يمثل "توطين القيادة" (Leadership Localization) أحد أحدث التوجهات في مجال التنمية، وهو مصطلح يشير إلى جهود الممولين الذين ينتمون غالباً إلى الدول الغربية لنقل سلطة صناعة القرار إلى المجتمعات المحلية الواقعة غالباً في الدول غير الغربية، ما يسهم في ترك بصمة أكثر تأثيراً في الدول التي تنفذ فيها الجهات المستفيدة برامجها.
ثمة فوائد عديدة لتوطين القيادة، شريطة تنفيذه بالطريقة الصحيحة. على سبيل المثال، يمكن خدمة المجتمع المحلي بسهولة عندما تكون القيادة العليا على مقربة منه ومتناغمة مع قضاياه، كما أن توطين القيادة يُتيح إمكانية مشاركة فريق العمل في التخطيط ووضع الاستراتيجيات، ما يؤدي غالباً إلى تسريع عمليات صناعة القرار وتشجيع الموظفين على الشعور بالمسؤولية والحد من أثر المشكلات المرتبطة بفروق التوقيت، خاصة عند ظهور قضايا عاجلة، وغالباً ما يؤدي توطين القيادة إلى تيسير التعاون مع الحكومات المحلية بفضل العلاقات الشخصية التي تربط القادة المحليين بمسؤولي هذه الحكومات وإلمامهم بالسياق العام لمجتمعاتهم، إضافة إلى أن العمل مع قائد يمتلك خلفية مشابهة، أو على الأقل أكثر انسجاماً مع الفريق، يعزز معنويات الموظفين وثقتهم بأنفسهم.
لكن في ظل ازدياد إقبال المؤسسات على نقل القيادة إلى عناصر محلية، خاصة في القارة الإفريقية، تمحورت النقاشات في أغلب الأحيان حول أسباب هذا التوجُّه ودواعيه أكثر من الحديث عن أساليب تنفيذه؛ فغالباً ما تركز النقاشات في المقام الأول على أهمية تبني المفاهيم الجديدة ومبرراتها، بينما يحتل الحديث عن أفضل الممارسات لكيفية تطبيق هذه المفاهيم مرتبة ثانوية، لذلك فترتيب الأولويات على هذا النحو أمر متوقع وغير مفاجئ؛ ولكن نظراً لأن التوطين قد يبدو خطوة شكلية تفتقر إلى الجدية أو المصداقية، وفي بعض الأحيان ينتهي به المطاف إلى أن يكون كذلك فعلياً، فعلى المؤسسات أن تفهم كيفية تنفيذه بطرق لا تشوّه سمعتها أو تهز ثقة المجتمعات المحلية بها.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك مؤسسة سيغال فاميلي فاونديشن (Segal Family Foundation)، وهي جهة تمويل تعتمد على الثقة المتبادلة وتركز على العدالة الاجتماعية في إفريقيا، وقد تبنّت هذا النهج في القيادة طيلة أكثر من عقد من الزمن. وقد رأينا مؤسسات كثيرة أنشأتها وأدارتها شخصيات غير إفريقية، لكنها تحولت تدريجياً إلى الاعتماد على القيادة المحلية، كما أن فريقنا المعني بتقديم المنح يتكون كله من أفارقة ويقع مقره في إفريقيا، ويدعم مؤسسات يقودها أفارقة. وقد التقينا مؤخراً بعض هؤلاء القادة، من الجيل القديم والجديد على حدٍّ سواء، لاستكشاف العوامل التي أسهمت في إنجاح عملية توطين القيادة.
4 استراتيجيات لتوطين القيادة
لا بد من الإعداد المسبق وتوافر الشفافية كي تتم عملية الانتقال بسلاسة، خاصة في المؤسسات التي تشهد نقل القيادة من عناصر أجنبية إلى أخرى محلية، مثلما حدث في مؤسسة كوميرا (Komera)، وهي مؤسسة لتمكين النساء الشابات يقع مقرها في رواندا؛ فقد أوضحت مؤسِّستها الكندية مارغريت باتلر منذ البداية نيتها تسليم إدارة المؤسسة إلى امرأة إفريقية وفريق عمل محلي بالكامل. عندما قررت باتلر التنحي عن قيادة كوميرا عام 2020، بعد 10 أعوام من تأسيسها، نال الخبر استحسان الفريق، وتولت امرأة رواندية تُدعى داتيفا بيديري القيادة خلال عام واحد.
ولكن الأمر لا يسير على هذا النحو دائماً؛ فغالباً ما تظهر الحاجة إلى القيادة المحلية في مراحل لاحقة من دورة حياة المؤسسة، مثلما حدث مع مؤسسة ريزونيت وورك شوبس (Resonate Workshops) المختصة بتطوير القدرات القيادية لدى الفتيات والنساء في دول شرق إفريقيا. بعد عامين من تأسيسها، بدأت آيلا شلوسر التخطيط لنقل منصب الرئيسة التنفيذية إلى إحدى القيادات المحلية. جاء هذا القرار بعد مغادرة الشريكة المؤسِّسة الرواندية الجنسية، سولانغ إيمابانوييمانا، حين أدركت شلوسر أنه ليس من المنطقي أن تدير امرأة أميركية بيضاء مؤسسة تهدف إلى تمكين النساء الإفريقيات ذوات البشرة الداكنة.
يختلف مسار تطور المؤسسات من مؤسسة لأخرى، لكن ثمة ممارسات مجربة استطعنا استخلاصها من محادثاتنا مع هؤلاء القادة ويمكن أن تساعد في إرشاد أي فريق يمر بهذا النوع من التحولات:
1.اتخاذ هذه الخطوة قبل الوصول إلى مرحلة الإرهاق على القادة أن يخططوا للمغادرة وهم لا يزالون يشعرون بالارتباط بالمؤسسة، بدلاً من الانتظار حتى يستنزفهم الإرهاق. يتيح لهم ذلك تسليم المسؤوليات بسلاسة وهدوء، دون استعجال أو ضغط، ويقلل الصدامات الناتجة عن الإرهاق والتوترات المصاحبة للعمليات الانتقالية، كما أن العرف السائد في العديد من الثقافات الإفريقية يقتضي مغادرة الضيف وأصحاب الدار لا يزالون راغبين بشدة في بقائه معهم، ما يحول دون تجاوز حدود كرم الضيافة ويحافظ على الود اللازم لإقامة علاقات طيبة في المستقبل.
يعمل دمج توطين القيادة في خطتك الاستراتيجية على تسهيل هذا الإجراء؛ ففي عام 2017 وضعت شلوسر هدفاً محدداً بنقل قيادة مؤسسة ريزونيت إلى كوادر إفريقية خلال 3 أعوام مع تقسيم هذه العملية إلى مراحل قابلة للقياس. تزامن ذلك مع تعيين البوروندية المولد، نوريه توريموتسي، مديرة للمؤسسة في رواندا؛ فبعد أن راقبت شلوسر أداءها ولاحظت إمكاناتها الواعدة، طرحت عليها فكرة تولي منصب الرئيسة التنفيذية في المستقبل، ما عزز شعور توريموتسي بالمسؤولية وجعلها تركز على أهداف واضحة ومحددة.
لاحظت شلوسر أن أفضل طريقة لتنظيم مغادرتها هي أن تتعامل مع هذه المهمة كما لو كانت مشروعاً يُدار بأسلوب عملي ومنهجي، دون أن يغيب عن ذهنها أن المؤسسين يرتبطون عاطفياً بالمؤسسات التي ينشئونها وتأبى نفوسهم مغادرتها عادة لأنهم يعتبرونها جزءاً من هويتهم الشخصية؛ فما كان منها إلا أن شرعت في وضع خطة انتقالية مؤسسة عبر إعداد مخطط زمني أو ما يُعرف باسم مخطط جانت (Gantt Chart) لتوضيح مراحل تسليم المهام، كما وضعت خطة بديلة للتعامل مع أي تسريب مسبق لخبر مغادرتها (لا سيما إذا وصل إلى الممولين). أتاحت لها إدارة العملية بهذه الطريقة وقتاً لتأمُّل تجربتها مع المؤسسة.
2. نقل القيادة والصلاحيات في آنٍ معاً. يفضّل البعض عدم قطع الصلة بين القائد المغادر والمؤسسة من خلال شغله منصباً ما بها؛ لأن هذا يعزز الشعور بالأمان، إلا أن كلاً من باتلر وتوريموتسي يحذران من تولي القائد المغادر منصب رئيس مجلس الإدارة؛ لأن ذلك قد يؤثر سلباً على استقلالية القائد الجديد. وينصحان بأن يكتفي القائد المغادر بتولي منصب استشاري وأداء دور الداعم والصديق، وأن يتقبل قرارات القائد الجديد عندما يطلب رأيه؛ فقد تؤدي القوة الناعمة التي يمتلكها القائد المغادر، خاصة إذا كان أجنبياً، داخل مجلس الإدارة إلى اختلال موازين القوى دون قصد والانتقاص من دور القائد المحلي الجديد؛ وبالتالي فلا بد من منح القائد الجديد الفرصة لوضع بصمته وتحديد أسلوبه الخاص، مع العمل على فهم احتياجاته، وخاصةً فيما يتعلق بالجوانب التي يفتقر فيها إلى الثقة بالنفس ، وتقديم الدعم المناسب.
في مؤسسة ريزونيت، بدأت شلوسر التراجع تدريجياً عن دورها القيادي في رئاسة الاجتماعات وعملية صناعة القرار كي تتيح الفرصة أمام توريموتسي لتولي زمام القيادة.
3. التفكير في الموظفين الذين قد يغادرون المؤسسة عند مغادرة القادة المؤسسين. تؤدي مغادرة القائد في بعض الأحيان إلى استقالة بعض الموظفين، خاصة عندما يكون التغيير مفاجئاً أو يفتقر إلى التخطيط الجيد، وذلك لعدة أسباب، منها القلق بشأن المستقبل وعدم التوافق مع أسلوب القائد الجديد أو رؤيته، لا سيما إذا كانت هناك اختلافات ثقافية. ويمكن تقليل عدد الاستقالات المتوقعة بتخصيص وقت لإجراء محادثات ثنائية وجماعية حول المخاوف ونقاط التوتر المحتملة قبل عملية نقل القيادة وبعدها.
وهنا يأتي موضوع مجلس الإدارة؛ فمجالس إدارة المؤسسات الصغيرة غالباً ما تضم أعضاء تربطهم علاقات شخصية بالمؤسِّسين، وقد يقررون الاستقالة عند مغادرة المؤسِّسين. وقد يواجه القائد المحلي الجديد صعوبات عند محاولة إعادة هيكلة مجلس الإدارة، خاصة إذا كانت مؤسسته تعمل في أكثر من دولة ولم يكن يمتلك علاقات قوية مع الأطراف المعنية في الدول الأخرى.
كانت مشكلة انتقال القيادة أسهل في حالة مؤسسة كوميرا مقارنةً بغيرها من المؤسسات بفضل حضورها القوي في المجتمع المحلي ولأن القائدة الجديدة، بيديري، كانت عضواً في الفريق منذ البداية.
4. إبلاغ الجهات الممولة بأن معدلات النمو قد تتأثر سلباً خلال الفترة الانتقالية. قد يخشى القادة الذين تربطهم علاقات قوية مع بعض الجعات الممولةتوقف الدعم بعد مغادرتهم. ربما تتغير الأولويات قليلاً خلال هذه الفترة؛ فقد تحتاج المؤسسات إلى تقليص التركيز على جمع الأموال أو تنفيذ البرامج، وزيادة التركيز على عملية إعادة الهيكلة. قد يبدو للوهلة الأولى أن المؤسسة توقفت عن العمل، خاصة عندما يكون القائد الجديد قادماً من خارجها، لا موظفاً من داخل المؤسسة وصل إلى منصبه بالترقية. وللتصدي لهذه الظاهرة، على القائد أن يُطلع الجهات الممولة على مجريات العملية الانتقالية أولاً بأول.
لاحظت توريموتسي أن احتمالية انسحاب الجهات الممولة كانت أحد أكبر مخاوف مؤسسة ريزونيت خلال العملية الانتقالية؛ لذلك حرصت شلوسر على تقديمها لهذه الجهات مباشرة في مرحلة مبكرة، ما أسهم في الحفاظ على استمرارية العلاقة معهما.
اعتبارات أخرى
أحد أسباب عدم كفاية الإرشادات المرتبطة بكيفية التعامل مع توطين القيادة هو عدم وجود مساحة آمنة للحديث عن هذا الموضوع؛ إذ يخشى الكثير من المؤسسين أن ينظر الآخرون إلى هذه الخطوة على أنها رغبة في الاستسلام بسبب مواجهة مؤسساتهم عقبات مثل تحيزات التمويل العالمي والتقلبات السياسية. وغالباً ما يتواصل المؤسسون الأجانب في إفريقيا الذين يريدون تسليم زمام القيادة في مؤسساتهم إلى قائد محلي مع شلوسر، وهي واحدة من القلائل الذين تحدثوا عن هذا الموضوع علناً.
ويُفضَّل أن تجمع المحادثات حول انتقال القيادةبين النظر إلى الماضي واستشراف المستقبل لتكوين صورة شاملة، لكن التفكير في تحقيق الاستمرارية قد يكون صعباً، خاصة في الحالات التي يتولى فيها المسؤولون التنفيذيون دوراً مزدوجاً بصفتهم قادة وأعضاء في فرق تنفيذ البرامج؛ فبعد أن كانوا يديرون كل شيء بمفردهم في بدايات عمل المؤسسة ويتابعون أدق التفاصيل مع تطور المؤسسة ونضوجها، غالباً ما يخشى هؤلاء القادة أن تنهار العملية بأكملها في حال غيابهم.
تنصح توريموتسي القائد الجديد بأن يسأل نفسه: "هل أنا الشخص الأنسب لهذا المنصب؟" وتضيف أنه إذا كان ثمة شخص يمتلك المهارات والخبرات اللازمة وينتمي إلى المجتمع الذي تستهدفه المؤسسة غير الربحية بخدماتها، فسيكون مؤهلاً لهذا الدور أكثر من نظيره غير المحلي. أدى هذا التفكير إلى ظهور الجيل الثاني من التوطين في مؤسسة ريزونيت؛ حيث شعرت توريموتسي، وهي من أصل بوروندي، بأن امرأة رواندية يجب أن تدير المؤسسة لأن مقرها يقع في رواندا. وعلى الرغم من أن بوروندي ورواندا دولتان جارتان بينهما حدود وقواسم ثقافية مشتركة، ثمة اختلافات جوهرية بينهما. وهكذا تولت كلير أوينيزا منصب الرئيس التنفيذي للمؤسسة عام 2022.
تنسب توريموتسي الفضل في تسهيل انتقالها من قيادة مؤسسة ريزونيت إلى برنامج أفريكان فيجنري فيلوشيب (African Visionary Fellowship) لتدريب القادة؛ فقد عزز البرنامج مهاراتها ومهارات فريق إدارة مؤسسة ريزونيت أيضاً حينما بدأت تكثيف عملية تفويض المسؤوليات. في النهاية، شعرت بأنها تستطيع المغادرة مطمئنة إلى أنها ستترك المؤسسة بين أيدٍ أمينة. ولتشجيع المؤسسات على التفكير في هذا الأمر والتخطيط للاستدامة، تحب مسؤولة برنامج مؤسسة سيغال فاميلي فاونديشن في تنزانيا، كارولين كاندوسي، أن تسأل مازحة: "ماذا ستفعلون إذا اختُطف قائدكم فجأة وأُرسل إلى المريخ؟" خلاصة القول: ينبغي أن تتوافر في المؤسسات صفة الاستدامة بأن تكون كيانات مستقلة بذاتها وغير مرتبطة بشخص معين.