عندما فاجأنا الطبيب الأسطوري والمناصِر بول فارمر برحيله عن عمر لم يتعدَّ 62 عاماً في شهر فبراير/شباط من عام 2022، سمي بطلاً وصاحب رؤية وعملاقاً عالمياً في مجال الصحة؛ غيّر بأفكاره نماذج الصحة العامة وحقوق الإنسان، وأثبت أنه من الممكن تقديم الرعاية الطبية على مستوى عالمي للناس الذين يعانون أقصى درجات الحرمان.
كان بول مفكراً نابغاً ومبتكراً وثائراً غالباً فيما يتعلق بقيادة المؤسسات غير الربحية، وأسهم في لفت انتباه استثنائي إلى قضايا العدالة الصحية والعرقية والاقتصادية في غالبية قراراته المهمة، وكان قائداً مهماً في مؤسسة بارتنرز إن هيلث (Partners In Health - PIH) التي تعدّ مؤسسة معقدة شديدة الفعالية تعمل في أكثر من 10 دول وتضم أكثر من 18 ألف موظف منتسب، وكانت لديه رؤية مذهلة طويلة الأمد وشغف كبير بتقليص الفجوة بين الأنظمة الشديدة التباين.
وفيما يلي نوضح الركائز الثلاث الأهم في أسلوبه القيادي:
1. ممارسة "افتراض حسن النية" (hermeneutic of generosity)
في عام 2018 أكد لي بول أنه على الرغم من أهمية اتباع أسلوب منهجي لتحليل التفاوت الهيكلي "فلا يمكننا تجاهل روح الشراكة والتكافل الحاضرة في العالم، ولذلك أرى أن مبدأ افتراض حسن النية مهم ولكنه لا يوفّى حقه من التقدير".
كان بول شديد الإعجاب بعبارة "افتراض حسن النية" التي لها جذور عميقة في علم اللاهوت ولكن يندر ذكرها في أدبيات علم الإدارة أو الخطابات السياسية، ورأى أن افتراض حسن النية يعني التعامل مع الجميع لا سيما الشركاء في مكان العمل على أنهم أشخاص طيبون والرغبة في أن يكونوا سعداء، على عكس مفهوم افتراض الشك (Hermeneutic of Suspicion) القائم على افتراض أن كل شخص يسعى لإزعاج الآخر. كان يعتبر هذا المبدأ البسيط عنصراً أساسياً في فعالية مؤسسة بارتنرز إن هيلث، وفي بناء الانتماء على نحو هادف أيضاً، قال موضحاً: "يميل الإنسان بالفطرة إلى الشك"، لكنه كان يعتقد أن الاعتراف بالخير الفطري في كل إنسان كان شرطاً لبناء الثقة وللفاعلية التشغيلية على حد سواء. عندما يفترض الإنسان النية الحسنة لدى الآخر سوف يقلّ الوقت المهدور على النزاعات والخلافات بين أفراد الفريق ويزداد الوقت المخصص للعمل المهم في خدمة من يحتاجون إلى المساعدة، ولذلك كان بول يحرص على تشجيعنا نحن وغيرنا من زملائه داخل مؤسسة بارتنرز إن هيلث وخارجها على السعي لتفسير كلمات الآخرين وتصرفاتهم بحسن نية.
عملياً، يمكن أن ينطبق مفهوم افتراض حسن النية على المواقف التي نمر بها يومياً؛ في حال لم تتلقّ الرسالة الإلكترونية التي تلقاها جميع أفراد الفريق مثلاً أو تلقيت تقييماً فظاً نوعاً ما أو لم تنل حقك من فرص التعبير عن رأيك في اجتماع ما (كان بول يتمتع بروح الدعابة في ممارسة مفهوم افتراض حسن النية وفي كل شيء آخر في حياته، وحين يتعرض أحد في المكتب إلى إهانة من هذا النوع يسارع لتصحيح الموقف بأن يتمتم مازحاً إحدى عباراته الشهيرة: "احذر! إهانة ستسبب حساسية" وفي أحد الأيام قال من باب الدعابة إن علينا طباعة هذه العبارة على بعض القمصان أو الملصقات لأنه يرددها كثيراً).
ولكن بول كان يطبق مفهوم افتراض حسن النية بطرق أوسع وأعمق؛ فهو معروف بهجومه الجريء على أقوى القادة السياسيين والمؤسسات الطبية والجامعات التي لا تولي الأهمية لمصالح الفقراء، ولكنه تحدث أيضاً عن "توجيه افتراض حسن النية إلى من يجدون أن المنظومات التي يعملون ضمنها متواطئة في الظلم" مثل موظفي الهيئات الحكومية أو المؤسسات المالية التي تتبع الممارسات الظالمة، قال: "من المرجح أن الموظفين الذين يعملون على مشروع التطوير لم يسعَوا لزيادة معاناة الفقراء". ولذا أكد بول على ضرورة التمييز بين الأنظمة والأفراد، قال: "أعتقد أنه من الجيد تطبيق مفهوم افتراض الشك على المنظومات الظالمة، ولكني أفضّل تطبيق مفهوم افتراض حسن النية على الأفراد".
هذا النهج ليس شائعاً اليوم، إذ نشعر برغبة كبيرة في اعتبار أن من يرتكب خطأ يحمل أسوأ النوايا. وبما أن بول كان يستمد طاقته من معالجة المرضى، فقد تمكن في بعض الأحيان من تطبيق مفهوم افتراض حسن النية على من يختلف معهم عن طريق اعتبارهم مرضى، فالمرض يجعل الإنسان في أضعف حالاته، وأثبت في عصر التهكم والانقسام الذي نعيش فيه أنه من الممكن أن يتمتع الإنسان بقوة هائلة لمناصرة العدالة، ويمارس في نفس الوقت إنسانية حقيقية في القيادة والعلاقات الشخصية.
2. "احذر قفص العقلانية الحديدي"
أول من صاغ هذه العبارة هو الفيلسوف الألماني ماكس ويبر، وأكدها بول في أحد خطاباته أمام الجمهور في كلية هارفارد كينيدي؛ "القفص الحديدي" هو فخ التركيز بشدة على الكفاءة التشغيلية والتخطيط الرسمي على حساب الإصغاء إلى التجارب الحقيقية والتفكير فيها.
أشار بول إلى تجربة عاشها بنفسه: عندما ضرب الزلزال المدمر جزيرة هايتي في عام 2010 سعت منظمات الإغاثة الدولية لبناء مستوطنة رئيسة جديدة للنازحين في موقع أبدت التحليلات الدقيقة أنه منطقي من الناحية المالية واللوجستية، ولكن بول أشار إلى أن من يضعون هذه الخطة لم يزوروا المنطقة قطّ، ولو أنهم استمعوا ملياً لسكانها الفقراء لعرفوا أنها تقع في وسط سهل فيضاني خطر. كان بول يؤمن أن الفشل في التنفيذ يكون غالباً بسبب رغبة الإنسان في المساعدة بتطبيق معارفه القائمة على خبرته ولكن من مسافة يمكنه التحكم بها فقط، وقال: "كان ذلك الدرس الصعب الذي تعلمته من الزلزال على مدى فترة طويلة من الزمن، كنا جميعنا نرغب في أن تكون خبراتنا كافية للنجاح ولكنها لم تكن كذلك قط". وأكد أن النهج الأنسب لحلّ المشكلات "لا يفضّل الخبرات الفنية على التكافل أو التعاطف أو الرغبة في معالجة التحديات التي قد تبدو مستعصية".
على الرغم من أن بول كان خبيراً معروفاً على مستوى العالم في الأمراض المعدية والأنثروبولوجيا الطبية، كان يرى أن الخبرات الفنية تنال تقديراً أكبر مما تستحق. لماذا؟ لأنه من الممكن أن تفتقر الخبرات مهما بلغت أهميتها إلى معارف في سياقات معينة، وهذا يستدعي العزم على الاستماع ملياً للناس غير الحاصلين على تعليم أو مكانة رسميين. كما أن حلّ المشكلات الفعال "يتطلب عملاً تعاونياً وانفتاحاً وعملاً جماعياً، وسيتيح التطلع إلى المستقبل من منظور أكثر انفتاحاً على العالم تحقيق إنجازات أكبر بكثير".
تنطبق هذه الفكرة على الكثير من مجالات القيادة الأخرى في قطاعَي الأعمال والمؤسسات غير الربحية والقطاع الحكومي، وقد يبدو موقف بول ثورياً بالنسبة لقادة المؤسسات المستندة إلى البيانات؛ فالانتباه ببساطة إلى الناس الأكثر تأثراً بهذه القرارات أهم بكثير من النماذج الرياضية المتطورة أو دراسات الحالة المفصلة. لو تحدث واضعو السياسات في مشروع إنعاش هايتي مع أهالي المنطقة ببساطة بدلاً من الاعتماد على نماذجهم لتمكنوا من تفادي المعاناة وهدر الموارد الهائلين وغير الضروريين. ينطبق الأمر ذاته على المواقف اليومية في مكان العمل وغيره من البيئات المهنية؛ فمن المهم في بعض الأحيان أن يتخطى المدراء حدود "القفص الحديدي" المتمثل في الخطط الاستراتيجية الرسمية أو النماذج المالية أو مبادئ الموارد البشرية ويصغوا إلى الموظفين وهم يتحدثون عما يمرون به وما يحتاجون إليه حقاً، وإذا عجزوا عن ذلك فستفوتهم معلومات مهمة جداً.
3. الاهتمام الصادق بالنتائج
يقول الفكر السائد في غالبية المجالات إن عليك بذل أقصى جهدك ولكن في نفس الوقت يجب أن تحافظ على الموضوعية المهنية وألا تأخذ الفشل على محمل شخصي، ولكن بول فارمر عارض هذا النهج وتعامل مع مرضاه على أنهم من عائلته وشاركهم معاناتهم وألمهم. وتجلى ذلك في لفتاته البسيطة، مثل الهدايا الكثيرة التي كان يشتريها ويحملها بصعوبة عندما يسافر من دولة إلى أخرى ليقدمها للمرضى الذين يقابلهم في المطارات.
كان هذا النهج جزءاً لا يتجزأ من الأنظمة والهيكليات الأشمل التي بناها مع زملائه؛ استخدم بول تعبير "الملازمة" الذي تعلمه من علماء اللاهوت التحريريين لوضع تصور لنموذج الرعاية وتنفيذه في مؤسسة بارتنرز إن هيلث يركز على العلاقات الطويلة الأمد القائمة على الحميمية والترابط بين مقدمي الرعاية والمرضى، وبدلاً من تأكيد مكانة الأطباء والممرضين على اعتبارهم مقدمين للخدمة، يرتقي نهج مؤسسة بارتنرز إن هيلث بمساهمات الاختصاصيين الصحيين المحليين، وهم أفراد من سكان المنطقة يعيشون بين المرضى الذين يتلقون خدماتهم ويعملون بأنفسهم على تحقيق نتائجهم الطبية. يشكل الاختصاصيون الصحيون المحليون جسراً يصل مجتمع الأفراد الذين يعانون الأمراض ويتلقون العلاج بالنظام الصحي الذي يوفر كثيراً من الحلول وليس جميعها، وعندما سُئل بول يوماً عن تعريف الملازمة قال: "الملازمة تعبير لدن، ولكنه يعني في هذا السياق الاستمرار بأداء المهمة إلى أن يقول الفرد الذي تلازمه إنها تمّت". في حين تركز نماذج عمل كثيرة ومنها النموذج المتبع في قطاع الصحة على تقييد المسؤولية ونقل المخاطر إلى الأطراف الفاعلة الأخرى، أثبت بول وشركاؤه أن أخلاقيات التمكين والتبادلية تؤدي إلى النجاح.
وبفضل نموذج الملازمة تمكن الاختصاصيون الصحيون المحليون في مؤسسة بارتنرز إن هيلث من تنفيذ أكثر من 2.1 مليون زيارة منزلية، وتمكنت المؤسسة من توسيع خدماتها الصحية إلى أكثر من 12 دولة في العالم، وكان هذا النموذج جزءاً جوهرياً من العمل على معالجة المشكلات التي يتجاهلها العالم منذ زمن طويل، مثل داء السل المقاوم للأدوية المتعددة وتقديم الرعاية الطبية لمرضى السرطان في المجتمعات ذات الدخل المتدني. ولعلّ الأهم من ذلك هو أن هذه الرؤية ساعدت في تغيير النموذج المتبع في قطاع الرعاية الصحية الذي أصبح يتعامل مع المرضى الفقراء على اعتبارهم صانعي القرار الفعليين أصحاب الرأي الأخير حول انتهاء العمل.
كان بول بطلاً حقيقياً ومخترعاً لا مثيل له، إلى جانب أنه كان إنساناً يصارع تحديات يومية في مواجهة البيروقراطية والتعامل مع الشخصيات المختلفة والحفاظ على الطاقة والتفاؤل، وما تميز به على اعتباره قائداً هو أنه كان يعمل لتحقيق رؤيته العالمية الشجاعة القائمة على أن "كل إنسان يستحق الرعاية والاحترام" في عملية صنع قراراته المهنية وكل ما يقوم به بصورة يومية. كان من الرائع أن أراه يجمع شمل هذه العوالم المختلفة ويربط بينها بحبال متينة من الحكمة والاهتمام.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.