النظام الديمقراطي: ما هي متطلبات إصلاحه؟

النظام الديمقراطي
Shutterstock.com/beeboys
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تُطبَّق السلطة في كل زاوية من زوايا حياة الإنسان، في العائلات والمجتمعات، والمؤسسات الاجتماعية والمدنية والاقتصادية، والدول والأنظمة السياسية، وتعني استعادة الديمقراطية وإصلاح النظام الديمقراطي مجابهة السلطة.

ومع ذلك، غالباً ما يُحجِم الدعاة إلى الإصلاح عن مواجهة المشكلات المتعلقة بالسلطة، فإن الكشف عن ديناميات السلطة الخفية يمكن أن يكون أمراً معقداً وصعباً، لذلك غالباً ما نجد ميلاً إلى محاولة حل المشكلات من خلال البحث عن إصلاحات سياسية وتكنولوجيات جديدة وحلول توعوية.

في الواقع، يمكن حل بعض المشكلات باتباع الأساليب السياسية والتكنولوجية وبإثراء المعلومات. على سبيل المثال، عندما أراد الأطباء تخفيض معدل الوفيات الناتجة عن متلازمة موت الرضَّع المفاجئ في أوائل التسعينيات، أطلقوا حملة لتعليم الآباء الوضعية الصحيحة لنوم الأطفال، وذلك بوضعهم على ظهورهم بدلاً من بطونهم، وبمجرد أن علم الآباء أن الأطفال الذين ينامون على ظهورهم أقلّ عرضة للاختناق، عدلوا وضعية نوم أطفالهم فانخفضت معدلات الوفيات الناتجة عن هذه المتلازمة بدرجة هائلة، وكذلك عندما استخدم العلماء التكنولوجيا لصنع لقاح لشلل الأطفال، تمكنوا تقريباً من القضاء عليه. عموماً، نجد في هذه الأمثلة توافقاً بين دافع العمل وصلاحية العمل، حيث يملك الآباء دافع حماية أطفالهم، وصلاحية تحديد وضعية نومهم، ولذلك عندما تلقوا المعلومات التي يحتاجون إليها غيروا سلوكهم.

من ناحية أخرى، تختلف المشكلات المتعلقة بالسلطة لعدم توافق الدوافع والصلاحيات، فيفتقر من لديهم الدافع لصنع التغيير إلى السلطة أو صلاحية العمل، أو يفتقر أصحاب السلطة إلى الدافع، لذا يتطلب حل مشكلات السلطة تحقيق التوافق بين الدافع والسلطة.

تساعد إعادة صياغة التحديات التي تواجه تطبيق النظام الديمقراطي على شكل مشكلات متعلقة بالسلطة على إبراز مجموعة متميزة من الحلول. وفي هذا السياق لا يكون تبنّي الأفكار الاستبدادية التي تعادي النظام الديمقراطي في جميع أنحاء العالم رفضاً لمرشحين أو أحزاب أو سياسات معينة فحسب، بل انعكاس لعدم التوافق المتجذر بين دوافع الشعب أو مصالحه وممارسات أصحاب السلطة؛ إذا جعلت الناس يشعرون بالعجز فقد يعتقدون أنهم لا يملكون خياراً سوى الإطاحة بهذا النظام.

اقرأ أيضاً: تغيير مسار المؤسس وتحديات اتباع نهج عمل جديد

لكن التخلّي عن الديمقراطية ليس الحل الوحيد، حيث يمكن للدعاة إلى الإصلاح السعي أيضاً إلى تعزيز قدرة الناس على التعبير عن آرائهم في العملية الديمقراطية، وتجسيد السلطة الممنوحة لهم لمساءلة القادة الاقتصاديين والسياسيين في المؤسسات. يجب أن يتمحور تطبيق النظام الديمقراطي حول بناء الدافع والقدرة والسلطة التي يحتاج إليها الناس من جميع الأطياف، ليكونوا بمنزلة السلطة الموازية لمؤسسات الاقتصاد والدولة، وهكذا يكون تحقيق الديمقراطية الموعودة.

لكن هذا لا يتحقّق إلا إذا أدرك دعاة إصلاح النظام الديمقراطي الرابط بين الطريقة التي يتعامل بها الناس مع بعضهم بعضاً في حياتهم اليومية، وتأثير تلك التجارب اليومية في استعداد الناس وقدرتهم على العمل وفق النظام الديمقراطي. فالناس يمرون يومياً بتجارب إيجابية وسلبية في المنزل والعمل وأماكن العبادة والأماكن المجتمعية، متعلقة بالسلطة والدولة والشركات والعملية الديمقراطية. وبوحي من هذه التجارب يُكوِّن الناس معتقداتهم الخاصة حول طرائق تطوير السلطة وتطبيقها، بالإضافة إلى طرائق بناء تعريفهم الشخصي للديمقراطية، ويطورون في هذه العملية القدرات التحفيزية والعملية والمادية التي توجه قدرتهم على العمل في الحياة العامة.

اقرأ أيضاً: التصدي لتغير المناخ مختلف عن مطالب أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة

ومع ذلك، يسعى دعاة الإصلاح غالباً إلى صنع تغيير هيكلي على مستوى التغيير المؤسسي أو السياسي دون السعي إلى تغيير الطريقة التي تؤثر بها السلطة على الناس في حياتهم اليومية، وبالتالي، لا يمكن بناء القدرات التي يحتاج إليها الناس لمساءلة المؤسسات والسياسات. تُظهِر الأبحاث حول فكرة “التحوّل السياسي” أنه حتى عند تشكيل تحالفات سياسية استثنائية لإنجاح سياسة ما، غالباً ما تنحرف هذه السياسة عن هدفها الأصلي عند التنفيذ وتتحوّل لتعكس ديناميات السلطة الخفية في مجال السياسة أو المجتمع، لذا يمكن للدّعاة إلى الإصلاح تجاوز قوانين تمويل الحملات للحصول على المال من السياسة وقوانين تسجيل الناخبين التي تسهّل المشاركة. ولكن ما لم يطرحوا الأسئلة الأساسية حول تأثير الأثرياء غير المتكافئ ونقص دافع الكثيرين للتصويت وقدرتهم على ممارسته، ستبقى المشكلة الأساسية دون حل.

لذلك فإن حل مشكلات السلطة في النظام الديمقراطي اليوم يقتضي توفّر جزأين محوريَين: الأول، يجب على دعاة إصلاح النظام الديمقراطي الاستثمار في مؤسسات المجتمع المدني والاقتصاد والدولة التي يُنمّي الناس من خلالها قدراتهم على خوض الحياة الديمقراطية. إذ لا يملك الناس القدرة التي يحتاجون إليها للانخراط في الحياة العامة منذ ولادتهم، بل يجب أن تُغرَس فيهم. وهم بحاجة إلى أماكن يتعلمون فيها قيمة التفاعل مع الآخرين، ويطورون المهارات التي يحتاجون إليها لمناقشة الاختلافات وغرس المرونة العاطفية اللازمة لمواجهة مخاطر التعامل مع الأفراد اللازم للعمل الجماعي. بعبارة أخرى، يحتاج الناس إلى أماكن ليتعلموا كيف يمثّلون أنفسهم، كما يجب أن يتمتّعوا بالاستقلالية والظروف المادية اللازمة لممارسة حقهم في حرية العمل. تقتصر تجربة معظم الناس مع النظام الديمقراطي على فرصة التصويت لمرشحين غير ملهِمين، وهم لا يرَون مكان العمل إلا موقعاً لاستغلال العمالة، لذا عندما يتواصل هؤلاء الأشخاص مع المؤسسات المجتمعية، يتعاملون معها على أنها مجرد قائمة من الأسماء في معظم الأحيان. لكن بدلاً من ذلك، يجب أن تكون الأماكن التي يعمل الناس فيها ويتفاعلون مع المجتمَع ويختلطون بأفراده هي التي تتيح لهم بناء الدوافع والمهارات التي يحتاجون إليها في الحياة العامة. يجب أن يجرِّب الناس تمثيل أنفسهم في حياتهم الخاصة قبل أن يصبحوا مصدر السلطة الموازية في الحياة العامة.

أما المحوَر الثاني، فهو أنه يجب على دعاة الإصلاح دعم المؤسسات التي تُمكِّن الأشخاص من ممارسة صلاحياتهم في العمل بصفتهم قوة موازية للشركات والدولة، فمؤسسات المجتمع المدني ليست مجرّد مكان يلجأ إليه الناس لتعلّم مهارات الديمقراطية وممارساتها، بل هي مواقع تحوّل يتحوّل فيها عمل الناس إلى سلطة وتأثير على النتائج الاجتماعية والسياسية. لكن لن تحوّل هذه المؤسسات مشاركة الناس إلى سلطة بتبني نهج مؤسسات فرز الأصوات أو السجلات المحايدة لعمل الناس فحسب، بل عليها أن تعزّز الروابط بينهم وتوسّعها وتبني جسوراً اجتماعية في الأماكن التي تفتقر إليها وتولّد استعداداً لدى الناس لإبداء التزام بعضهم تجاه بعض، وتزيد قدرتهم على التفكير بأسلوب مختلف حول ما يرغبون فيه أو المستقبل الذي يتخيلونه. يعني تنفيذ كل ما سبق أن على هذه المؤسسات اتخاذ إجراءات قيادية وهيكلية وتنفيذ عمليات الحوكمة التي تقوم على الناخبين لجعلها قوية.

اقرأ أيضاً: القوة التي يمكن أن يكتسبها الموظفون في أماكن العمل

تنتج المصاعب التي تواجه النظام الديمقراطي في القرن الحادي والعشرين عن إهمال المجتمع لمواجهة التحدي المتمثل في تمكين سلطة الناس، وحتى في المجتمع المدني حيث حلّت الشعارات الجذابة والتطبيقات الأنيقة والمناقشات السياسية محلّ العمل الدؤوب في سبيل بناء قدرات الناس لخوض الحياة الديمقراطية ودعم المؤسسات التي تترجم تلك القدرة إلى القدرة على مساءَلة السلطة. إذاً فإن هشاشة هذه اللحظة التاريخية ليست نتيجة ضخامة المشكلات التي نواجهها فقط، بل نتيجة لعدم التوافق بين حجم التحدي والأمل في الحلول المطروحة لمواجهته أيضاً. فالخطابات على مسرح تيد (TED Talks) ووسائل التواصل الاجتماعي تَعِد بحلول يمكن ذكرها في مقطع فيديو مدته 7 دقائق أو خطاب من 280 حرفاً، كما تَعِد الحملات الاستبدادية بأن يكون المرشحون الرئاسيون والأحزاب منقذين، لكن لن ينجح أي من هذه الحلول. بل تتطلب أكثر المشكلات الاجتماعية تعقيداً حلولاً قائمة على السلطة، والسؤال هو: هل سنبذل جهداً في الاستثمار في المؤسسات والإجراءات والممارسات في كل من المجتمع المدني والنظام الاقتصادي ومنظومة الحوكمة لجعل الديمقراطية حقيقة؟

 

 

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.