ستساعدنا مراكز التفكير في تمهيد الطريق نحو إنشاء دولة يسودها العدل والمساواة والشمول بدرجة أكبر إذا قمنا بتحديث مفهومنا عن الخبرات، وأعدنا النظر فيمن يقودون تغيير السياسات، وأعدنا تصميم طرق تطوير السياسات.
نحن في خضم عملية إعادة تنظيم ضخمة لعملية وضع السياسات، فبعد أن شهدنا جائحة رسمت معالم هذه الحقبة وشكلت بحدّ ذاتها أساساً تعتمد عليه الأجيال التي لا تزال قيد الإنشاء لمحاسبة المسؤولين المنتخَبين على التحيز العنصري، بدأت حقبة الاعتماد على التغييرات التدريجية في السياسات بالانحسار وإفساح المجال لتلبية المطالب الشعبية الواسعة بإجراء تغيير هيكلي. لكن الحاجة إلى التطور لا تقتصر على المسؤولين المنتخَبين، فمع تكيّف بيئة السياسات الأوسع مع عالم ما بعد 2020، لا بدّ لمراكز التفكير من تغيير النهج الذي تتبعه أيضاً مع سعيها لتوفير الركيزة الفكرية اللازمة لتعديل السياسات من خلال إجراء الأبحاث وتحليل البيانات وتقديم التوصيات المبنية على الأدلة.
قد تكون مراكز التفكير أبطأ في عملية التكيف بسبب تحيزها القديم فيما يتعلق بما يؤهل شخصاً ما ليصبح "خبيراً" في السياسات؛ إذ جرت العادة على أن يتم تقييم مؤهلات الأفراد بناء على تحصيلهم العلمي وشهاداتهم العليا، وهذا يعني أنّ مراكز التفكير تمنح الأولوية غالباً للمؤهلات الأكاديمية على حساب الخبرات العملية أو المهنية المكتسبة على أرض الواقع. تؤدي تفضيلات التوظيف هذه بمفردها إلى استبعاد العديد من الأشخاص من النقاشات التي تحدد مسار حياتهم؛ فإذا كانت مراكز التفكير تتطلع إلى توظيف أشخاص حائزين على شهادة الماجستير في مناصب بحثية وسياسية على المستويين المتوسط والأعلى، فلن تضمّ قائمة المرشحين لشغل هذه المناصب أكثر من 4% من اللاتينيين و7% من أصحاب البشرة السمراء الذين يحملون هذه الشهادات (بمقابل 10.5% من البيض أو 17% من الآسيويين وسكان جزر المحيط الهادئ). وفي المجالات التخصصية التي تعين منها غالبية مراكز التفكير خبراءها، مثل مجال الاقتصاد، تحصل النساء ذوات البشرة السمراء على نسبة 0.5% فقط من شهادات الدكتوراة كل عام.
لا تستطيع مراكز التفكير وحدها أن تغير القوى الثقافية والمجتمعية الكبرى التي قيّدت الوصول إلى مجالات معينة على مرّ الزمن، لكنها تستطيع تغيير ممارساتها، أي الطرق التي تتبعها في تقييم الخبرات واختيار خبراء السياسات الذين توظفهم وتعمل على تطويرهم، وبذلك ستحثّ قطاع السياسات الأشمل ليحذو حذوها، وهذا يشمل الجهات المانحة الحكومية والخيرية. لأنه في حين يقيم الجيل التالي تظاهرات في الشوارع ويسعى إلى الترشح للمناصب، لا يبذل قطاع السياسات العامة جهداً كافياً لضمان التنوع الاجتماعي في مجموعة الخبراء الذين يطورون السياسات ويجرون الأبحاث عليها وينفذونها ويطبقونها ودعمها، كما أن استبعاد المجتمعات المعنية من عمليات صناعة القرار يجعل نظامنا الديمقراطي أقل شمولاً ويضعف قدرته على التجاوب وفعاليته.
قبل عامين، عملت مع زملائي في مؤسسة ذا سنتشري فاونديشن (The Century Foundation)، وهي مركز تفكير قائم منذ 100 عام مرّ بكثير من التحولات النوعية في عملية وضع السياسات، على إطلاق مؤسسة نيكست 100 (Next100) لتجربة نموذج جديد لمراكز التفكير. كانت مهمتنا بسيطة تتمثل في ضمان أن يكون واضعو السياسات هم أصحاب المصلحة الأكثر تأثراً بها، وأن يضعوها لصالح أصحاب المصلحة الأكثر تأثراً بها. عملنا بناء على قناعتنا بأن الاقتراب من المجتمعات التي تهدف السياسات إلى خدمتها سيجعل هذه السياسات أقوى، وكرّسنا موارد وجهداً بشرياً لدعم النظرية التي تنص على أن الأشخاص الذين يملكون خبرات عملية لا تقل كفاءتهم بوصفهم خبراء في السياسات عن أي شخص يحمل درجة الدكتوراة من إحدى جامعات رابطة اللبلاب (Ivy League). عززت الجائحة والنداءات المتصاعدة لتحقيق العدالة العرقية في العام الماضي إيماننا بالحاجة إلى اتباع خطة مدروسة لجعل عملية تطوير السياسات شاملة اجتماعياً، وفي حين يدرك الجميع الآن أن جائحة كوفيد-19 أبرزت أوجه التفاوت التاريخية الراسخة وساهمت في تفاقمها، فلم تُبذل جهود كافية للتحقق من أسباب نشوء هذا التفاوت أو رسوخه إلى هذه الدرجة، ويتمثل أحد أهم هذه الأسباب في الطرق المتبعة في وضع السياسات والأشخاص الذين يضعونها.
يجب أن تخضع بيئة وضع السياسات بأكملها إلى هذا التغيير كي يكون بإمكان عدد أكبر من مراكز التفكير إجراءه، تفضل الجهات الممولة التي تدعم مراكز التفكير عادة تحفيز تقديم التمويل إلى مجموعة تقليدية محدودة من الخبرات في وضع السياسات وتمنحها الأولوية، لكن على الرغم من أنها أبدت مؤخراً استعداداً أكبر لتقديم التمويل إلى من هم أقرب إلى مجالات التغيير الاجتماعي الأخرى فهذا التغيير لم يصل إلى المؤسسات التي تضع السياسات بعد. وعلى الرغم من تبدّل الظروف، تستمر عدة مؤسسات خيرية بفرض قيود على تمويل النفقات المؤسسية العامة، علماً أن هذه النفقات هي التي تدعم الاستثمار في تعيين أصحاب المواهب المتنوعة وتوظيفهم وتدريبهم.
فيما يلي 3 طرق تجعل مراكز التفكير أكثر قدرة على مواجهة أخطر التحديات في وضع السياسات من خلال إعادة تعريف الخبرات:
1. إصدار توصيات بالسياسات بناء على معلومات من المجتمعات المعنية
تتبع معظم مراكز التفكير نموذج التوظيف التقليدي، فتضم الباحثين الناشئين في مجال وضع السياسات إلى العمل تحت إشراف الخبراء الأقدم ليساهموا في تلبية أولويات المؤسسة الحالية فيما يتعلق بالأبحاث والسياسات. ومع أن هذا النموذج من التدريب المهني يؤدي إلى تشكيل مجموعة متناغمة من المواهب الشابة، فالمنضمون الجدد إلى قطاع السياسات يقضون قدراً كبيراً من أوقاتهم في المساعدة على تطوير أفكار غيرهم قبل أن يتمكنوا من العمل بناء على أفكارهم الخاصة. ماذا لو استغنت مراكز التفكير عن هذا النموذج وفكرت في توظيف أفراد ينتمون إلى المجتمعات الأكثر تأثراً بالسياسات ويرتبطون بها، ودرّبتهم ووفرت لهم المنبر الذي يستطيعون من خلاله إجراء التغيير الذي يرونه ضرورياً على السياسات؟
على سبيل المثال، نشأت روزاريو كيروز فياريال في الولايات المتحدة بصفة مهاجرة غير شرعية استفادت من القرار المؤجّل للمهاجرين الأطفال (DACA) (الذي يسمح بتأجيل قرار ترحيل الأطفال الذين دخلوا إلى البلاد على نحو غير قانوني مدة عامين قابلة للتجديد)، وهي اليوم مدرّسة ساهمت تجاربها في إثراء عملها في مؤسسة نيكست 100، وتركز على دعم أطفال الأسر المهاجرة، كانت تجربتها وصِلتها بهذه المجتمعات مصدراً لرؤى مهمة ساعدت المؤسسة على اكتساب ثقة المجتمعات التي يصعب الوصول إليها ولا يقل تأثرها بسياسات الدولة التي تحدد مسار حياتها عن المجتمعات الأخرى. عملَت روزاريو على ضم أصوات الآباء المهاجرين غير الشرعيين المكتومة غالباً إلى توصيات تحسين سياسات الدولة التي تؤثر في المهاجرين، وعملت على تصميم مشروعها بالتعاون مع مؤسسات مجتمعية موثوقة ضمت مجموعات مركزة في أربع ولايات، وحرصت على دعم اللغتين الإسبانية والكريولية (لغة هجينة نشأت من اتصال المهاجرين الأوربيين بالأميركيين من أصول إفريقية في المناطق الوسطى والجنوبية من القارة الأميركية) لمتحدثيها في جميع مراحل العمل، وكانت تراجع المشاركين في المجموعات المركزة كي تعرض عليهم العمل الذي تم إنجازه قبل نشره من باب التزامها بمسؤوليتها تجاه هذه المجتمعات. قدمت في مشروعها النهائي توصيات مبنية على تجارب واقعية عاشتها أسر المهاجرين غير الشرعيين، وهي فئة سكانية تصعب دراستها عن طريق تحليل البيانات.
من خلال توسيع مفهومنا عن الخبرات ستتمكن مراكز التفكير من استثمار موارد بكر تثري توصياتها وتعززها.
2. رسم مسار لاﺳﺘﻘﻄﺎب أصحاب المواهب المتنوعة يضيف وجهات نظر جديدة إلى نقاشات قديمة العهد
إذا أرادت مراكز التفكير حقاً أن توظف أشخاصاً مختلفين، فمن الضروري أن تغير أساليب استقطاب المواهب التي تتبعها؛ فإحداث تغيير جذري فيمن يضعون السياسات يتطلب استقطاب المرشحين الواعدين الذين لا يتطابقون مع قالب مدرسة السياسات العامة التقليدية، وذلك عن طريق الاستثمار والتفكير الإبداعي في عمليات التواصل والتوظيف، ومراجعة طلبات التقديم وعملية اختيار الموظفين، واتباع عملية مدروسة لإعداد الموظفين الجدد وتطوير مهاراتهم باستمرار.
من خلال التزامنا في مؤسسة نيكست 100 بتوسيع نطاق عملية التوظيف بفعالية لتشمل مجموعة واسعة من شبكات التوظيف، وتطوير عملية لتقديم طلبات التوظيف تتجنب على نحو مدروس عقبات معينة في التوظيف، مثل شرط حمل المتقدِّم شهادة جامعية، تمكنا من إرسال مجموعة متنوعة من طلبات التوظيف لنحو 750 متقدّم لبضعة شواغر في مؤسسة لم يسمع بها أحد؛ وأضاف 8 ممن نسميهم رواد السياسات في أول مجموعة وجهات نظر متنوعة ومجموعة تجارب عملية مختلفة بنوا عليها عملهم، إذ كان بعضهم مساجين ومشردين سابقاً ومهاجرين غير شرعيين، بالإضافة إلى لاجئ عراقي. لكن من المهم أن تنتبه المؤسسة إلى ضرورة تقديم الدعم لموظفيها الجدد بالاستثمار في تقديم برامج عالية الجودة لإعدادهم والاستمرار بتدريبهم وتطوير مهاراتهم، فهذه المجالات لا تحظى بالأولوية في قطاع مراكز التفكير للأسف.
خذ مثلاً طيف جاني الذي كان في السادسة عشرة من عمره عندما فرّ من بلده العراق إلى سورية بعد اختطاف والده، ووصل إلى أميركا في النهاية بصفة طالب أجنبي في كلية يونيون في مدينة نيويورك، بما أنه اضطر إلى التعامل مع نظام تأشيرة الدخول المعقد الذي يحدّ في كثير من الأحيان من قدرة الناس على تقديم مساهماتهم بأفكارهم الجديدة أو يضيعها تماماً، فقد تمثل هدفه من عمله لدى مؤسسة نيكست 100 في تغيير الرواية المعتادة عن المهاجرين، وتسليط الضوء على مساهماتهم الكبيرة في اقتصاد بلادنا ونسيجنا الاجتماعي، وعندما اتخذت حكومة الولايات المتحدة إجراءات لحظر دخول الطلاب الأجانب إلى البلاد في أثناء جائحة كوفيد-19، أثبت طيف بعمله جدوى استقبال هؤلاء الطلاب في البلاد بالفعل بدلاً من منعهم من دخولها.
وكذلك الأمر بالنسبة لإيزابيل كورونادو رائدة الأعمال في مجال السياسات بمؤسسة نيكست 100، وهي مواطنة تعود أصولها إلى شعب مسكوكي كريك من السكان الأصليين، إذ استندت إلى تجربتها في نشأتها مع أم سجينة في عملها على إعادة صياغة العدالة الجنائية على اعتبارها إحدى القضايا المتعلقة بالأسرة؛ فنحو 3 ملايين طفل في الولايات المتحدة يقضون سنوات من حياتهم وأحد والديهم في السجن، ومعظمهم من السكان الأميركيين الأصليين وأصحاب البشرة السمراء واللاتينيين. أدى عمل إيزابيل الذي يركز على إمكانات أبناء المساجين الواعدة إلى تعزيز المساعي المبذولة لتعديل الأحكام القضائية التي تمنح الأولوية لحماية الأسرة من التفكك.
وبالنسبة لمراكز التفكير التي بذلت جهوداً على مدى عقود في سياسات معينة، مثل التعليم العام أو الهجرة أو تعديل العدالة الجنائية، سيساهم ضخ الأفكار ووجهات النظر الجديدة فيها في تحطيم العقبات القديمة وإبراز وسائل جديدة لإحداث التغيير.
3. تجاوز التقارير التقليدية
يعني تغيير من يضع السياسة تغيير طريقة وضعها أيضاً. في حين أن أساس مراكز التفكير ينطوي في معظمه على الكثير من الأرقام والكلمات التي تُجمَع بدقة في تقرير أو نشرة حقائق تتم مشاركتها مطبوعة أو ضمن ملف بصيغة بي دي إف (PDF)، فمن النادر أن تصل هذه المنشورات إلى الأشخاص الأكثر تأثراً بمناقشات السياسات.
انضم إلى مؤسسة نيكست 100 رجل يعمل حلاقاً ومنسقاً للأغاني (دي جيه) وناشطاً اسمه مايكل "زكي" سميث، بهدف إلغاء العقوبة الدائمة التي يتعرض لها أصحاب السجلات الجنائية؛ فقد عانى زكي "حكماً مؤبداً صامتاً" يتمثل في وصمة السجل الجنائي، إذ فقد وظيفة أحلامه في إرشاد الطلاب نتيجة لسلسلة من القوانين التي تقيّد حصوله على وظيفة وسكن وغيرها من الاحتياجات الأساسية بسبب هذا السجل، فتجنب الخوض في التقارير التقليدية المعتمدة في مراكز التفكير وتوجه إلى رسم لوحات جدارية عامة في أحياء مدينة بروكلين لتثقيف المجتمعات المعنية حول العواقب المصاحبة لامتلاك سجل جنائي ودفعها للتفاعل مع القضية. تمكن زكي عن طريق نهجه المبتكر والإبداعي من حشد الدعم المؤيد لقانون في مدينة نيويورك ينص على حذف السجل الجنائي تلقائياً بعد أن يسدد المحكوم دينه للمجتمع.
في السنوات الأخيرة، بدأت أنظمة المؤسسات الجديدة بإعادة تصميم عملية وضع السياسات لجعل مستقبل ما بعد الجائحة شاملاً بدرجة أكبر. لطالما كانت مراكز التفكير جزءاً أساسياً من أي حركة متعلقة بالسياسات، ونحن بحاجة إلى مساعدتها في التصدي للتحديات المعقدة التي نواجهها، ومن خلال تحديث مفهومنا عن الخبرات ومن يحفز تغيير السياسات وطرق تطويرها وتنفيذها، ستتمكن مراكز التفكير من تمهيد الطريق لإنشاء دولة تنعم بالعدل والمساواة والشمول.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.