، لكنك سترى بعد بضع سنوات أن المضخات اليدوية الفولاذية لا تدوم، ولذا سوف تضطر إلى معالجة مشكلات النظام التي تعوّق تقديم الخدمة المستدامة.

إذا واصلت توفير المياه النظيفة أو المضخات اليدوية الجديدة من دون معالجة مشكلات النظام الأساسية فلا شك أنك ستخوض حربا أبدية مع عدم توفر المياه النظيفة.

وقد تدرك من الناحية النظرية أن عليك الاستعداد لإيقاف عمل مؤسستك في هذا المجال فتتعهد بإيقافه فور انعدام الحاجة إليه، ولكن في الوقت نفسه يزداد عدد من يعتمدون عليك للحصول على الماء النظيف ويتوقف التمويل العام لمؤسستك ويعاد تخصيصه لمؤسسة أخرى، ويحسب ممولوك “عدد الأشخاص الذين يوفر لهم برنامجك المياه” ويعرض مدير جمع التبرعات لديك صوراً لهؤلاء الأشخاص واعداً بتنمية الأثر عمل مؤسستك المستقبلي.

لكن بعيداً عن هذه الالتزامات المتزايدة إلى ما لا نهاية، لو حددت موعداً إلزامياً لإنهاء عمل مؤسستك لاختلفت الأمور تماماً؛ كنت ستبدأ بمعالجة القضايا الأهم بالنسبة للاستدامة منذ البداية (مثل وضع المسؤولية بيد جهات محلية وتخصيص الميزانية الحكومية وتسليم القيادة للمسؤولين المحليين) على الرغم من التنازلات التي ستقدمها فيما يتعلق بتحقيق تقدم واضح ونتائج ملموسة.

لهذا السبب، يجب على العاملين في قطاع التنمية التفكير في طريقة إنهاء عمل مؤسساتهم غير الحكومية مثلما يفكرون في طريقة إنشائها وإدارتها وتنميتها، وإلا فستبقى أعمال المؤسسات غير الحكومية وبرامجها محصورة في تخفيف الأعراض السطحية بدلاً من تعزيز الأنظمة الأساسية.

وسيلة اختبار للاستراتيجية والنهج

أرغمنا التخطيط لإنهاء خدمة مؤسستنا على معالجة المشكلات الأساسية، وكان بمثابة دليل توجيهي لنا في صناعة القرارات اليومية المتعلقة بتنفيذ البرنامج، إذ فرض علينا تنفيذ النهج المحدد كي لا ننجرف إلى تقديم الخدمات المباشرة التي تشكّل طريقة بسيطة لتحفيزنا على تحقيق النتائج القصيرة المدى.

شكّل الموعد الذي ألزمنا أنفسنا به لإنهاء خدمة مؤسسة ووتر شيد ركيزة وقوة دافعة لعملية المراجعة الاستراتيجية الدقيقة التي كنا نجريها كل ثلاثة أعوام؛ حددنا هدفنا النهائي بإطار زمني محدد بعشرة أعوام، وبناء عليه قسمنا عمر المؤسسة إلى مراحل وحددنا مقاييس العمل وأساليبه التي كان تفسيرها أسهل ضمن إطار خطة إنهاء خدمة المؤسسة. كان هذا الهدف دليلاً مرشداً يؤكد لنا أننا نسير في الاتجاه الصحيح، وخلافاً لأهداف المؤسسات غير الحكومية المعتادة التي لا تقدم دعماً عملياً وتوجيهياً يذكَر، مثل “مساعدة الناس على العيش بكرامة” و”ضمان أن يطلق الأطفال العنان لكامل إمكاناتهم” و”تنمية أثرنا”، تمثل هدف مؤسستنا ووتر شيد في ضمان استدامة الخدمات التي تدعم توفير المرافق الصحية الآمنة للجميع بحلول موعد توقفها عن العمل.

كما كانت خطة إنهاء خدمة المؤسسة أشبه بحاجز يمنعنا من توفير خدمات مباشرة. اعتاد زملائي المزاح قائلين إن علينا تقديم الخدمات أو المنتجات المباشرة للمستفيدين وقياسها بناء على القيمة مقابل المال: “سيكون ذلك أبسط بكثير!” لكن فريقنا علم أن علينا العمل بناء على سؤال محدد: كيف سيُنفَّذ العمل الذي نحمل مسؤوليته ومن سينفذه بعد زوال مؤسسة ووتر شيد؟

أهمية مشاركة خطة إنهاء خدمة المؤسسة

توفر استراتيجية إنهاء خدمة المؤسسة التي توضع لها خطة تتسم بالشفافية فرصة لتوضيح النية الحقيقية من العمل، وقد جنينا فوائد هائلة من توضيح هدف إنهاء خدمة مؤسستنا لشركائنا.

لم يأخذ الكثيرون إعلاننا الأول عن نيتنا إنهاء خدمة مؤسستنا ووتر شيد بعد فترة محددة على محمل الجد، فمن النادر أن تخطط مؤسسة غير حكومية لإنهاء خدمتها طواعية، كما يعلم الجميع أن المؤسسات غير الحكومية تستمر بالعمل إلى أن ينقطع التمويل عنها. حتى أن بعض موظفينا لم يصدقوا ذلك! ظن معظم أصحاب المصالح والمراقبين في البداية أن خطتنا لإنهاء عمل المؤسسة مجازية، أو أنها هدف نبيل بعيد سيبقى معلقاً بلا أجل مسمى.

تكمن المشكلة في أن أصحاب المصالح يتوقعون أن يدوم التزام المؤسسات غير الحكومية إلى ما لا نهاية، إذ يندر أن تضع أي منها إنهاء خدمتها هدفاً لها. ومن دون تحديد موعد نهائي أو مقياس يدل على أن موعد التوقف عن العمل قد حان، ستبقى المؤسسة غير الحكومية محتجزة ضمنياً في دور دائم يعتمد على الموارد الخارجية، وهذا يسهم في تعزيز عقلية التبعية بين الشركاء المحليين التي تعاني عدة مشكلات ومنها أن التمويل الخارجي غير مستدام على الإطلاق، وهذه حقيقة حتمية.

وما إن أدرك شركاؤنا أننا سننهي خدمة المؤسسة فعلاً في الموعد المحدد، تغيرت نظرتهم إلى أدوار كل منا بصورة واضحة، لأن ذلك أجبرهم (وأجبرنا) على التفكير في طريقة لتنفيذ العمل على المدى الطويل بعد زوال المؤسسة. ولّد هذا التحول البسيط عقلية جديدة بالغة القوة أرى أنها ضرورية للتنمية الناجحة، وهي التركيز على الاستدامة، من دون هذه العقلية سنرجئ النظر في الاعتبارات الصعبة إلى الأبد (من سيدفع المال ومن سينفذ العمل ومن سيحمل مسؤوليته على المدى الطويل) على الرغم من كلامنا المعسول عن التزام الاستدامة.

تصورات أصحاب المصالح

واجهنا ردود فعل كثيرة على مر السنين، لكن رد فعل الشركاء يقرر نجاح خطة إنهاء خدمة المؤسسة أو فشلها، ويحدد بالتالي استدامة الأثر على المدى الطويل أو عدمها.

قدمت مؤسسة ووتر شيد للشركاء من القطاع الخاص بيانات السوق والتدريب والتوجيه الفني والدعم العام لتنمية الأعمال كي تتيح للشركات المحلية الدخول في قطاع المرافق الصحية، ولذلك نظرت شركات كثيرة إلى إنهاء خدمة مؤسسة ووتر شيد على أنه مجازفة لأنه يعني توقف الدعم الذي توفره. لكن إحدى المبادرات التي ساعدت في إدارة تلك المخاطر المتصوَّرة والاستفادة منها كانت خطة ’خروج تدريجي‘ شاركنا فيها علناً خطة إنهاء خدمة مؤسستنا مع مقاييس قابلية استمرارها بالعمل لمساعدة الشركات الشريكة على مراقبة مستويات إنجازها الذي يعدّها للخروج. أقامت المؤسسات الحكومية النظيرة احتفالات مبهجة بإنجازات مؤسسات المرافق الصحية الريفية الناجحة معلنة خروجها من دعم المؤسسات غير الحكومية.

من جهة الحكومة: من الصعب تلخيص رد فعل الحكومة الكمبودية، لكنها على اختلاف مستوياتها -المحلي والبلدي والوطني- أبدت مخاوف من أن إنهاء خدمة مؤسستنا سيرافقه انخفاض الموارد المتدفقة إلى كمبوديا. ومن أجل معالجة هذه المخاوف بصورة استباقية، سعينا إلى تشكيل تحالفات على مستويات الحكومة كافة مع أشخاص لا يفكرون في الجهد من منظور يركز على الموارد، فبدأ البعض بالنظر إلى إنهاء خدمة مؤسسة ووتر شيد على أنه مرتبط باستقلال كمبوديا وكبريائها الوطني؛ في اجتماع لحكومة إحدى المحافظات في عام 2019، أعرب مسؤول كبير عن قلقه حول إنهاء خدمة مؤسسة ووتر شيد فردّ نائب محافظ المقاطعة بحزم: “لسنا أطفالاً، ونستطيع تولي زمام الأمور الآن”. كان عدد هؤلاء القادة السياسيين أكبر مما تخيلته في البداية.

أما من جهة الممولين فقد لاحظنا انقساماً بين الممولين المحتَملين؛ منهم من رأى أن فكرة إنهاء الخدمة “غير ملائمة”، ومنهم من رأى أنها مستفزة وهم قلة نادرة.

من دون معرفة الدوافع الحقيقية للقسم الأول أخمّن أنهم خلطوا بين استدامة المؤسسة واستدامة الأثر، فقد هنؤونا على هدفنا النبيل المتمثل في إنهاء خدمة مؤسستنا بعبارات مبتذلة مألوفة تبدو لطيفة من الناحية النظرية، لكنهم أعربوا عن قلقهم حول الاستثمار في مؤسسة ستزول قريباً وتحدثوا عن الأمر كما لو أنه مضيعة للمال.

ربما كان السبب هو عدم امتلاك هؤلاء الممولين خبرة في تمويل تغيير الأنظمة لأنهم يركزون على تمويل النتائج ويعتبرون المؤسسات المستفيدة من المنح آلات لتوليد النتائج مثل “عدد الأشخاص الذين يحصلون على المياه النظيفة”، ومع أنهم يقدمون جزءاً من رأس المال لبناء هذه الآلات وصيانتها (النفقات العامة)، فهم يتوقعون أن تنفق غالبية الأموال على تحقيق النتائج المرجوة فقط، ولذلك كانت الكفاءة موضع تركيزهم ويقيسونها بناء على نسب كل من القيمة مقابل المال والنفقات العامة، ولذلك لم يعدّوا مؤسسة ووتر شيد آلة لتوليد النتائج وظنوا أنها محكومة بالفشل.

كان على الممولين الذين دعموا مؤسسة ووتر شيد المجازفة في دعم مؤسسة غير حكومية ستنهي خدماتها بدلاً من تمويل إحدى آلات توليد النتائج التي يمكن التنبؤ بنتائجها. كان هؤلاء الممولون محترفين متمرسين في مجال التنمية شهدوا مزالق الإعانة التقليدية بأم أعينهم ودرسوا برنامجنا وسياق عملنا عن كثب، وكانوا يعدّون خطة إنهاء خدمة مؤسستنا خاتمة منطقية لبرنامجنا، وعلامة على أننا نركز بشدة على تنفيذ مهمتنا بدلاً من البحث عن مجالات عمل جديدة باستمرار. لم ينتظر هؤلاء الممولون التقدير من أحد إطلاقاً، فحاجة الممول إلى توجيه شكر علني له تدل في الواقع على عدم توافقه مع مؤسستنا، على الأقل لأن عملنا على تعزيز النظام لم يولّد الكثير من النتائج التي يمكن ذكرها في الشكر العلني.

لم يكن بناء مؤسسة ووتر شيد بصفة منشأة تجارية من أهدافنا قطّ، ويرى كثير من قادة المؤسسات غير الحكومية أن تحديد نقطة النهاية مهم للارتقاء بمصداقيتهم المؤسسية وقدرتهم على حشد الأطراف المختلفة في سبيل تحقيق فعالية أكبر. من الممكن أن تكون أهداف بناء المؤسسات هذه ملائمة جداً لفئات معينة، إذ يمكن لتنظيمات المجتمع المدني الممولة محلياً (CSOs) مثلاً أن تسوّغ الاستثمار في نفسها على اعتبارها مؤسسات (من دون تبني أي خطة لإنهاء خدمتها) إذا استمرت بناءً على طلب المكوّنات المحلية وحصلت على التمويل المحلي. لكن المؤسسات غير الحكومية الدولية التي تحصل على الدعم الأجنبي ليست تنظيمات محلية للمجتمع المدني، وأنا مقتنع بأن قدرة المؤسسة على التنمية ستكون أقوى إذا استمدت قدرتها على حشد الأطراف المختلفة من أفكارها لا ميزانيتها، وبإمكان الممولين المساعدة في قيادة هذا التغيير.

بالنسبة لموظفي مؤسسة ووتر شيد، كانت فكرة أن مدة الخدمة في الوظيفة محددة مثيرة للقلق بلا شك، فوظائفهم سوف تلغى في نهاية المطاف. وفي حين رأى قلة من الموظفين أن إنهاء خدمة المؤسسة أمر مقنع، كان علينا إقناع الغالبية بأن النجاح في إنهاء خدمة المؤسسة هو إنجاز نادر يجب أن نفتخر به جميعنا. قدم فريق الموارد البشرية في مؤسسة ووتر شيد دعماً فعالاً لموظفينا في التخطيط لحياتهم المهنية، إذ قدموا لهم تدريباً على كتابة السيرة الذاتية وإجراء مقابلات العمل وأدوا دور الوسيط لتقديمهم إلى شركات ومؤسسات أخرى يمكن أن تستفيد من مواهبهم وخبراتهم. تجدر الإشارة إلى أن بعض الموظفين في مؤسسة ووتر شيد كانوا يتمتعون بخبرة كبيرة وأصبحوا رواد أعمال، في حين حصل بعضهم الآخر على وظائف في الحكومة (حتى أنهم عملوا في البرامج التي سلمتها مؤسسة ووتر شيد للحكومة) بناء على الخبرة التي اكتسبوها من المشاركة في عملية ناجحة لإنهاء خدمات مؤسسة غير حكومية.

لماذا لا تخطط المزيد من المؤسسات غير الحكومية لإنهاء خدمتها؟

لدى جميع المؤسسات غير الحكومية ومتبرعيها وموظفيها ومورّديها ومقدمي الخدمات والمستفيدين منها دافع للتآمر ضد التفكير المسبق في مرحلة إنهاء الخدمة ومنعه.

أعلم من خلال تجربتي أنه يمكن إقناع كثير من المؤسسات التي تعمل على تنفيذ البرامج الخيرية بفكرة التخطيط لإنهاء الخدمة نظرياً، ولكن عدداً لا يحصى من الاستثناءات يدفعها إلى الاعتقاد بأن الفكرة غير عملية أو لا تلائم الواقع، تتعلق الاستثناءات غالباً بمشكلتين: 1) الخلط بين التنمية والإغاثة، 2) المساواة بين “انعدام الحاجة” والجاهزية والقدرة المحليتَين.

  1. التنمية ليست إغاثة

لا خلاف على أن التنمية تختلف عن الإغاثة في الكوارث، لكن المظاهر خادعة أحياناً؛ فالمؤسّسات الخيرية، سواءً أنشأها أشخاص يقدّرون ألم الحرمان حقاً أو أشخاص يستغلون الفقر لحشد الدعم، تسمّي أي حاجة ملحّة أزمة إنسانية، ومن الضروري أن تتمعن في الاختلاف الجذري بين الفقر المتوطن وتبعات الصراعات والكوارث الطبيعية. يجب أن تكون المؤسسات غير الحكومية جادة في سعيها لتحديد العتبة التي تتوقف عندها عن الاستجابة للأزمات، مثل زلزال هايتي أو الإبادة الجماعية في كمبوديا، إلا أنها بدلاً من ذلك تعوّق تأسيس الحلول الطويلة الأمد. من المحتمل أن تتمكن المؤسسات من تحديد هذه العتبة بصورة مشوشة وتدريجية، ولكن الاحتياجات الملحة البارزة تحجبها غالباً، وهذا الأمر مختلف تماماً عن مسألة قدرة المؤسسة نفسها على الانتقال من نموذج الإغاثة إلى نموذج المساعدة الإنمائية (التي تتعامل مع التغييرات الهيكلية على مستوى النظام وتستدعي وضع خطة إنهاء الخدمة).

  1. “انعدام الحاجة” ليس مؤشراً على توفر القدرة المحلية الكافية

بالاستماع إلى قادة المؤسسات غير الحكومية تبيّن أن الكثير منهم يركزون على تحسين القدرات المحلية بدلاً من تقديم الخدمات فقط، وإذا عززوا بذلك النظام المحلي فسيقطعون شوطاً طويلاً باتجاه تحقيق التنمية المستدامة المنشودة.

لكن الإشارة التي ينتظرونها غالباً للتأكد من أن الأنظمة المحلية أصبحت جاهزة وأنهم أنجزوا مهمتهم تتمثل في انعدام الحاجة، وهذا خطأ جسيم. ثمة افتراض ضمني أساسي بأن الإنجاز الكلي للرؤية التنموية يبشر بتحقيق الجاهزية المحلية، ولكن لو كان ذلك صحيحاً فلن تعدّ أي حكومة على وجه الأرض قادرة على إدارة شؤونها الاجتماعية أو البيئية أو الصحية أو غيرها بنفسها، وإذا لم يكن بالإمكان اعتبار أن الحكومة جاهزة للتوقف عن تلقي المساعدة الإنمائية إلا عندما تقضي على المشكلات الاجتماعية كافة فلن تكون جاهزة أبداً. ونظراً لمعرفة قادة المؤسسات غير الحكومية ضمنياً أن القضاء على الفقر ليس هدفاً واقعياً مقيداً بجدول زمني، فهم لا يكلفون أنفسهم عناء وضع خطط ذات مصداقية لإنهاء خدمة مؤسساتهم.

الهدف هو تعزيز القدرة المحلية

يجب تكميل الرؤى الطامحة للتنمية أو حتى الاستعاضة عنها بالأهداف الطامحة لتعزيز القدرة. يتجلى في الشعارات وبيانات الرؤية التي تطلقها غالبية المؤسسات غير الحكومية الكبرى أنها تهدف إلى تحقيق حالة شاملة أو ميزة لا يمكن قياسها. خذ مثلاً شعار منظمة أوكسفام (Oxfam) الذي يقول: “عالم يخلو من الفقر”، أو شعار مؤسسة كير (Care): “عالم يسوده الأمل والشمول والعدالة الاجتماعية، يندثر فيه الفقر ويعيش جميع الناس بكرامة وأمان”، أو شعار مؤسسة سيف ذا تشلدرن (أنقذوا الأطفال) (Save the Children): “عالم يتمتع فيه كل طفل بحق الحياة والحماية والتنمية والمشاركة”، هذه الأهداف نبيلة ولكنها بطبيعتها غير موضوعية وبعيدة المنال، ولذلك يفلت مؤيدوها من المساءلة. يبرر هذا النوع من الأهداف ببراعة تقديم الخدمات إلى الأبد، وهو ما نتوقعه عادةً من الوكالات الحكومية بصفتها الجهة المسؤولة الحقيقية، ولذلك فإن أي مؤسسة أخرى تقدم خدمات اجتماعية متواصلة هي فعلياً وكالة حكومية غير منتخَبة.

تنطوي الأهداف الأكثر واقعية على امتلاك الحكومة المحلية القدرة الكافية ضمن إطار زمني معين للنهوض على نحو مستدام برفاهة جميع أفراد شعبها وحتى في مواجهة الصدمات والأهداف المتغيرة.

في حالة مؤسسة ووتر شيد، تمثل هدفنا الطموح في توفير المراحيض لكل فرد في كمبوديا، ولكنه اقترن بالتزامنا الصريح تجاه تعزيز النظام المحلي وإنهاء خدمة مؤسستنا بعد فترة زمنية محددة ليحمل بعدها النظام المحلي مسؤولية التقدم نحو تحقيق الهدف من دون مشاركة مؤسسة ووتر شيد.

تجنب فرض الشروط

قد يبدو أنني أدعو المؤسسات غير الحكومية إلى مراقبة الجاهزية المحلية لتحديد الوقت الأمثل لتوقفها عن العمل، لكن انتظار ما يدل على أن الوقت مناسب وفقاً لمجموعة مقاييس محددة ليس أمراً عملياً ولا مرغوباً به:

  1. من الممكن ألا تتوضح المقاييس الموثوقة التي تصلح لمختلف المجالات أبداً. من المؤكد أنه من المجدي تطوير مؤشرات أفضل على جودة أنظمة الدولة المضيفة لبرامج المؤسسات الخيرية، وقد يوفر ذلك توجيهاً أفضل بالتدريج، لكن تعقيد هذه المؤشرات مرهق ومن المحتمل ألا يكون بعض المؤشرات فعالاً إلا في سياقات محددة. مواصلة العمل كالمعتاد في غياب آلية تقييم مثالية ليس أفضل من مواصلته إلى أن تزول الحاجة إليه.
  2. إنهاء الخدمة المشروط مؤقت وعرضة للتأجيل المفتعل. بما أن تقييم الجاهزية المحلية أمر معقد وغير موضوعي، فسيتيح استخدام أي مجموعة من معايير إنهاء الخدمة تعكس أدق الفروقات بدرجة كافية مجالاً كبيراً جداً لتردد المؤسسة في التزامها إنهاء خدمتها. وبالمقابل قد لا يكون تبسيط معايير الخروج أفضل، إذ يمكن للمعايير الواضحة أن تثبت على نحو زائف إمكانية تأجيل إجراءات إنهاء الخدمة مثلما تثبت إمكانية تنفيذها تماماً، فالمصالح الخاصة التي تتوافق مع عدم إنهاء خدمة المؤسسات غير الحكومية حقيقية، وهي تنطوي على مئات المليارات من الدولارات.
  3. ليس من المحتمل أن تحقق خطط إنهاء الخدمة المشروطة فوائد التخطيط والتواصل الموضحة أعلاه. يمكن أن تتعارض إجراءات إنهاء خدمة المؤسسة التي تتخذ بصورة مفاجئة مع الممولين والمستفيدين والحكومة المحلية، بل وقد تسبب اتهام المؤسسة بالتقصير، ومن الأمثلة على ذلك مغادرة المؤسسة غير الحكومية، بلان إنترناشيونال (Plan International)، من سيريلانكا في عام 2020؛ إذ استغنت في برنامجها عن التمويل العام وأنشأت الكثير من التبعيات، وبالتالي كان لإنهاء خدمتها المفاجئ أثراً مدمراً كبيراً، واعترفت المؤسسة لاحقاً بأن تنفيذ إجراءات إنهاء خدمتها كان رديئاً وألقت اللوم على ضعف التواصل مع أصحاب المصالح والمعايير السيئة.

أما في مؤسسة ووتر شيد فقد حددنا الإطار الزمني لإجراءات إنهاء خدمتها بصورة مسبقة وعشوائية بدلاً من انتظار المؤشرات التي تحفزنا على تنفيذها، لكن هذا لا يعني أننا تجاهلنا البيانات المتعلقة بقوة النظام المحيط بنا، بل كرسنا طاقة كبيرة لتقصي مؤشرات جاهزيته والبحث عن فرص لإنهاء إجراءات البرنامج التدخلية ومكوناته بالتدريج إلى جانب تتبع نتائج مرحلة ما بعد التنفيذ. مع مرور الوقت، أفسح لنا تنظيم إجراءات إنهاء خدمة مؤسستنا المجال للتعلم والتعامل مع التغيرات الحتمية بمرونة.

على الرغم من أن مؤسسة ووتر شيد أغلقت أبوابها فأنا أتوقع أن تواجه كمبوديا الكثير من التقلبات في تقدمها نحو تحقيق هدف التنمية المستدامة المتمثل في توفير المرافق الصحية ذات الإدارة الأمنة بنسبة 100%، لكني أشعر اليوم بثقة أكبر من أي وقت مضى بأن الحكومة هي الأقدر على قيادة هذه الجهود بالتشارك مع القطاع الخاص الآخذ بالازدهار. وفي حين سيستمر الجدل الدائر حول التقدم في مجال المرافق الصحية في كمبوديا وسيطرح أسئلة كثيرة؛ هل يتم تخصيص الموارد على النحو الملائم؟ هل أولوياته صحيحة؟ وهل يسير التقدم بوتيرة سريعة بما فيه الكفاية؟ نأمل أن يقود أصحاب المصالح الكمبوديون من القطاعات العامة والخاصة والمدنية الحوار والحلول بأنفسهم.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.