في 2017، توصل مجلس إدارة صندوق مصرف "دويتشه بنك" الألماني لتنمية القروض الصغيرة (دي بي إم دي إف) إلى نتيجة مفاجئة.
على الرغم من أن الصندوق يتمتع بسجل حافل من التأثير لمدة عقدين من الزمن، وهيكل تكاليف بسيطة، ومعرفة كبيرة بالسوق، بالإضافة إلى امتلاك الصندوق أصولاً تصل قيمتها إلى ما يقرب من 4 ملايين دولار، قرر مجلس الإدارة إغلاق الصندوق وتحويل أصوله إلى مؤسسة غير ربحية أخرى تُختار عن طريق عملية تنافسية.
إن اتخاذ قرار بإيقاف عمل منظمة غير ربحية في الوقت الذي لا تزال تملك فيه أصولاً كبيرة بهدف مساعدة مؤسسة أخرى ليس من المسارات المتعارف عليها غالباً في عالم العمل الخيري. ونظراً لأنه من المرجح إجراء عمليات اندماج بين منظمات غير ربحية وظهور أشكال أخرى من التحالفات في ضوء جائحة "كوفيد-19"، أردنا أن نستكشف كيف وصلنا إلى هذه القرار، والدروس التي تعلمناها في طريقنا كعضوين في مجلس إدارة الصندوق انخرطا في عملية إنهائه.
عالم متغير
بين 1998 و2018، قدّم صندوق "دي بي إم دي إف" 124 قرضاً تصل قيمتها الإجمالية إلى 18.2 مليون دولار إلى 89 مؤسسة تمويل صغير.
في عقده الأول، أدى كل دولار أقرضه الصندوق إلى توفير أكثر من 10 دولارات من التمويل الجديد لمؤسسات التمويل الصغير، ما ساعدها على توسيع منح القروض للأشخاص منخفضي الدخل في الدول النامية.
وفي الوقت الذي أحرز فيه الصندوق هذه النجاحات، فقد تغيّر العالم: أصبح التمويل الصغير شائعاً في العديد من البلدان، وأصبح منح القروض التجارية لمؤسسات التمويل الصغير حسنة الإدارة أكثر رواجاً بكثير. بالإضافة لذلك، أصبح العديد من مؤسسات التمويل الصغير بحاجة إلى الأسهم الأجنبية أكثر من الديون، في حين أن تلك المنظمات الشعبية (أو الجماهيرية) التي تتطلب الديون، مثل التعاونيات الزراعية، كانت منظمة بشكل مختلف تماماً عن مؤسسات التمويل الصغير التي نعرفها جيداً.
خلص مجلس إدارة "دي بي إم دي إف" إلى أنه لا يمتلك المقدرة على إعادة تشكيل استراتيجياته لتواكب هذه الظروف المتغيرة الجديدة. وكنتيجة لذلك، قرر المجلس عدم إعادة توزيع كل القروض المستحقة له بعد استردادها، والتي مُنحت لمؤسسات التمويل الصغير المتخصصة بمحاربة الفقر وساعدتها في الحصول على قروض تجارية قللت اعتمادها على التبرعات. وبدلاً من ذلك، جمعنا احتياطياً نقدياً يبلغ عدة ملايين من الدولارات.
خلال هذه العملية، سعى المجلس للتعاون مع منظمة أخرى تتمتع بنفس المنطلقات والأفكار وشبكات العمل التي تسمح لها باستغلال الموارد المالية للعمل على منفعة أصحاب الأعمال الصغيرة والمشاريع الصغيرة في البلدان النامية. اليوم، تُستخدم أصول "دي بي إم دي إف" عن طريق منظمة إم سي إي سوشال كابيتال (MCE Social Capital) غير الربحية لمساعدتها على توسيع محفظة الأعمال الصغيرة النامية الخاصة بها، وهو الثمرة الأخيرة لنجاح هذه المنظمة في منح القروض لمؤسسات التمويل الصغير منذ 2006.
مثّل هذا القرار بطريقة ما محاولة لمعالجة مشكلات التدمير الإبداعي التي تظهر بشكل شائع في السوق (وكثيراً ما يتم انتقادها)، مثل الاضطرابات في الإعلانات الرقمية التي تسببها شركتا جوجل وفيسبوك. أدركنا أن الظروف تتغير، وأننا بحاجة إلى منظمة تفهم هذا العالم الجديد بشكل أفضل مما نستطيع نحن. إن عملية إيجاد هذا الفريق صعبة. إليكم بعض الرؤى التي يمكن أخذها في الاعتبار حول طريقة عمل ذلك:
- قبل أن تبدأ: عندما يُطلق مشروع غير ربحي أو خيري بهدف حل مشكلة معينة، خذ بعين الاعتبار أن الظروف ستتغير خلال العقد القادم بطرق ستجعل المقاربة الأساسية أقل فاعلية. وقد يعود ذلك، على الأقل جزئياً، إلى تحقيق الاستراتيجية الأساسية (عندما تُدمج مع جهود الآخرين، مثل القطاع العام وقوى السوق) للأهداف المرغوبة. بالنسبة للشركات الناشئة، قد يكون من المنطقي أكثر تحديد مبادرات جديدة لها دورة حياة محددة. أما في القطاعات التي تنشأ بسرعة، فقد يكون من الحكمة التفكير بطريقة مختلفة حول الحاجة لبناء مؤسسة دائمة لها مجلس إدارة والتزامات بالامتثال خاصة بها.
- توقَّع الخسائر: خذ بعين الاعتبار أن جزءاً كبيراً من موارد المنظمة ومصادر استقرارها سيصبح غير متاح. في حالة "دي بي إم دي إف"، سبّب ذلك الحاجة لدعم مجاني من "دويتشه بنك" لضمان إعداد الصفقات بجودة عالية. بالنسبة للآخرين، قد يعني ذلك موت أحد المتبرعين، أو توقّف المِنَح، أو نهاية عقد مربح مع الحكومة. هذه التغيرات قد تهدد الاستدامة على المدى الطويل، وبدلاً من إهمال إمكانية حدوثها، ضع في اعتبارك سيناريوهات للتعامل معها، والتي يمكن أن تشمل تصفية جميع الأصول التنظيمية ومنحها لمؤسسة مماثلة قبل إنفاقها، في محاولة قد تكون غير مثمرة للمقاومة والبقاء.
- التدقيق في الخيارات: إن اختيار منظمة لِتَرِث موارد منظمتك يتضمن عمليات بحث وتقييم ومباحثات معقدة. صممنا طلباً رسمياً لعروض الاقتراحات وأمضينا ساعات طويلة في مراجعتها وتقييمها. لكن يمكن تطبيق آليات أخرى أيضاً، طالما كانت رصينة وعادلة. وعلى الرغم من أننا استعنّا بمستشار خارجي، إلا أنه لا يمكن إنجاز هذا العمل كله ذاتياً أو بمساعدة مصادر خارجية. يجب على أعضاء مجلس الإدارة والموظفين المطّلعين على تاريخ علاقات المنظمة وشبكات عملها المغلقة، القيام بالجهد الجاد المتمثل بتقييم المنظمات التي قد تخلف المنظمة الأساسية، ووضع تلك التي يختاروها على طريق النجاح.
- انتبه للوقت: عند التماس عروض من المنظمات غير الربحية لتتولى أعمالك، كن مقدّراً لانشغالها، لأنها قد تملك القليل من الوقت الذي يمكنها تخصيصه لك بسبب محدودية الموارد التي تعاني منها العديد من المنظمات التي تقودها عقلية إنجاز المهام. تأكد من أن يكون طلب تقديم العروض واضحاً، وكن متواجداً لتقديم الإيضاحات في الوقت المناسب. اطلب تقديم خطابات نوايا موجزة أولاً، بدلاً من العروض الكاملة. أخيراً، حاول تقديم تعويضات لأكثر عدد ممكن من المنظمات التي أنجزت عملية التقديم بأكملها. يمكن أن يتضمن ذلك هبة مالية، أو إعلانات، أو الاثنين معاً. في حالتنا، وهبنا 50,000 دولار للمنظمات السبع التي وصلت للمرحلة النهائية.
- تعامل بجدية مع إيقاف عمل منظمتك: إن إيقاف عمل منظمة غير ربحية بشكل مسؤول يتطلب نفس الجهد والمواظبة اللازمين لإنشائها، كما يتطلب وجود مجلس إداري فعال وملتزم، على الرغم من ميل بعض المتطوعين في مثل هذه المواقف إلى تقليص مشاركاتهم وتركيز جهودهم في المنظمات التي تنوي الاستمرار في العمل.
لا ينتهي العمل باختيار المنظمة الخليفة لمنظمتك، إذ إن هناك عدداً لا يحصى من المسائل التفصيلية التي تجب معالجتها، بالإضافة إلى مسؤولية إيصال القرار (والدروس المستفادة) إلى نطاق أوسع من مجتمع العمل الخيري. أخيراً، قد يكون هناك إمكانية لتصدير بعض المواهب والممتلكات الفكرية للمنظمة التي يتم حلها. في حالتنا، انضم كلانا إلى الهيئة الاستشارية لمنظمة "إم سي إي" (MCE)، وذلك لضمان وجود درجة من الاستمرارية الثقافية بين المنظمتين. - احتفل: سلط الضوء على إنجازات المنظمة غير الربحية التي حُلَّت والمنظمة التي حصلت على الحق في المضي قدماً في المهمة. يمكن أن يؤدي القيام بذلك إلى تخفيف المشاعر السلبية المرتبطة بصفتك جزءاً من مؤسسة غير ربحية ستتوقف، ودعم المنظمة الجديدة بنفس الوقت. يمكن تحقيق ذلك من خلال الحفلات، أو المقالات أو البيانات الصحفية أو المنشورات على المدونات.
خُصص الكثير من الاهتمام لكيفية إدارة المنظمات غير الربحية مقارنة بكيفية إدارة حلّها. يسمح هذا الخطأ لبعض المنظمات بالاستمرار في عملها حتى بعد أن تخرج من طليعة التغيير الاجتماعي ويتسبب في حرمان المنظمات المؤهلة بشكل أفضل من الموارد.
إن عملية خلق عالم أكثر عدلاً واستدامة تتطور باستمرار. ومن الضروري أن تواكب المنظمات هذا التطوّر، أو تبحث عن منظمات أخرى قادرة على ذلك، بينما تستمر في الحفاظ على عناصر قوتها.
نبذة عن الكاتب:
غاري حاتم:
عضو مؤسس في مجلس إدارة "صندوق دويتشه بنك لتنمية القروض الصغيرة"، وهو مستشار مستقل للمنظمات غير الربحية، والمؤسسات، والمشاريع الريادية المجتمعية، والشركات في جميع أنحاء العالم.
وهو أيضًا رئيس مجلس إدارة "غريلو" (Grillo)، وهي مؤسسة اجتماعية مقرها المكسيك، وهو مؤسس ومدير عام لـ "تحالف تمويل التراث الثقافي" (Cultural Heritage Finance Alliance).
أليكس كاونتس:
عضو مجلس إدارة منذ فترة طويلة في صندوق دويتشه بنك، هو أستاذ مساعد للسياسة العامة في جامعة ميريلاند، ومستشار وكاتب غير ربحي. وهو أيضاً مؤسس "غرامين فاونديشن" (Grameen Foundation). شغل منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمدة 18 عاماً، ويعمل حالياً كبير المستشارين في "تحالف المنظمات الخيرية الهندي" (India Philanthropy Alliance). أحدث كتبه بعنوان "عندما ينتابك شك، اطرح المزيد من الأسئلة: و213 درساً آخر من دروس الحياة والحياة المهنية موجهة للقائد الذي لديه رسالة وهدف" (When in Doubt, Ask for More: And 213 Other Life and Career Lessons for The Mission-Driven Leader)