كيف يسهم الابتكار الاجتماعي في التكيف مع تداعيات الأزمات؟

7 دقائق
جامعة تولين
(استُخدمت الصورة بإذن من مركز فيليس تايلور. تم التقاط هذه الصورة قبل إجراءات التباعد الاجتماعي).

بعد أن ضرب إعصار كاترينا ساحل الخليج في 29 أغسطس/آب عام 2005، شهدت مدينة نيو أورلينز دماراً غير مسبوق، واضطرت جامعة تولين إلى الإغلاق مدة فصل دراسي كامل. وفي الأشهر والسنوات التي أعقبت هذه "الكارثة التي تسبب بها البشر"، كما يدّعي سكّان مدينة نيو أورلينز بسبب تضعضع السدود الفيدرالية، قررنا إعادة فتح الجامعة من خلال إعادة ربط المؤسسة بمدينة نيو أورلينز وتعزيز أهمية القيم الاجتماعية والبيئية. انخرطت جامعة تولين في المجتمع منذ تأسيسها عام 1834 باسم كلية الطب في لويزيانا، واشتُهرت بتركيزها على عدوى الحمى الصفراء وأمراض المناطق المدارية الأخرى. لكننا لجأنا في السنوات التي تلت إعصار كاترينا إلى تضمين الابتكار الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية في صميم عملنا. وباعتبار الجامعة مؤسسة رئيسية في هذه المدينة المتوسطة الحجم، وأكبر صاحب عمل خاص، أحدثت الاستثمارات الرامية إلى تسريع التأثير الاجتماعي الإيجابي الذي يحدثه الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية آثاراً واضحة.

وبالنظر إلى الصدمة العالمية التي تعرضت لها أنظمتنا نتيجة جائحة كوفيد-19، بما فيها نظام التعليم العالي، يقدم نموذج جامعة تولين حول إعادة التمحور، بدلاً من العودة البسيطة إلى الوضع الراهن قبل الأزمة، مثالاً مفيداً للمؤسسات الأخرى. حيث برزت بعد الأزمة ثقافة العمل التعاوني والمسؤولية الاجتماعية في جامعة تولين: على سبيل المثال، إلى جانب التحوّل العام في أساليب التدريس والبحث الرامي إلى إعادة إحياء الجامعة على الأصعدة المادية والاجتماعية والمالية والمؤسسية، التزمنا فعلياً بإشراك المجتمع من خلال إلزام كل طالب في كل مجال وتخصص في جامعة تولين بحضور فصلين دراسيين يركزان على التعلم الخدمي. كما أسهم أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب والعمداء وقادة الجامعات الآخرون بلا استثناء في إعداد مناهج متنوعة تربط الطموحات الأكاديمية التقليدية بشعور عميق بالمسؤولية تجاه العدالة الاجتماعية والبيئية.

تلقّت جامعة تولين على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية اهتماماً محلياً ودولياً بسبب اتخاذها خطوة إعادة التمحور تلك، والأهم هو أن تلك الخطوة عززت قيمة الجامعة لدى سكان مدينة نيو أورلينز والمناطق المحيطة بها. والأهم من ذلك كله، فقد تعلمنا أن التعليم الذي يجمع بين التدريب الأكاديمي الصارم والهدف والتأثير الاجتماعي لاقى استحسان العديد من الطلاب، وقد شهدنا تحسناً ملحوظاً بالفعل في جميع مقاييس جودة التعليم التقليدية، كعدد طلبات الالتحاق بالجامعة، واختيار الجامعة، وتصنيفها، ومعدل استبقاء الطلاب، ومعدلات التخرج، وتنوع الطلاب، والمسارات المهنية المحسنة للطلاب الذين انخرطوا في نموذج جديد للتعلم الجامعي المتصل. حيث ارتفعت طلبات الالتحاق بالجامعة من حوالي 20,000 طلب سنوياً قبل عام 2005، إلى ما يقرب من 45,000 طلب، على الرغم من أن عدد الشواغر للطلاب المستجدين يبلغ 1,800 شاغر، كما زاد عدد الطلاب الدوليين والطلاب ذوي البشرة الملونة أكثر من الضعف.

كيف يمكن لجامعة عمرها قرابة قرنين من الزمن إعادة توجيه أهدافها نحو التأثير؟

1. الدعم القيادي والتمويل الأولي المودع لحسن التصرف

لن نبالغ في وصف مدى الاهتمام الرئاسي وكمية المناصرة والالتزام، لكن من الضروري أن نذكر أن الرئيسين سكوت كوين ومايك فيتس وضعا مساراً طموحاً تخلّله إجراء استثمارات في الأموال وتخصيص للأوقات وتبنٍ لممارسات الإقناع الأخلاقي. على سبيل المثال، تطلّب منهاج التعلم الخدمي أموالاً جامعية كبيرة لدعم مركز الخدمة العامة باعتباره كياناً لتسجيل الطلاب وتعيين أعضاء الهيئة التدريسية في نظام التعلم المجتمعي. وأطلق التمويل الأولي مركزاً للتدريس والتعلم بالمشاركة باعتباره مورداً أثرى عملية التدريس، ذلك أنه زوّد أعضاء الهيئة التدريسية بإعانات تدعم التدريب في مجال التعلم الخدمي والتدريس المبتكر المتعدد التخصصات.

والتزم الرئيس فيتس والعميد الجديد بضمان نجاح هذه المبادرة على مدى السنوات الخمس الماضية. وتضمنت إحدى المحاور الأساسية لأجندة الرئيس فيتس "تخطي الحدود" بصفتها استراتيجية تهدف إلى التخلص من عقلية الصومعة الشهيرة في الأوساط الأكاديمية لخلق تأثيرات جديدة وموسعة في البحث والتدريس، وهي مهمة تناسبت مع مركز فيليس تايلور للابتكار الاجتماعي والتفكير التصميمي.

2. مناصب الأستاذية الدورية محددة المدة

لطالما كانت الحوافز وسيلة رئيسية لتشجيع أعضاء هيئة التدريس على ربط أساليب التدريس وتخصصات البحوث بالمجتمع، وهو ما أتاح للرئيس بداية كسب 5 إعانات فردية لتمويل "أساتذة الريادة الاجتماعية". وبعد الإعلان عن فتح باب الترشيح، تبيّن لدى أعضاء الهيئة التدريسية التأثير الذي أحدثته المجموعة الأولى من الأساتذة المختارين في المجتمع، إلى جانب التمويل المكتسب. وبمرور الوقت، ارتفع عدد مناصب الأساتذة إلى 10 توزعوا على جميع الكليات في جامعة تولين تقريباً. يحصل كل أستاذ منهم على عقد مدته 5 سنوات استناداً إلى نظام التناوب، وهو ما يُفيد في زيادة عدد أعضاء الهيئة التدريسية الذين يعملون مع مركز تايلور في مجالات متعددة التخصصات تركز على التغيير الاجتماعي. وازداد عدد أعضاء الهيئة التدريسية الذين تبيّن لهم مقدار القيمة والتأثير المرتبطين بأساتذية الريادة الاجتماعية.

3. الابتكارات في إعداد المناهج الإثرائية

حصلت مهمة إعداد المناهج الدراسية الإثرائية التي تنطوي على الابتكار الاجتماعي على دعم وإلهام مكثفين من مبادرة الجامعات صانعة التغيير التي طرحتها مؤسسة أشوكا يو (Ashoka U). تم الاعتراف بجامعة تولين في عام 2009 بصفتها واحدة من أوائل الجامعات صانعة التغيير في مؤسسة أشوكا يو، ما وفّر فرصاً جديدة لجامعة تولين لتمويل الطلاب وعمليات الابتكار، بما فيها الجوائز المخصصة لمسابقات العروض الممولة من هبات المتبرعين الأفراد، والدعم المالي لمقترحات الطلاب التي تركز على مؤسسات الابتكار الاجتماعي أو المؤتمرات، والاستثمارات في حاضنة المشاريع الطلابية في معهد الجامعات صانعة التغيير التي تتيح لمجموعات صغيرة من الطلاب تطوير أفكار هدفها معالجة تحديات اجتماعية أو بيئية معينة. وكان للإلهام والإرشاد اللذين قدمهما فريق أشوكا يو تأثيراً هائلاً على المسار الاستراتيجي الفريد الذي وضعته جامعة تولين على مدار السنوات اللاحقة، وسرعان ما أصبح "قادة التغيير" في جامعة تولين موجِهين واستشاريين للجامعات الأخرى حول قضايا العدالة والتأثير الاجتماعي الإيجابي.

4. تبني التفكير التصميمي

عندما بدأنا عملية بناء محفظتنا الاستثمارية من فرص الابتكار الاجتماعي في جامعة تولين عام 2012، أطلقت كلية الهندسة المعمارية تخصصاً فرعياً على مستوى الجامعة في مجال الابتكار الاجتماعي والريادة الاجتماعية، وجعلت "التفكير التصميمي الهادف إلى إحداث التأثير الجماعي" أحد المقررات الخمسة المطلوبة. وسرعان ما أصبح هذا التخصص الفرعي شائعاً لدى طلاب كليات المرحلة الجامعية الخمس الذين يتعلمون التفكير التصميمي إلى جانب تخصصاتهم لتعزيز فهمهم للأساليب التي تساعد على نجاح عملية التغيير الاجتماعي الإيجابي. كان التفكير التصميمي فعالاً في توحيد الآراء ووجهات النظر المتنوعة في بيئة تعاونية قائمة على المشاركة الوجدانية، كما أثبت أيضاً أنه أداة أساسية في تعزيز التعاون في مختلف التخصصات في جامعة تولين.

يقدم مركز تايلور خدمات التفكير التصميمي الشاملة دون مقابل لكل من الوحدات الأكاديمية والإدارية في الجامعة، وهناك تعاون إضافي قائم منذ أمد طويل مع جامعة كزافييه (Xavier) في لويزيانا والعديد من المؤسسات المجتمعية. ولطالما كانت العقلية المرتبطة بالتفكير التصميمي راسخة في أهداف مركز فيليس تايلور منذ تأسيسه، وقبل مِنح وعطايا السيدة تايلور حتى.

وفي خريف عام 2019، افتتح المركز مؤسسة تايلور ويرهاوس (Taylor Warehouse) باعتبارها مركزاً ثانوياً في مبنى مجدّد وقائم منذ 100 عام ضمن منطقة ويرهاوس في مدينة نيو أورلينز التي تُعتبر مركزاً لريادة الأعمال والفنون في المدينة. يحتل المركز المتعدد الاستخدامات ذلك مساحة 2,000 قدم مربعة، ويقع بالقرب من كليات تولين الثلاثة وسط المدينة، وهي كليات الطب والصحة العامة والعمل الاجتماعي. وتوجد وحدتان أخريان قريبتان أيضاً، وحدة وسط المدينة بالقرب من كلية فريمان للأعمال (Freeman School of Business) ومركز ألبرت وتينا الصغير للتصميم التعاوني (Albert and Tina Small Center for Collaborative Design)، وهو مركز التواصل الرئيسي لكلية تولين للهندسة المعمارية وسط المدينة. وما ساعدنا على دفع تلك التكاليف هو أموالنا الأساسية المستثمرة في مشاريع قائمة على المضاربة هدفها جذب متبرعين إضافيين، بالإضافة إلى التمويل المتأتي من رسوم اتفاقيات الخدمات مع العملاء والمؤسسات التجارية وغير الهادفة إلى الربح.

5. الماليات

على الرغم من امتلاك جامعة تولين أموالاً كافية لدعم رسالتها الأساسية، استلزم جعل الابتكار الاجتماعي على رأس أولوياتها وضع استراتيجيات هدفها تجميع الأموال اللازمة. أسفر التمويل الأولي المبكر عن كسب مجموعة متنوعة من تدفقات الدعم بالفعل، وذلك استناداً إلى النظرية القائلة بأن إطلاق بعض البرامج البارزة والفعالة قد تجذب الدعم الفردي والمؤسسي. ويُعتبر هذا النوع من التمويل الهجين نموذجياً بالنسبة للعديد من المراكز المتعددة التخصصات الأخرى في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

واستلزمت استراتيجية بناء القدرات إجراء استثمارات أولية من أموال مودعة لحسن التصرف خارج نطاق مكتب الرئيس، وتأييد مبادرة الابتكار الاجتماعي من قبل الرئيس كوين. حيث كان له ولمساعده المسؤول عن تطوير مبادرات الابتكار الاجتماعي دوراً فعالاً في تحديد سلسلة من المانحين الأفراد والمؤسسات الذين كان لهم الفضل في تمويل كل مرحلة من مراحل التطوير على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية. فقد جلبت الظروف التي أعقبت إعصار كاترينا مزيداً من الاهتمام لأوجه اللامساواة الخطِرة في مدينة نيو أورلينز. واستجاب الأفراد والمؤسسات لذلك الوضع الطارئ إيماناً منهم بقدرة جامعة تولين على إحداث تأثير كبير في المدينة. ومن بين الأمثلة المبكرة للدعم الخيري الكبير هِبة بلغت تكلفتها عشرات الملايين من الدولارات لتأسيس كرسي مايكل ساكس للمشاركة المدنية والريادة الاجتماعية. وهو المنصب الذي شغله مدير إدارة مركز فيليس تايلور، الذي تدعم عائداته مدير الإدارة والمركز بأكمله.

كما مثّلت الهِبة التي قدّمتها فيليس تايلور والبالغة 15 مليون دولار في عام 2014 (المدفوعة على مدى 5 سنوات) الأساس المالي لهذه المؤسسة على مستوى الجامعة. حيث حددت بصفتها عضواً في مجلس أمناء جامعة تولين إمكانات تطوير العمل المتعدد التخصصات الذي يركز على التغيير الاجتماعي. كما أدركت وجود العديد من نقاط القوة غير المترابطة في جميع الكليات العشر في جامعة تولين. ثم تأسس المركز في النهاية وجرى تعيين كينيث شوارتز بصفته مدير الإدارة المؤسس وعميد كلية تولين للهندسة المعمارية. حيث عمل وآخرون على تحقيق رؤية السيدة تايلور الأولية للمركز.

وألهمت هذه الهبة المانحين الآخرين للمساهمة في مهمة النهوض بالتغيير الاجتماعي الإيجابي، كخريجي جامعة تولين وأولياء أمور طلابها ورجال الأعمال والمؤسسات. ويمتلك مركز فيليس تايلور للابتكار الاجتماعي والتفكير التصميمي اليوم أمواله التشغيلية الخاصة، في حين تتأتى 10% من أمواله من الإدارة المركزية. وتخصص الجامعة مساحة عمل للمركز في الحرم الجامعي، ودعماً إدارياً واسعاً من خلال مكتب الموارد البشرية ومكتب المستشار العام ومكتب التطوير. حيث يعمل مكتب التطوير مع المركز على تحديد شركاء جدد يمكنهم دعم العمل المؤثر للطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية الذين يعملون بالتنسيق مع مركز تايلور.

غمرت المياه كل الأرجاء

كان إعصار كاترينا فريداً، فإلى جانب ما يقرب من 2,000 شخص فقدوا حياتهم في جنوب الخليج، وباعتبار أكثر من نصف تلك الخسائر في مدينة نيو أورلينز وحدها، تكبّدت المدينة أضراراً جسيمة أيضاً في الممتلكات، وتعرضت جامعة تولين نفسها لأضرار جسيمة.

ومع ذلك، تمثّل ثقافة التعاون والمسؤولية الاجتماعية المنتهجة، وضرورة إعادة التفكير في أثناء إعادة الإحياء موقفاً يمكن للعديد من الكليات والجامعات أن تحذو حذوه، خاصة الآن. فالتهديدات البيئية الناجمة عن التغير المناخي العالمي، والأزمات الاجتماعية المرتبطة بالتباين الاقتصادي، وجائحة كوفيد-19 مؤخراً، تدفع العديد من المؤسسات بالفعل إلى تركيز جهود التدريس والبحث على الاستجابة المباشرة لتلك التحديات. وتمثّل استجابة جامعة تولين لتحدياتها منذ 15 عاماً في الماضي، ونهج تطورها خلال تلك الفترة مثالاً مفيداً، على الرغم من اختلاف مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة في عدة عوامل، بما فيها نوع الكلية أو الجامعة، والقوى الثقافية والتقليدية، والبيئة المحلية والإقليمية والحجم والوضع المالي، وأعضاء الهيئة التدريسية والطلاب، وغير ذلك.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي