تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الثاني من سلسلة "إعادة النظر في مفهوم الاقتصاد الاجتماعي" والتي تحدثنا في جزئها الأول عن مفهوم الاقتصاد الاجتماعي وكيف يُنظر إليه بوصفه محركاً للتغيير الاجتماعي. أما اليوم في هذا المقال فسوف نتحدث عن مفهوم الاقتصادي الاجتماعي بوصفه بيئة عمل وبوصفه عامل تغيير وشريك شركات ومؤسسات تدعم هذا الاقتصاد.
مفهوم الاقتصاد الاجتماعي بوصفه بيئة عمل
في السنوات الأخيرة ازدادت شعبية التفكير المنظومي بوصفه طريقة يمكن للمؤسسات من خلالها إحداث تغيير اجتماعي. ومع ذلك، فإن هذه المحاولات تبوء بالفشل عند التفكير بالعقلية الهندسية التي تنظر للأمور من منظور ضيق وتهدف إلى تنفيذ تغييرات تدريجية بدلاً من تغييرات عميقة وجذرية.
تزداد فعالية التفكير المنظومي عندما يتبنى الأشخاص منظوراً أوسع نطاقاً وأكثر طموحاً ويستخدمون المعرفة السياقية ويحاولون دفع عجلة التغيير الاجتماعي. ويمكن تعزيز هذا النوع من التفكير من خلال النظر في العلاقة بين الاقتصاد الاجتماعي والتوجهات المجتمعية الأوسع نطاقاً مثل الرقمنة، وتقبُّل الأسواق المالية لمقاييس التأثير الاجتماعي، والعمليات الجديدة التي تهدف إلى حشد المواطنين مثل التعهيد الجماعي.
في أثناء عملية الابتكار في نموذج العمل، العديد من الأدوات المتاحة لإحداث تغيير في النُظم، مثل "مخطط نموذج العمل الاجتماعي"، تُعد مجرد فوائد عرضية متأتية من العالم التجاري ولا تتبنى التغيير الاجتماعي بشكل كامل. والأدوات التي لا تركز كثيراً على فرادى المؤسسات وبدلاً من ذلك تلقي نظرة شاملة على عملية حل المشكلات الاجتماعية، مثل "مخطط الاقتصاد الاجتماعي" الخاص بالمفوضية الأوروبية، آخذة في الظهور ولكنها لا تزال متاحة فقط في صيغة تجريبية. وما يجعل هذا الأمر أكثر صعوبة في التنفيذ هو التغييرات السريعة في التكنولوجيات الرقمية وتفاقم المشكلات الاجتماعية، ما زاد من السرعة التي تحتاج بها الجهات الفاعلة في الاقتصاد الاجتماعي إلى تكييف استراتيجياتها.
توفر البيانات المفتوحة والرقمنة والذكاء الاصطناعي أدوات فعالة لإجراء هذه التغييرات والتعديلات ببراعة، ولكن بينما تنمو سوق "التكنولوجيا من أجل الصالح الاجتماعي" يشير العديد من هذه النماذج إلى المؤسسات التي تخلق أيضاً قيمة للمجتمع. تُعد أمثلة المؤسسات التي تطبق التكنولوجيا الاجتماعية بشكل صريح لحل المشكلات الاجتماعية بشكل أكثر فعالية، نادرة للغاية. فما يمكن أن يحسن توظيف التكنولوجيا من أجل خلق قيمة اجتماعية هو جهود مختلف أصحاب المصلحة المبذولة على نطاق واسع والقادرة على بدء عمليات ابتكار اجتماعي مفتوح. لسوء الحظ، تتطلب الأدوات المستخدمة في تعزيز هذه الجهود، مثل تنظيم هاكاثونات للمواطنين، موارد ضخمة وقد تعاني من ضعف الإقبال وإضفاء الطابع المؤسسي على الحلول التي تم التوصل إليها.
يتمثل أحد العوائق التي لا تزال تحول دون اتباع نهج التفكير المنظومي حيال المشكلات الاجتماعية في نقص الموارد المالية اللازمة لنقل هذه الحلول ونشرها وتوسيع نطاقها. فبينما تنمو أسواق التمويل الاجتماعي والمستدام مثل الاستثمار المؤثر، كثيراً ما يكون هناك افتقار إلى خلق قيمة مشتركة وتعاونية للمستثمرين المؤثرين والجهات المتلقية للاستثمارات المؤثرة. وأحد أسباب ذلك هو الأفكار المتعارضة أو غير المتطورة حول كيفية قياس التأثير الاجتماعي والإفادة به، ما يؤدي إلى عدم التوافق بين الآمال المفترضة في المساهمة بأن يكون العالم أفضل من خلال إحداث ثورة في التأثير والتأثيرات الفعلية التي مُنحت الأولوية وتحققت.
مفهوم الاقتصاد الاجتماعي بوصفه عامل تغيير
بينما يعد التفكير من منظور النُظم طريقة مهمة لإحداث تغيير دائم وعميق، من المهم بنفس القدر أن يضع الاقتصاد الاجتماعي حلولاً غير مباشرة للمشكلات التي لا تكون واضحة دائماً وبالتالي يتم تجاهلها في كثير من الأحيان. فالاقتصاد الاجتماعي لا يُجري التحسينات الضرورية للمجتمع فحسب، بل يمكن أيضاً أن يكون بمثابة منارة يسترشد بها الآخرون، سواء كانوا من الجهات الفاعلة في مجال الأعمال التجارية أو واضعي السياسات الذين يتم تشجيعهم على إعادة تقييم ممارساتهم الراسخة وتنقيحها.
تعزز المؤسسات الاجتماعية، على سبيل المثال، مبادئ معينة في الهيكل التنظيمي (مثل التسلسلات الهرمية المسطحة واللامركزية) والممارسات التنظيمية (مثل المشاركة في صنع القرار)، وبالتالي فهي بيئة مثالية للاختبار وتربة خصبة لتحقيق أكبر قدر من الديمقراطية في العمل والحياة في المؤسسات. وتُعد المؤسسات الاجتماعية أيضاً محركاً للشمول. إذ تُشير الاستقصاءات الوطنية الأخيرة إلى أن ما يصل إلى 50% من رواد الأعمال الاجتماعيين من الإناث، ما يُظهر واقعاً لا يسع القطاعات الأخرى إلا أن تحلم به.
أوجد الاقتصاد الاجتماعي أيضاً عمليات ابتكار تآزري وإجراءات مشتركة مدفوعة بالقيمة يمكن أن تكون بمثابة نموذج للآخرين. لنأخذ على سبيل المثال الحركة التصاعدية "كتاليست 2030" (Catalyst2030) التي تهدف إلى تسريع التحولات في النُظم باستخدام المبدأ التوجيهي للتنظيم الذاتي. ويركز أحد أنشطتها بشكل صريح على تسخير معرفة مؤسسات التعليم العالي التي اكتسبتها من خلال البحث والتدريس لدعم بناء القدرات ونشرها في القطاعات الأخرى مع التوصل إلى مزيد من الأنشطة التي تعد بإحراز تقدم أكبر صوب تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
تبرز خطة العمل الأوروبية المرتقبة بشأن الاقتصاد الاجتماعي القطاع الاجتماعي بوصفه منارة لإرشاد الآخرين في فترة التعافي من جائحة "كوفيد". وقد جادل بعض المؤلفين بأن الاقتصاد الاجتماعي هو المجال المُنتِج الذي نجد فيه القيم الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية وممارسات التضامن التي يجب أن يُبنى عليها السوق والدولة. واستخدم آخرون هذا المصطلح للدعوة إلى إحداث تحول اجتماعي في اقتصادات السوق العالمية لكي تسترشد بقوة أكبر بمبدأ التضامن. في الواقع، التقارير بشأن الإجراءات ذات الصلة بالاقتصاد الاجتماعي التي اتخذت في أثناء أزمة "كوفيد" لم توضح أوجه القصور في القرارات الاستراتيجية التي اتخذها قطاع الأعمال فحسب، ولكنها أيضاً قدمت مثالاً يمكن أن يحتذي به قطاع الأعمال.
نظراً إلى تمسك مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي بمبدأ التضامن في جميع أنشطتها، يُنظر إليها على أنها حماة النمو الشامل، على عكس جداول الأعمال العامة للنمو الذكي في دول الغرب. وهي أيضاً محركات لعمليات الابتكار الاجتماعي في الدول النامية التي تمكّن التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتكاملة، لا سيما من خلال الاستفادة من الروابط القوية بين مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي وفئاتها المستهدفة.
مفهوم الاقتصاد الاجتماعي بوصفه شريكاً
لا يمكن تحقيق كامل إمكانات الاقتصاد الاجتماعي إلا إذا أمكن إقامة شراكات بين مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والشركات ومؤسسات الدولة. إذ تُعد الشراكات ذات أهمية خاصة لتعميم الممارسات المبتكرة من أجل دفع عملية الابتكار الاجتماعي إلى الأمام. وبما أن مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي غالباً ما تكون الجهات الرئيسية المبادرة بالابتكارات الاجتماعية، يمكنها الاستفادة من الموارد الهائلة للشركات ووضع السياسات والشرعية السياسية للدولة.
تستخدم المبادرات الحكومية الوطنية، مثل "لو فرنش إمباكت" (Le French Impact) أو "برتغال إنوفساو سوشيال" (Portugal Inovacao Social)، الأموال العامة لبناء مثل هذه الشراكات على أمل تحقيق نتائج أفضل. تؤدي سندات التأثير الاجتماعي وظيفة مماثلة، وإن كانت على نطاق أصغر، فهي تعد بتعزيز طرق للابتكار تنطوي على قدر أكبر من المخاطرة وتحفيز التجريب في تقديم الخدمات الاجتماعية. ومبادرات الشراء الاجتماعي، التي لا تدعو فقط إلى تنفيذ معايير موجهة نحو القيم في المشتريات العامة والمؤسسية ولكنها أيضاً تشجع على خلق قيمة اجتماعية، تسلط الضوء على توجه مماثل.
لا تبرز المنصات الشبكية المفتوحة، التي تُشرك مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة، أفضل الممارسات على أمل أن يتبناها الآخرون فحسب، ولكنها تجعلها أيضاً متاحة للجهات الفاعلة الأخرى للاستخدام المشترك والتعاوني بالإضافة إلى مواصلة تطويرها. يقدم هذا النهج طريقة لنشر النُهج المبتكرة اجتماعياً بسرعة أكبر وعلى نطاق واسع مما هو ممكن عند محاولة نشر جهود مؤسسة واحدة على نطاق واسع.
الطريق نحو المستقبل
خلال الأسابيع المقبلة، ستقدم سلسلة "منظورات أوروبية حول مفهوم الاقتصاد الاجتماعي الناشئ" إسهامات من مجموعة متنوعة من الباحثين والممارسين الأوروبيين حول المنظورات الثلاثة التي طرحناها هنا. ولن يقتصر اهتمام المؤلفين على تحليل ما يحدث حالياً في كل من هذه المجالات الثلاثة. ستركز هذه المقالات أيضاً بشكل صريح على تقديم رؤية مستقبلية لهذه المجالات والاستراتيجيات التي ستساعد الاقتصاد الاجتماعي على الإسهام في تشكيل اقتصاد أفضل وجعل المجتمع أكثر قدرة على الصمود والتكيف.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.