كيف يؤثر إدراك “القيمة الحقيقية” للغذاء في تشجيع الابتكار بجميع القطاعات؟

الأنظمة الغذائية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إن تحديد العوامل الخارجية المضرة في الأنظمة الغذائية يتيح إحداث التغيير في قطاعات متباينة مثل المناخ والصحة العامة والحد من الفقر.

أفضل الحلول التي يقدمها القطاع الاجتماعي هي الحلول التي تعالج عدة تحديات في آن واحد. يمس تحول الأنظمة الغذائية العديد من الأزمات العالمية المختلفة مثل المناخ والصحة والتغذية وتقرير المصير الاقتصادي، وحتى جائحة “كوفيد-19”. ومع ذلك، كانت التعاونيات والمبادرون الاجتماعيون وصغار المزارعين والوكالات الحكومية تسير في طريق شائك في أثناء سعيها لبناء أنظمة غذائية مستدامة وصحية على مدى عقود. نتنافس في سوق متحيزة دوافعها مضلِّلة، تنتج أغذيةً بأرخص أسعار ممكنة، مهما كانت تداعيات ذلك على المناخ أو الصحة أو حقوق العمال، أو التوزيع العادل.

يساعد نهج “محاسبة التكاليف الفعلية” (TCA) على تحقيق تكافؤ الفرص، فضلاً عن أنه يثبت مفهوم يفيد بأن تحول الأنظمة الغذائية يسرع التقدم في معالجة مجموعة من التحديات العالمية. ومحاسبة التكاليف الفعلية هي نهج لصناعة القرار، يسجل الآثار الإيجابية والسلبية للأنظمة الغذائية على الاقتصاد والبيئة والمجتمع، وترجع أصوله إلى الاقتصاد البيئي الذي ظهر في السبعينيات، وهو يوسع أنظمة المحاسبة الاقتصادية التقليدية بهدف تحديد العوامل الخارجية التي تتضمن تحليل التكلفة والفائدة.

مع تزايد الوعي بالحاجة إلى قياس وحساب التكاليف الخفية لمجمَل أنظمتنا الغذائية، أصبح من الممكن حساب تكلفة الغذاء وقيمته الفعليتين، وهو نهج لصنع السياسات والأعمال قادر على أن يوسع نطاق الأثر ويشجع الابتكار في مختلف القطاعات. ما تعلمناه خلال 10 سنوات من عملنا على تطوير نهج محاسبة التكاليف الفعلية، ومن تقييمنا لمبادرات الأنظمة الغذائية حول العالم، هو أن التحول بدأ يحدث بالفعل، ونهج محاسبة التكاليف الفعلية هو أداة لإبرازه.

لا يمكنك حساب ما لا تقيسه

تعد الأنظمة الغذائية الصناعية من المسببات الرئيسية للتغير المناخي، وتدمير الموطن، وخسارة التنوع البيولوجي، وتشريد السكان الأصليين، والأمراض، والعبء المضاعف لسوء التغذية. يؤدي إنتاج الغذاء في أجزاء كثيرة من العالم مباشرةً إلى الصراع والفقر وسوء معاملة العمال. لكن مثل هذه العوامل الخارجية غير محسوبة غالباً لأنها تعد “تكاليف”. أظهر تقرير حديث أجرته مؤسسة “ذا روكفلر فاونديشن” (The Rockefeller Foundation) أن تكلفة العواقب الصحية والمناخية للنظام الغذائي الأميركي تزيد بثلاث أضعاف على تكلفة إنتاج الغذاء. قدّرت ورقة بحثية أعدتها اللجنة العلمية التابعة “لمؤتمر الأمم المتحدة للأنظمة الغذائية” (UNFSS) أن العوامل الخارجية الحالية للأنظمة الغذائية تبلغ (19.8 تريليون دولار)، أي حوالي ضعف القيمة الإجمالية الحالية للاستهلاك الغذائي العالمي (9 تريليون دولار).

لا تزال الحكومات والشركات والهيئات الاقتصادية والحكومية العالمية في بداية تتبع هذه التكاليف. ولا تزال أكثر المقاييس المعتمدة لقياس إنتاج الغذاء حول العالم هي الحجم والسعر: حجم المحصول في كل فدان وسعر كل وحدة. لا يمكنك حساب ما لا تقيسه: إذا لم تؤخذ العوامل الخارجية السلبية للأغذية غير المستدامة وغير الصحية والصناعية أو فائقة المعالجة في الحسبان عند صناعة القرار، فلا يمكن للمبتكرين وصناع التغيير التنافس أبداً. سيستمر طرح المناهج القديمة ذاتها. سيستمر تعزيز التداعيات السيئة على حين لن تتمكن الممارسات الأفضل والأقل ضرراً من الازدهار.

أداة لتتبُّع التغيير

نحتاج إلى وضع أطر عمل لمساعدتنا على التفكير بأسلوب منهجي أكثر. يمكن توظيف الإدراك الكامل للروابط بين البشر والبيئة والأنظمة الغذائية – إضافةً إلى التأثير المضاعف لهذه الروابط على الصحة والرفاه والعدالة الاجتماعية وسبل العيش – لتحقيق آثار إيجابية أكثر من أي وقت مضى في الأنظمة الغذائية والاستدامة بمجملها. يوفر نهج محاسبة التكاليف الفعلية هذا الفهم الشامل للعلاقات بين الزراعة والغذاء والبيئة ورفاه الإنسان. يوفر نهج محاسبة التكاليف الفعلية أسلوباً منهجياً لتقييم جميع العوامل الخارجية للأنظمة الغذائية وقياسها وتقديرها، بما في ذلك آثارها الإيجابية والسلبية، وتستخدمه بالفعل عدد كبير من البلدان والمؤسَّسات والشركات.

النتائج واعدة بالفعل. فقد أجرت مؤسساتنا على مدى ثماني أشهر دراسةً مستفيضةً بالتعاون مع ستة ممثلين متنوعين عن الأنظمة الغذائية من جميع أنحاء العالم، مع تطبيق تقييم لنهج محاسبة التكاليف الفعلية في كل مبادرة. ركز التقرير المعنون بـ “القيمة الحقيقية: الكشف عن الآثار الإيجابية لتحول الأنظمة الغذائية” على البيانات النوعية المتنوعة لكل مؤسَّسة. شُجعت المؤسسات الستة على الاستعانة بغير نهجهم وبياناتهم التقييمية المعتادة وعلى التفكير في عملهم بأساليب أشمل ومنهجية أكثر من أي وقت مضى. أظهر التقرير منافع جمّة، من لاغوس وزامبيا والفلبين إلى ملاوي والهند والأميركيتين، شملت تعاونيات المزارعين وبنوك الغذاء والوكالات الحكومية والباحثين والمؤسَّسات الاجتماعية، وهي: انخفاض التكاليف الصحية بسبب انخفاض أعباء الأمراض نتيجة تقليل استخدام المبيدات الحشرية، وتحسين غلة المحاصيل نتيجة إعادة إدراج المعارف التقليدية وممارسات الزراعة الإيكولوجية الزراعية، وزيادة الأمن الغذائي المحلي بفضل مشاركة أصناف البذور الأصلية من خلال بنوك البذور، ومساعدة المزارعين على التكيف مع المناخ المتغير وتحقيق الاستقلال المالي عن طريق الابتعاد عن الأسمدة الاصطناعية.

لا تسجَّل هذه التداعيات في سوق يحدده حجم المحصول في كل فدان وسعر كل وحدة. إذ لا نلاحظها إلا عندما نراها من منظور “القيمة الحقيقية”.

قصة هذه التداعيات ليست تجريدية، فالنسبة المئوية هي كمية الغذاء المتزايد لدى المزارعين المشاركين في مبادرة “الزراعة الطبيعية التي يقودها المجتمع” (Community Managed Natural Farming Initiative) في الهند، التي ساعدت 86% من المزارعين على تحسين ظروفهم المعيشية وخفض الانبعاثات بنسبة 55%.والقيمة 426.656.078 بالدولار: هي القيمة الإجمالية لممارسات الزراعة المستدامة التي تضطلع بها مؤسَّسة “كوماكو” (COMACO)، وهي مؤسسة اجتماعية في زامبيا تدعم المجتمع المحلي في تبني الزراعة الحراجية، ووضع حد للصيد الجائر، ومعالجة مشكلة انعدام الأمن الغذائي. أتاح نهج محاسبة التكاليف الفعلية لبنك الغذاء في لاغوس فهم أثر برنامج المتطوعين الذي أطلقه فهماً أعمق. وقد ساعدت شبكة “ماسيباغ” (MASIPAG) في الفلبين على تتبع وفهم التأثيرات الإيجابية لعملية صناعة القرار الجماعية والملكية المحلية في المجتمعات الزراعية.

تعد معايير التقدم الأكثر منهجيةً هذه محوريةً لنجاح هذه المبادرات وتحقيق أثر اجتماعي واقتصادي. لكن إذا لم تطرح السؤال، فلن تتلقى الإجابة.

مناقشة القيمة الحقيقية

كان هذا النهج موضوعاً للنقاش، ربما هذا ليس مستغرباً، نظراً للتحول الجذري الذي يمثله بعيداً عن النموذج القائم على الأرباح بالكامل الذي نقيس من خلاله عادةً “النجاح” في الزراعة والأنظمة الغذائية ونفهمها. تؤدي الزراعات الكبيرة أداءً ضعيفاً وفقاً للمقاييس الاجتماعية والبيئية والإنسانية. على سبيل المثال، في مقال حديث نشرته منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي (SSIR) بعنوان “المحاسبة البطولية” (Heroic Accounting)، أثار “أندرو كينغ” و”كينيث بَكر” عدة مخاوف حول نهج محاسبة التكاليف الفعلية والقيمة الحقيقية. لكن ارتيابهم واسع النطاق يتجاهل إلى أي مدى سبق ومكنت “التكلفة الحقيقية” والنهج ذات الصلة بها المؤسسات الاجتماعية من النمو والتوسع. ونود أن نؤكد أن وصف نهج محاسبة التكاليف الفعلية بأنه “بطولي” أمر مضلل: إذ تقوم محاسبة التكاليف الفعلية على النهوض بعملية صناعة قرار متكاملة ومبنية على الأنظمة وتمثيلية وتشاركية وعادلة.

بدأ “أندرو” و”كينيث” بالزعم أن “محاسبة الأثر” تتطلب صناعة قرار مركزية وتقديراً مرهقاً، وفي النهاية ستبقى عمليةً لا يمكن التحقق منها. لكن إطار تقييم “تيباغريفود” (TEEBAgriFood) في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قيد الاستخدام بالفعل في أكثر من 80 دولة في جميع أنحاء العالم، ما يبدد هذه المخاوف. وتوجد العديد من الأطر والأدوات الأخرى المتاحة قيد التنفيذ لدعم هذا النوع من “محاسبة الأثر”، من الأرقام القياسية إلى مصادر البيانات المفتوحة. إن أعمال التنسيق التي تنفذها مجموعة متنوعة من المناصرين وأصحاب المصلحة وأوساط الممارسين جارية بالفعل للتعاون في وضع الإرشادات والتوحيد القياسي والمقاييس الواضحة. ويمكن أن تؤدي محاسبة التكاليف الفعلية مهمتها مثل أي عمل آخر أو أداة لصنع السياسات.

الأمر المثير للقلق أكثر هو النقاش – سواءً في مقال “المحاسبة البطولية” أو في مقال نشرته “مجلة نيتشر” مؤخراً – بأن محاسبة التكاليف الفعلية” تضعف القوة الاقتصادية للاختيار الفردي”، وأن “الخيار المركزي”، على حد تعبيرهم، يضعف قدرة اختيار المستهلك على صياغة السوق.

رداً على ذلك، قد نجادل في أن الخيار الفردي للغذاء ليس ظاهرةً عالميةً. لا يرجع الجوع وسوء التغذية إلى الخيار، بل إلى القوة الاقتصادية وإمكانية الوصول. لا يملك الناس غالباً مالاً كافياً لشراء طعام صحي، على حين أن البيئات الغذائية هي السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تحدد مدى سهولة الوصول إلى هذا الغذاء، واستحسانه، وملاءمته وتكلفته المعقولة. علاوةً على ذلك، يحجب نهج المحاسبة المتبع حالياً تداعيات إنتاج الغذاء الصناعي على المناخ، وآثاره الخفية على الصحة العالمية. إذا كشفت الشركات عن آثارها على المناخ والطبيعة، يستطيع المستهلكون والمستثمرون وصناع القرار فهم الأثر الحقيقي الكامل الذي تحدثه الشركة، واتخاذ القرار بأنفسهم.

تتيح إحدى الشركات الرائدة لعملائها فعل ذلك. فشركة “إيوستا” (Eosta)، إحدى أكبر مستوردي ومعلبي وموزعي الفواكه والخضروات المستدامة والعضوية والخاصة بالتجارة العادلة في أوروبا، تستخدم أداة تقييم الاستدامة لمراقبة أداء المزارعين مقابل المؤشرات البيئية والاجتماعية. أطلقت شركة “إيوستا” في عام 2017 حملة “التكلفة الفعلية للغذاء”، التي قيّمت سعراً وأرفقته لمقارنة الزراعة التقليدية بالزراعة العضوية. “اشترِ تفاحاً عضوياً ووفر 27 إجازةً مَرضيةً (لكل هكتار وفي كل سنة)”، هذا ما جاء في إعلان الحملة اللعوب الذي ظهر فيه مستهلك للبقالة يحاول الوصول إلى تفاحة من سريره في المشفى. عندما انتشرت الجائحة، وضعت هذه الشركة سياسة “الأجر المعيشي” لإدراكها مدى أهمية ذلك في تعزيز المرونة في جميع سلاسل توريدها.

حققت الحملة نجاحاً كبيراً، إذ أنها زادت الحصة السوقية للشركة وحسنت تموضع علامتها التجارية وتمكنت من تثقيف ملايين المستهلكين.

كيف نمضي قدماً؟

إن تقييم هذه التكاليف الفعلية للأنظمة الغذائية حتى نتمكن من تخفيف العوامل الخارجية المضرة وتنمية العوامل الخارجية الإيجابية ليس بالأمر الهين. إنه تحول ضخم في الوضع الصناعي الراهن، وعلى هذا النحو، سيكون أمراً سيقف في وجهه أصحاب المصالح الشخصية في استمرار الطريقة الحالية المتبعة في ممارسة الأعمال. لكنه أمر ضروري إذا أردنا التقدم في قضايا المناخ والغذاء والصحة وغيرها من القضايا ذات الأهمية العالمية.

توفر محاسبة التكاليف الفعلية سبيلاً قوياً للمضي قدماً في قطاع المؤسسات الاجتماعية، نظراً لأنها فرصة لدمج المحاسبة الاقتصادية والطبيعية والاجتماعية والإنسانية في إطار موحد. تنتشر أطر عمل جديدة لتقييم تكلفة أو قيمة أو أثر الأنظمة الغذائية، نتيجةً لعجز الأساليب القديمة عن قياس التقدم. ومع ذلك، لم تُنشَأ جميع المناهج متساويةً.

إن أكبر مشكلة في التطبيق الكامل لمحاسبة التكاليف الفعلية هي تحقيق إجماع عالمي حول احتياجات هذا التطبيق ومعاييره. كانت الحكومات حتى الآن غائبةً فعلياً عن مشهد محاسبة التكاليف الفعلية. على الرغم من اتفاقها على أطر عمل للتنمية الوطنية مثل أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، فإن التحرك نحو تحقيق الأهداف لا تزال تقيده الهيكليات المؤسَّسية القديمة.

التقدم يحدث فعلياً

أسفرت القمة الأولى للأنظمة الغذائية التي نظمتها الأمم المتحدة وأقيمت في سبتمبر/أيلول عن تحالف عالمي – لم يصبح التزاماً بعد، بل خطوةً أولى – للمضي قدماً في اتباع نهج محاسبة التكاليف الفعلية على نطاق عالمي. توصلت دراسة في ألمانيا أجرتها الوزارة الفيدرالية للبيئة إلى أن نهج محاسبة التكاليف الفعلية زاد الدعم للزراعة الإيكولوجية والزراعة المستدامة. نتج عن دراسة في السويد أجرتها مبادرة “اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي” (TEEB) اعتماد الحكومة لمشروع قانون حول استراتيجية سويدية لتعزيز التنوع البيولوجي وخدمات المنظومة البيئية، الذي أقره البرلمان في عام 2014.

هذه علامات ملهمة ومهمة وضرورية للتقدم. وقد أظهرت الجائحة في الفترة الممتدة بين عامي 2020-2021 قدرتنا الجماعية على التغيير واتخاذ إجراءات عاجلة. يُظهر بحثنا أن دور مبادرات الأنظمة الغذائية حول العالم محوري في هذا العمل، فهي تغذي المجتمعات وترتقي بها بالتوازي مع تعزيز المرونة الاقتصادية والاجتماعية. فعملها وأثرها الإيجابي مهم ويغذي العالم بأسره.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.