ما دور المحبة في العمل الخيري؟

(الرسم توضيحي: ستوارت ماكريث)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لطالما أسهم العمل الخيري على مدار التاريخ الأميركي الحديث في دفع عجلة التقدم عبر مساعدة المجتمع على السمو بحالته الثقافية في مختلف المراحل. وما أشبه اليوم بالأمس، فنحن نشهد في أيامنا هذه الجهود المبذولة لتسود الديمقراطية والشمول وعدم الإقصاء المجتمع الأميركي ونشهد أيضاً القوى العنيفة المضادة لتلك الجهود.

وللخوض في غمار تلك البيئة الوعرة، لا بد للعمل الخيري أن يحظى بدعامة قوية وأن يحافظ على رؤيته البعيدة المدى. وفوق ذلك كله يحتاج قطاعنا إلى العودة إلى منبع العمل الخيري الأول وأساسه المتمثل “بمحبة الإنسان” فهي ما تبقي العمل حياً فينا. ستكون خطوة ثورية ضد التيار الثقافي السائد في بلد يطغى عليه الاستقطاب والانقسام السياسي. لكنها ستستلهم طريقها من أخلاقيات المحبة عند الكاتبة والأكاديمية والناشطة الاجتماعية بيل هوكس: تتعثر جهود التغيير عندما يحرفها الوضع الثقافي الراهن في أميركا عن مسارها، الذي يعطي الأولوية للبطولة في المكاسب والانتصارات والنجاحات.

لكن البطولة الحقيقية هي القيادة بالمحبة، كما جسدتها هوكس في حياتها وكتابتها.

خطوات جريئة في سبيل محبة الإنسان

في الوقت الذي نستعد فيه لاتباع هذه القدوة ونُقْدم على الدعوة للنهوض بعالم يسوده العدل، علينا النظر في الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها الأجيال السابقة في العمل الخيري والاستفادة من دروسها، لا سيما تلك التي عاكست الثقافة السائدة وتميزت ببعد الرؤية، ولكن لم يتم تقديرها أو ووجهت بمقاومة كبيرة في وقتها.

تعد مدام سي جيه ووكر من أوائل الأثرياء من أصل إفريقي في أميركا التي عاصرت أشهر رواد العمل الخيري الحديث في الولايات المتحدة على غرار الصناعي أندرو كارنيجي. كرّست ووكر حياتها للعمل على الارتقاء بأبناء جلدتها، ودعمت المؤسسات التي تخدم ذوي البشرة السمراء التي غالباً ما يديرها قادة منهم (وذلك بعد عقود قليلة فقط من إنهاء العبودية في الولايات المتحدة). وكانت من أوائل الذين مزجوا المساواة والعدالة العرقية في الطريقة التي أدارت بها أعمالها، وزرعوا بذور مشاركة القطاع الخاص في أعمال التأثير الاجتماعي.

وفي عشرينيات القرن الماضي، قدَّم أحد المحسنين غير المشهورين يدعى تشارلز جارلاند مبلغاً كبيراً من المال كان قد ورثه وينوي التخلي عنه كهبة إلى الجمعية الوطنية لتقدم الملونين (NAACP) التي كان لها الأثر الكبير؛ حيث ساعدت في تحفيز حركة توفير فرص تعليمية متساوية للأطفال من ذوي البشرة السمراء في بداياتها، وفي الانتصار التاريخي لقضية براون في المحكمة العليا التي رفعها ضد  مجلس التعليم في عام 1954، وفي تنامي حركة الحقوق المدنية.

وفي أثناء حركة الحقوق المدنية، دعمت مؤسسة فورد فاونديشن (Ford Foundation) بالإضافة إلى جهات أخرى مناهج مجتمعية شاملة وجديدة للتغيير الاجتماعي من خلال دعم جهود واسعة النطاق ومتكاملة للأبحاث والمناصرة وتعزيز القدرات. وفي ثمانينيات القرن الماضي، أضحت الحملة الناجحة ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حركة ثقافية عالمية مدعومة بشبكات متنوعة تتراوح من ناشطي السكان الأصليين والطلاب إلى قادة الأعمال ونجوم الفن عبر وسائل الإعلام والعمل الجماهيري.

وفي التسعينيات، بدأت تكنولوجيا المعلومات برفع مستوى التواصل بين الناس ووضع قوة التأثير الاجتماعي في أيدي المواطنين العاديين بطريقة غير مسبوقة، وأوجدت موجة مزعزعة من الرواد الاجتماعيين وأصحاب الأعمال الخيرية إحساساً جديداً بالحيوية والابتكار في القطاع العمل الاجتماعي. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت حقبة لم يكن من الممكن تصورها من التعاون بين القطاعات الخيرية والخاصة والعامة تحت مظلة خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز (PEPFAR) ومبادرة الرئيس لمكافحة الملاريا (PMI)، التي أنقذت ملايين الأرواح في إفريقيا جنوب الصحراء وأماكن أخرى حول العالم.

وتعمل الآن مجموعة من المبتكرين تمثلها ماكنزي سكوت التي تبرعت شخصياً بمبلغ 12 مليار دولار لأكثر من 1,250 مؤسسة منذ عام 2020، على الارتقاء بنهج العمل الخيري القائم على الثقة والقوة المشتركة. سكوت التي كتبت ذات مرة أن “الذين لديهم خبرة في معاناة عدم المساواة هم الأفضل لتصميم الحلول” تضع نموذجاً لكيفية تغيير آليات توزّع القوة في القطاع ولوضع المزيد من القوة في أيدي القادة والمؤسسات والمجتمعات الذين يمتلكون الخبرة المباشرة، والرؤى غير الاستغلالية، والحلول المبتكرة لتغيير أكثر أنظمة أميركا ظلماً.

تلك هي الابتكارات المهمة التي ربما سيذكرها التاريخ بأنها لم تحظ بالتقدير في وقتها، لكنها مترابطة عبر تجسيد بيل هوكس للمحبة الذي ذكرته في افتتاحية هذا المقال.

كيف يصبح العمل الخيري القدوة في المحبة

ما يزال العمل الخيري يعاني بعض أوجه القصور الجلية حول المحبة التي لا بد له من التغلب عليها، وثمة دعوة للجيل الحالي من القادة لإيجاد الحلول للتحديات الرئيسية في هذا القطاع المتمثلة في الآتي:

  • أصدرنا في مؤسسة نيو بروفيت (New Profit) تقريراً بحثياً في عام 2020 توصّل إلى أن المؤسسات التي يقودها قادة من الأقليات تلقت 4% فقط من إجمالي المنح والإسهامات في العمل الخيري، مع أن الكثير من أعمال التأثير الاجتماعي يركز على دعم مجتمعات الأقليات.
  • تعيق نماذج التمويل المقيدة التي ما تزال تشكل القاعدة بين المؤسسات المموِلة للابتكار الاجتماعي والتي أضعفت القدرة التنظيمية على نحو جعل القطاع أقل قدرة على التعامل مع الأحداث المتسارعة مثل وباء كوفيد-19، أو إقامة استثمارات داخلية وخارجية تركز على مستقبله.
  • تستمر أساليب الحلول السحرية التي تعتمد على التكنولوجيا غير المثبت جدواها والبيانات غير الشاملة في الانتشار على حساب الأساليب التي تعتمد على المجتمع والتي تحظى باهتمام ضئيل. فأين يمكن أن يتقاطع الأسلوبان بطريقة إيجابية؟
  • تؤجج العنصرية والحزبية الشديدة رد فعل عنيف ضد زخم المساواة والعدالة العرقية الذي نشأ في أعقاب مقتل جورج فلويد، وتهددان بتقويض الحوار النقدي والتقدم في التعليم والحراك الاقتصادي والديمقراطية.

تعيق هذه التحديات قدرتنا على التعاون لتحقيق أهدافنا المشتركة، فالتعاون ضروري جداً في أوقات الاضطرابات الوطنية. ويمكن لتبني عقلية المحبة أن تفضي إلى تحولات حاسمة في العمل الخيري والمجتمع على نطاق واسع:

المحبة تؤجج الأفكار والخبرة. قد يكون قربنا من مجتمعاتنا أفضل نقاط القوة غير المستغلة لدينا لتحقيق التغيير، وتتمثل في حالة العمل الخيري بالخبرة والفكر النابعين من تجربة أبناء المجتمعات والمعاناة من الأنظمة غير العادلة بشكل مباشر. حيث نظر قطاعنا إلى المجتمعات من منظور أبوي لفترة طويلة من الزمن، معتقداً أن الفكر والموارد القادمة من خارج المجتمعات هي كل ما هو مطلوب لإصلاح ما يُنظر إليه على أنه “معطل”. إن الافتقار إلى المحبة في هذا النهج واضح، وكذلك انحرافه الاستراتيجي: إذ نعجز بشكل منهجي عن الاستثمار في أصحاب الخبرات التي نحتاج إليها لنحقق المساواة ونوفر الفرص للجميع. علينا أن نزيد العطاء ونحافظ على استمراريته لأولئك القادة القريبين من المجتمعات.

ومن القادة الذين يفهمون قوة المحبة النيرة المؤسسِة الشريكة في مؤسسة رورال أوبورتينيتي إنيستيتيوت “آر أو آي” (ROI) فيشي جاغاناثان، وهي مؤسسة تعمل على تغيير الظروف الكامنة وراء عدم المساواة في القطاع الصحي عبر الأجيال. ومؤسسة آر أو آي شريكة في المنح في المجموعة الأولى لمشروع مؤسسة نيو بروفيت للمساواة الصحية، وهو مشروع تعاون بين مؤسسة نيو بروفيت ومعهد ديلويت للمساواة الصحية (Deloitte’s Health Equity Institute). تدعم مؤسسة آر أو آي الشباب والمؤسسات والمجتمعات في ريف ولاية كارولينا الشمالية لمساعدتهم على تصميم حلول مبتكرة للتعافي والقدرة على التحمل. وترى فيشي أن عملها يركز على البناء على مقومات مجتمعها المحلي ودعمهما بالموارد وأفضل الممارسات المطبقة في أماكن أخرى. حيث تقول: “لا تعوز مجتمعاتنا وتاريخنا الحكمة والخبرة، ومن الرائع استيعاب تلك الدروس. فأنا أعمل على هدي ما يقوله لي المجتمع”.

المحبة تزيل القيود. قيّد المانحون على مدى قرن من الزمان تبرعاتهم بطرق أعاقت معظم المؤسسات غير الربحية عن بناء مؤسسات قوية قادرة على تحقيق تأثير طويل الأجل على نطاق واسع. وكما أدركت سكوت وآخرون، فالتمويل غير المقيد هو الأساس لتعزيز الثقة وفتح الأبواب للتعلم والتعاون والتأثير.

ويؤمن مؤسس مؤسسة 4.0 (شريك منح لمؤسسة نيو بروفيت) حسن حسن، أن جميع الناس قادرون على إحداث تغيير حقيقي في مجتمعاتهم إذا دُعوا للاستفادة من أفكارهم بصفتهم موجدي الحلول للمشكلات ورواد أعمال ومُنحوا وصولاً غير مقيد إلى الموارد لاختبار أفكارهم وتطويرها في المراحل الأولى. حيث تستثمر مؤسسة 4.0 في رأس المال، والتدريب، والمناهج الدراسية والمجتمعات مع مبتكرين عدة في مجال التعليم لمواجهة تحديات عدم المساواة التي تعانيها الأسر في مجتمعاتهم. وتهدف مؤسسة 4.0 من خلال برامجها للمنح إلى تحويل الموارد والابتكار في النظام التعليمي إلى المجتمعات التي يخدمها هذا النظام. ويطمح حسن في مستقبل تعكس فيه قادة التعليم تنوع مجتمعاتهم، ويكون فيه التمويل الوفير والشامل بحكم القانون.

المحبة تقوي التحالفات. علمنا التاريخ أن التغيير التحويلي يحدث دائماً عند عقد تحالفات متعددة الأعراق والأجيال والقطاعات. لكن تجاوز الاختلافات وبناء علاقات الثقة لطالما كان صعباً ويزداد صعوبة في ظل مشهد ثقافي وسياسي مضطرب وفي العزلة التي فرضها كوفيد-19. علينا أن نستعيد قوة التقارب القادرة على التغيير بأي طريقة ممكنة ونحن نخوض طريقنا نحو المستقبل.

تأسست مؤسسة ذا بيلوفد كوميونيتي سينتر (The Beloved Community Center) في غرينزبورو، (وهي أيضاً شريك منح لمؤسسة نيو بروفيت)، وفقاً لتقليد حركات الستينيات في سبيل العدالة الاجتماعية والاقتصادية من قبل أصدقاء وزملاء خمسة من نشطاء العدالة الاجتماعية الذين قُتلوا على أيدي أعضاء كو كلوكس كلان (Ku Klux Klan) والحزب النازي الأميركي (American Nazi Party) في مسيرة العدالة المجتمعية عام 1979 في غرينزبورو بولاية نورث كارولينا. حيث سعى الناجون من ذلك اليوم المأساوي في البداية إلى تحقيق العدالة للقتلى عبر المحاكم، وتوصلوا في نهاية المطاف إلى تسوية مدنية حين شاهدوا هيئة المحلفين التي يسيطر عليها البيض تعطي البراءة للقتلة من جميع التهم الجنائية. دفعت الدروس المستفادة من هذه الحادثة مؤسسة بي سي سي إلى أن تصبح قوة في سبيل الحقيقة والعدالة والمصالحة في ولاية كارولينا الشمالية، حيث ما يزال إرث العنصرية يرخي بظلاله المؤلمة والمدمرة. وبالاعتماد على الدروس المستفادة من النضال ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وقصص نضال أخرى، قادت مؤسسة بي سي سي جهوداً جبارة في سبيل الحقيقة والعدالة والمصالحة في غرينزبورو من 2000 إلى 2006. وزار رئيس الأساقفة ديزموند توتو مدينة غرينزبورو مرتين لتقديم التوجيه الروحي والاستراتيجي. وأثمرت هذه التجربة عن تقديم مدينة غرينزبورو الاعتذار عن دور الشرطة ومسؤولي المدينة في جرائم القتل تلك، وأنشأت منحة دراسية سنوية لخمسة طلاب ثانويين بأسماء الأشخاص الخمسة الذين قُتلوا. وتقود مؤسسة بس سي سي حالياً عمليات تقصي الحقائق والعدالة والمصالحة على مستوى الولاية في كارولينا الشمالية.

وكما تقول المؤسسة الشريكة لمؤسسة بي سي سي جويس جونسون واصفة عملها الدؤوب الذي استمر لعقود: “تتطلب المحبة منا التواصل وبناء المجتمع متجاوزين الانقسامات العرقية وغيرها؛ فعلينا أن نتقارب حتى نتعلم كيف نسير معاً”. وتؤمن مؤسسة بي سي سي أن عملية تقصي الحقائق العالية الجودة في ولاية كارولينا الشمالية قد تلهم ولايات أخرى، وحتى الولايات المتحدة برمتها للقيام بمبادرات مماثلة.

المحبة تعطي الأولوية للناس وليس للبرامج. يجب أن نبدأ بالنظر إلى أنفسنا ومتلقي المنح وشركائنا والأطراف الأخرى في قطاع العمل الخيري كبشر أولاً وليس أدوات للتأثير أو “تضحيات رائعة” لحركات العدالة على حد وصف المؤلف والناشط رومال تون. إذ نستطيع تحقيق أقصى درجات الحب والقوة، ويحقق عملنا أكبر تأثير ممكن له عندما نتمتع بصحة العقل والروح والجسد. ونحن نملك الأدوات لتحقيق ذلك، وبخاصة لأصحاب المشاريع الاجتماعية في الخطوط الأمامية وغيرهم ممن يقودون حركة المحبة.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، جمعت مؤسسة نيو بروفيت أكثر من 400 من قادة التأثير الاجتماعي من مختلف الخلفيات والأجيال والقطاعات في أول اجتماع حضوري لنا منذ ثلاث سنوات. وعندما تعاونا مع هيئات مجتمعنا لترتيب ذلك الحدث، عرفنا منذ البداية أن المحبة والتعافي والفرح والسلامة كانوا بأهمية المنح الدراسية ووضع البرامج، إن لم يكونوا أكثر أهمية. ومع الحفاظ على صحة خبراء الحركة والفنانين وغيرهم، حاولنا بث المحبة والرفاهة طوال مدة الاجتماعات. لكنه مجرد حدث. ماذا لو اتخذنا خطوة إلى الأمام وغرسنا عادات محبة للرفاهية في جميع عمليات صناعة القرار؟ ماذا لو كانت العادة بالنسبة إلى الممولين أن يتعاونوا مع المستفيدين من المنح في التخطيط لقضاء عطلة الأسبوع سوياً كجزء أساسي من عملية تقديم المنح؟

المحبة لا تعرف الخوف. للاستعداد لاضطرابات الوقت الحاضر والسنوات القادمة، نحتاج إلى تغيير عقلياتنا، واتخاذ العديد من الخطوات التي تتعارض مع ثقافة عمل القطاع الخيري الحالية. ثمة مقاومة لذلك وستتصاعد هذه المقاومة. لكن أخلاقيات الحب التي حددتها بيل هوكس صلبة وقوية، ولا تُهزم أمام الفوضى أو التحديات الصعبة. فالقضية قول الحقيقة والتمسك بإيمان لا يتزعزع بإمكانية وجود عالم أفضل.

وكما قال الشاعر جلال الدين الرومي: “ليست مهمتك البحث عن الحب، بل البحث في أعماقك عن تلك الأسوار التي بنيتها وتمنعه عنك”. حان الوقت لكي يدرك العمل الخيري أن المحبة تبدأ من الداخل.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.