كيف يمكن استثمار الذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان؟

11 دقيقة
حلول الذكاء الاصطناعي

يرسم المسؤولون عن التعداد في مؤسَّسة "آي دي إنسايت" (IDinsight) حدود مساحة من الحقل لتقدير الناتج الزراعي في ولاية تيلانغانا في الهند. تعد البيانات المستخلصة من استقصاءات مماثلة مدخلات بالغة الأهمية في نماذج التعلم الآلي الزراعية.

في السنوات العشر الماضية، طبقت مئات المشاريع الذكاء الاصطناعي (AI) بغاية تحقيق الصالح الاجتماعي. إن تطبيق الأداة الصحيحة لحل المشكلة الملائمة لها يحسّن حياة الملايين جذرياً، من خلال التقديم الأفضل للخدمات والصياغة الأوسع اطلاعاً للسياسات. لكن ما نوع الاستثمارات التي تجعل حلول الذكاء الاصطناعي ناجحة، وما هي أكثر التطبيقات الواعدة في مجال الأثر الاجتماعي؟

خصائص الاستثمار الناجح للذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان

يمتاز الذكاء الاصطناعي في مساعدته للبشر على تسخير البيانات المعقدة التي جُمعَت من نطاق واسع، للتنبؤ أو التصنيف أو التحسين بسرعة وضمن مدى يتجاوزان القدرة البشرية. نعتقد أن الاستثمارات الموجَّهة بقدر أكبر والأكثر استدامةً في الذكاء الاصطناعي لتحقيق الأثر الاجتماعي (تسمى أحياناً "الذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان") أهم من المنح المتعددة القصيرة الأمد المقدَّمة في مجموعة متنوعة من المجالات، لسببين: أولهما، أن تكاليف الذكاء الاصطناعي الأولية كبيرة وتكاليفه المستمرة أو الهامشية منخفضة. قد يصعب تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي وتفعيلها، ويتطلب مجموعة موارد قد تكون مكلفةً للانطلاق، مثل البيانات التدريبية، ووقت عمل الموظفين، والبنية التحتية ذات الجودة العالية للبيانات. بالمقارنة مع الاستثمار المسبق، فإن تكلفة الوصول إلى كل مستخدم إضافي ضئيلة. بالنسبة إلى المؤسَّسات الخيرية التي تتطلع إلى قيادة الأثر الاجتماعي الإيجابي بواسطة الذكاء الاصطناعي، فهذا يعني غالباً أن حلول الذكاء الاصطناعي يجب أن تمتد على نطاق كبير قبل أن تبدأ بتقديم عائد اجتماعي ضخم على الاستثمار.

السبب الثاني الذي يجعل التمويل الموجَّه والمستدام مهماً، أن أي نقطة فشل مفردة - نقص البيانات التدريبية، أو إساءة فهم احتياجات المستخدمين، أو النتائج المتحيزة، أو التكنولوجيا التي صممت بشكل سيئ للإنترنت غير الموثوق - قد تعرقل إصدار منتج واعد من الذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان. تحتاج الفرق التي تستخدم الذكاء الاصطناعي إلى تحسين هذه الأنظمة وصيانتها باستمرار للتغلب على العقبات وتحقيق التوسّع والحفاظ على الأنظمة البيئية التي يعيشون ضمنها.

إنشاء إطار عمل لتقييم التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان

لتضييق نطاق أكثر حالات استخدام الذكاء الاصطناعي الواعدة، جمع فريقنا في مؤسسة "آي دي إنسايت" الأبحاث الحالية من الأمم المتحدة، وشركة "ماكنزي آند كومباني" (McKinsey & Company)، والممارسين غير الربحيين، والأعمال السابقة لشركة "جوجل.أورغ" (Google.org)، وغيرها من المجموعات في القطاع الاجتماعي. وانطلقنا من ذلك في تحديد حوالي 120 حالة يستخدم فيها المطورون الذكاء الاصطناعي في 30 مجالاً، لمعالجة المشكلات الاجتماعية والبيئية، ثم حلل فريقنا بواسطة إطار عمل دقيق، أي هذه المجالات يرجح أن تؤدي إلى إحداث أثر اجتماعي ملموس. بالإضافة إلى المخاطر المحتملة، ينظر هذا الإطار في:

  1. حجم التأثير المحتمَل. ما مدى اتساع نطاق الحل أو مجموعة الحلول المطبَّقة؛ ما هو عدد الأشخاص الذين تخدمهم؟ ما هو عمق هذه الحلول؟ مثلاً، هل تزيد دخل المستفيدين زيادةً طفيفةً أو أنها تنقذ حياة أحد ما؟
  2. جدوى التنفيذ. هل يمكن بناء خوارزمية بدقة تكفي ليتفوق أداؤها على الخيار الراهن الذي لا يعتمد على الذكاء الاصطناعي؟ ما هو التأثير التفاضلي للذكاء الاصطناعي على حل هذه المشكلة مقارنةً بالوسائل الأخرى؟ هل تتوفر البيانات عالية الجودة اللازمة لبناء الخوارزمية أو هل يمكن الحصول عليها؟
  3. أوجه التعاون في مجال الفرص. هل توجد عدة كيانات مختلفة تعمل حالياً على حل مشكلات مماثلة؟ هل توجد استثمارات تحفيزية ثابتة سيكون لها أثر غير متسلسل في تمكين مختلف مبادرات الذكاء الاصطناعي في سبيل الإحسان الأخرى؟ هل توجد مؤسَّسة مرموقة يمكنها إيجاد الحلول الأولية ونشرها على نطاق واسع بالشراكة مع الممول؟

أفضل الرهانات في الاستثمار

عندما بحثنا في أبرز حالات استخدام الذكاء الاصطناعي وفقاً لإطار عملنا، برزت ثلاثة معايير كاختزال مفيد يشرح لماذا كانت مجالات معينة معدَّةً للاستثمار دوناً عن غيرها، وهذه المعايير هي: إمكانات التأثير الكبيرة (عمق التأثير واتساعه)، وتأثيرها التفاضلي مقارنة بالأدوات التي لا تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والمسار الواضح للتوسع. كما درسنا إذا كان لكل مجال أدلة كافية لإثبات المفاهيم تبين جدواها، بالإضافة إلى المخاطر التي يمكن إدارتها ويمكن للاستثمار والنمذجة الدقيقة التغلب عليها بحذر. (يحدد إطار العمل الكامل عملية تحليل أحكم وأدق).

حدد تحليلنا ثلاثة مجالات تبدو الأمثل للاستثمار على المدى القريب: أدوات التشخيص الطبي، ودعم التواصل للمجتمعات واللغات المهمشة، والتنبؤ بالإنتاجية الزراعية. لا بدّ أن نشير إلى أن هذه المجالات ليست الوحيدة التي يمكن أن يحقق بها الذكاء الاصطناعي منفعة اجتماعية كبيرة، فقد تضمنت المجالات الأخرى التي حققت نتائج جيدة في تحليلنا الذي أجريناه وفق إطار عملنا: البحث الطبي/اكتشاف الأدوية، والاستجابة للكوارث الطبيعية، والتنبؤ بحالة سلاسل التوريد، ومكافحة المعلومات المضلّلة. رغم أننا لن نستفيض في الحديث عن هذه المجالات خلال هذه المقالة، لكن نشجع الآخرين على دراستها. إليك نظرة عن كثب إلى أبرز ثلاثة مجالات في بحثنا:

1. أدوات التشخيص في مجال الرعاية الصحية للأنظمة الطبية محدودة الموارد

في بعض البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة (LMICs)، حيث تكون نسبة مقدمي الرعاية الصحية إلى المرضى منخفضة، يهمَل الكثير من المرضى دون قصد. يعد التشخيص الناقص أو الخاطئ للحالات الخطرة شائعاً لارتفاع تكاليف الاختبارات التقليدية أو عدم توافرها بسبب متطلبات المختبرات، والاختبارات التي تستهلك وقتاً طويلاً، فيتجنب العاملون المثقلون بالأعباء إجراءها، ووصم الفرد بالعار عند إصابته ببعض الحالات الصحية، ما يثني الكثير من المرضى عن الخضوع للفحص في العيادات العامة.

إضافة إلى ذلك، يحتاج العاملون في مجال الرعاية الصحية في كثير من الأحيان إلى تدريب أكثر من الذي يتلقونه ليتمكنوا من التشخيص الدقيق للحالات الصحية وعلاجها. يبدو أن ضعف التشخيص يعيق تحسين نتائج الرعاية الصحية إلى حد كبير في المناطق محدودة الموارد. على سبيل المثال، عندما حاكى "مركز التنمية العالمية" (Center for Global Development) جوانب التحسن النظرية للنتائج الصحية للأم والطفل في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، خلال الظروف السريرية المثلى (دون نقص في الأدوية أو غياب العاملين بمجال الرعاية الصحية)، تحسنت جودة الرعاية الصحية هامشياً فقط.

إن الحجة قوية للاستثمار في أدوات الذكاء الاصطناعي التي تشخص الحالات الشائعة في نقطة الرعاية أو تكشف عنها، وأصبح الكثير من هذه الأدوات بالفعل في مرحلة إثبات المفاهيم، وتعمل مع كاميرات الهواتف الذكية أو المايكروفونات لالتقاط الأصوات أو الصور أو مقاطع الفيديو التي قد تساعد في التشخيص. وبالرغم من قلة انتشار الهواتف الذكية بين العاملين في الخطوط الأمامية ضمن مجال الرعاية الصحية في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة (وذلك يتفاوت تفاوتاً كبيراً بين بلد وآخر)، فمن المتوقع أن يزداد انتشارها بسرعة في السنوات القليلة المقبلة.

تتميز أدوات التشخيص التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي بما يلي:

  • إمكانات التأثير الكبيرة (في عمق التأثير واتساعه): ستحسن الأدوات التي تحقق التوسع مستوى الرعاية الصحية لملايين الأشخاص في المناطق ذات الموارد المحدودة.
  • التأثير التفاضلي لها مقارنةً بالأدوات التي لا تعتمد على الذكاء الاصطناعي: إن الوضع الراهن للتشخيص سيئ بالنسبة للعديد من الحالات الصحية الحرجة، لا سيما في المناطق التي تعاني المختبرات فيها نقص المرافق المخبرية. تتفوق الخوارزميات غالباً على الممارسين الذين يتراوح مستوى مهاراتهم بين المنخفض والمتوسط، في تحليل الملفات الصوتية والصور ومقاطع الفيديو.
  • مسار التوسع: بعد نيل الموافقة التنظيمية، يمكن توسيع نطاق هذه المبادرات بدعم من كيانات مثل "منظمة الصحة العالمية" والحكومات وشبكات العاملين الصحيين المجتمعيين واسعة النطاق.

تفحص أدوات التشخيص الأكثر تأثيراً الحالات القابلة للعلاج التي تشخَّص تشخيصاً ناقصاً أو خاطئاً، والتي تؤثر في الكثير من الأشخاص. قدمت أدوات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في تشخيص العديد من تلك الحالات بالفعل براهين واعدة في الحالات مثل أمراض الجهاز التنفسي كالسل أو الربو، وسوء التغذية (التي تشمل المقاييس الجسدية للأطفال)، وفقر الدم، وسرطان عنق الرحم. ومع ذلك، لا يزال المطورون بحاجة إلى التحقق من صحة هذه التقنيات وتكييفها حتى تكون مفيدة عملياً للعاملين الصحيين.

كما ينبغي للممولين النظر في "الاستثمارات في بيئة العمل" التي تتيح إنشاء أدوات ذكاء اصطناعي منصفة، مثل مجموعات البيانات التدريبية (هي مجموعة ضخمة من البيانات التي تجمع لتغذية نموذج التعلم الآلي) التي تتصف بالدقة، وتمثل السكان الذين سيعملون على خدمتهم، وقد جمِعت بموافقة مسبَقة. تعَدّ منصات الخصوصية، التي تحفظ مؤسَّسات الرعاية الصحية فيها البيانات التدريبية وتشاركها بطريقة آمنة، هي نوع آخر من الاستثمار القيّم في بيئة العمل. (تبني شركة "نايتنغيل أوبين ساينس" (Nightingale Open Science)، منصةً لتنفيذ ذلك لبعض الحالات الصحية مثل السرطان والسكتة القلبية). تصنع هذه الاستثمارات فارقاً ضخماً في مدى جودة الخدمة التي تقدمها أدوات الذكاء الاصطناعي للسكان الذين يسعون إلى الوصول إليهم، ولا ينبغي إغفالها.

كحال أي جهاز طبي، يجب أن تضمن المجموعات الصحية العالمية والأجهزة الرقابية أن أدوات الذكاء الاصطناعي تستوفي المعايير المشتركة للجودة. يجب عليهم التأكد من أن الخوارزميات تدرَّب على البيانات التمثيلية وأنها قيَّمت بدقة لتحقيق الإنصاف في المناطق التي ستنشَر فيها. تبرز أهمية ذلك لأن العديد من وسائل إثبات المفهوم في الذكاء الاصطناعي المستخدم في مجال الرعاية الصحية مبنية على بيانات غير تمثيلية أو بيانات جمعَت ضمن جدران المختبر، وليس على أرض الواقع. إذا عزمنا على إحراز تطورات تحدث تغييرات جذرية، وتحقيق الحماية من المخاطر المحتملة، فمن المهم أن تستثمر المؤسَّسات الخيرية في تصحيح هذه النقائص.

2. أدوات التواصل التي تدعم المجتمعات واللغات المهمشة

يستبعَد ملايين الأشخاص حول العالم من المشاركة في الخدمات العامة والتعليم وسوق العمل والإنترنت بشكل عام لعجزهم عن التحدث بلغات الأغلبية. تشكل 10 لغات فقط من أصل 6,000 لغة محكية في العالم اليوم نحو 87.3% من إجمالي المحتوى عبر الإنترنت. فأكثر من نصف المحتوى على الإنترنت باللغة الإنجليزية، وحتى بعض أكثر اللغات شيوعاً في العالم (من بينها العربية والهندية والبنغالية) لا تبلغ المراتب العشرة الأولى.

تسبب الحواجز اللغوية ضرراً شديداً وبالغاً خلال الإجراءات القانونية والزيارات الطبية وحالات الطوارئ الإنسانية. تستعين المستشفيات ووكالات الخدمات الاجتماعية ومحامو شؤون الهجرة والمدارس وأنظمة الاستجابة للكوارث الطبيعية بالمترجمين لتقدم خدماتها، لكن في معظم الحالات لا يتوفر الكثير من المترجمين لتلبية احتياجات الترجمة على مستوى العالم. يحتاج دعم اللغات الأقلية إلى مزيد من الاستثمار، بالرغم من أن نماذج الترجمة والتعرف الآلي على الكلام قطعت شوطاً ضخماً في لغات الأغلبية، فمثلاً تساعد منصة "نقاط للحوار" (TalkingPoints)، وهي من المستفيدين الحاصلين على منحة تحدي تأثير الذكاء الاصطناعي من شركة "جوجل.أورغ"، الآباء غير الناطقين باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة على التواصل مع مدرسي أطفالهم.

يتخذ الابتكار في هذا المجال عدة أشكال، إحداها مجموعات البيانات والأدوات التي تجعل الترجمة الآلية متاحةً بين عدد أكبر من الأزواج اللغوية، مثل الترجمة من اللغة البوجبورية (لغة إقليمية محكية في أجزاء من شمال الهند الأوسط وشرقها) إلى الإنجليزية. يتمثل شكل آخر للابتكار في الترجمة المحسّنة للغات القابلة للترجمة آلياً الحالية في مجالات فرعية معينة، مثل الترجمة المحسّنة للمصطلحات الطبية في اللغة الفرنسية أو العربية. كما يتجلى الابتكار في أدوات تستخدم في غير الترجمة لتحسين إمكانية استخدام أدوات معالجة اللغة الطبيعية الشائعة بلغات متعددة، مثل أدوات تحليل المشاعر. كل الجوانب التي ذكرَت معدّة للاستثمار لأنها تتضمن:

  1. إمكانات التأثير الكبيرة (في اتساع التأثير): يعدّ تعذر الحصول على المعلومات والخدمات بسبب الحواجز اللغوية مشكلةً تؤثر في مئات الملايين (وفي بعض المجالات، المليارات) من الناس.
  2. الإمكانات التفاضلية للذكاء الاصطناعي: لا يتوفر عدد كافٍ من المترجمين البشر (ربما عددهم أقل من مليون مترجم محترف) لتلبية الحاجة العالمية لخدمات الترجمة (مئات الملايين أو المليارات من الأشخاص). إن الأتمتة من خلال الذكاء الاصطناعي هي إحدى الوسائل القليلة المتاحة للتوسع.
  3. مسار التوسع: تتميز أدوات الترجمة بأنها منتجات "موجهة مباشرةً إلى المستهلك"؛ ما يعني أنها يمكن أن تتوسع من خلال دمجها مع المنصات الرقمية الحالية.

تتمثل إحدى الفرص الواعدة للاستثمار في تحسين خدمات الترجمة العامة للغات التي يتحدثها الكثير من الناس لكنها ليست حاضرة بما يكفي في نماذج الترجمة الحالية. لا يحظى الملايين من الناطقين بالكثير من اللغات بإمكانية الحصول على ترجمة للغاتهم على المنصات الشائعة. ذكرت مجلة "وايرد" (Wired Magazine) الكثير من أهم اللغات في مقال نشِر في عام 2018: "اللغة البوجبورية (51 مليون متحدث بها)، واللغة الفولانية (24 مليون متحدث، أكثر اللغات الإفريقية انتشاراً)، واللغة السيلهيتية (11 مليون متحدث، لغة سكان إقليم سيلهيت في بنغلادش)، ولغة كيتشوا (9 ملايين متحدث، في أجزاء كبيرة من أميركا الجنوبية) واللغة الكيروندية (9 ملايين متحدث، في بعض المناطق الإفريقية)". تتفاوت جودة الترجمة العامة حتى في اللغات المتوفرة حالياً تفاوتاً كبيراً.

تكمن الفرصة الأخرى في تحسين الترجمة المتخصصة في مجال معين - أي تحسين نماذج الترجمة ضمن سياقات محددة. تتطلب هذه النماذج إدراكاً آلياً دقيقاً للغة الاصطلاحية التي قد لا تكون شائعةً في بيانات اللغة الطبيعية التقليدية، وتكون الأكثر نفعاً في المناطق التي تؤثر فيها خدمات الترجمة كثيراً على الأفراد، مثل مساعدة المهاجرين على فهم العقبات القانونية عند دخول بلد جديد أو إعانة الأشخاص المحرومين على الخوض في الإجراءات الحكومية المعيارية. سيكون من المهم تحقيق التوازن بين إتاحة المزيد من فرص الحصول على خدمات الترجمة للأشخاص، مع المخاطرة المحتملة في الحصول على ترجمة غير دقيقة.

أخيراً، تبنى معظم النماذج اللغوية على عينات من البيانات المتوفرة بسهولة على الإنترنت، وقد يؤدي هذا إلى تفاقم أوجه التحيز. من الضروري أن يتم أي استثمار واسع النطاق في بيانات لغة محدودة الموارد بالشراكة مع المتحدثين الأصليين بها، وأن يسهم أفراد المجتمع المدني في الإرشاد إلى اختيار أي نصوص يفضّل استخدامها في النماذج التدريبية. إذ يتوقف تمثيل نماذج الذكاء الاصطناعي ودقته في الترجمة والتواصل على ذلك.

3. التنبؤ بالناتج الزراعي في المناطق التي يسيطر عليها أصحاب الحيازات الصغيرة

إن أحد العوامل الصعبة ولكن الأساسية التي تسهم في النظم الغذائية المستدامة هو التقديرات الدقيقة وفي الوقت المناسب للناتج الزراعي. وإن هذه التقديرات بالغة الأهمية في اتخاذ قرارات سياسية مدروسة توفر الدعم الذي يحتاج إليه المزارعون وتضمن حصول ملايين الأشخاص على الغذاء.

في البلدان الثرية، توفر خوارزميات التنبؤ بالإنتاجية القائمة على الأقمار الصناعية -المدربة على البيانات الإدارية والمستخلصة من المزارعين حول استخدام الأراضي، وتعيين حدود قطع الأراضي، والجداول الزمنية للزراعة- هذه التقديرات بشكل دوري طوال الموسم الزراعي. هذا يتيح للمزارعين اتخاذ قرارات أفضل متعلقة بالتخطيط. تساعدهم الخوارزميات في الحصول على المستلزمات الزراعية الصحيحة (بما في ذلك البذور الهجينة والأسمدة والمبيدات الحشرية) للحقول المناسبة في الوقت المناسب، وتتيح للحكومات الاستجابة بسرعة للأزمات مثل الجفاف والأمراض.

لكن في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة، حيث تهيمن مزارع أصحاب الحيازات الصغيرة على الزراعة، لا يكون التنبؤ بالإنتاجية صريحاً. تتصف قطع أراضي أصحاب الحيازات الصغيرة بصغر الحجم، ويكون شكلها غير منتظم، وغالباً تحتوي على أكثر من محصول واحد، ما يصعب تحديدها أو تصنيفها في صور الاستشعار عن بعد. تكون البدائل المناظرة مثل إجراء تجارب تجزئة المحاصيل باهظة الثمن وبطيئة ومليئة بالتحديات القياسية على نطاق واسع، لهذا غالباً يتخذ المزارعون وواضعو السياسات الحكومية قرارات دون الاطلاع على المعلومات المهمة عن حالة الزراعة.

اليوم، أصبحت صور الأقمار الصناعية تتوافر باطراد للعامة، وتتميز بالدقة العالية والتحديث المستمر اللازمَين للتنبؤ على مستوى أصحاب الحيازات الصغيرة. على سبيل المثال، يجمع القمر الصناعي "سينتينيل 2" (Sentinel-II) صوراً لكوكب الأرض بأكمله كل خمسة أيام تقريباً بدقة تبلغ حوالي 10 أمتار في كل بكسل. لولا صور الأقمار الصناعية، لتطلب الحصول على البيانات التدريبية لبناء نماذج الذكاء الاصطناعي مجموعة بيانات ضخمة تجمَع ميدانياً مقدماً، وهو احتمال يحتاج إلى عمالة ووقت مكثفَين تتضمن زيارات للمزارع وتجزئة للمحاصيل في المناطق الريفية النائية.

رغم ذلك، أثبتت الأبحاث الرفيعة المستوى جدوى الاستعانة بصور الأقمار الصناعية لتقدير غلة المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة باستخدام الصور المتاحة للعامة. هذه الإثباتات للمفهوم محصورة عموماً بمحاصيل معينة في مناطق معينة، لكن من خلال الاستعانة بعدد أكبر من البيانات التدريبية والمساعي لبناء النماذج، يمكن أن يكون لديها:

  1. إمكانات تأثير كبيرة (في عمق التأثير واتساعه): يعمل أكثر من مليار شخص في قطاع الزراعة أو يعتمدون مباشرةً على المكاسب الزراعية للعيش. إذ تشكل الزراعة جزءاً لا يستهان به من الناتج المحلي الإجمالي للعديد من البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وهي أكثر قطاع يوظف الأشخاص على الدوام تقريباً.
  2. الإمكانات التفاضلية للذكاء الاصطناعي: باتباع الأساليب الحالية التي لا تعتمد على الذكاء الاصطناعي، من غير الممكن قياس الإنتاجية الزراعية بتكلفة زهيدة أو التنبؤ بدقة بالناتج الزراعي قبل الحصاد في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة.
  3. مسار التوسع: يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في توقع الناتج أن تتوسع بعدة وسائل مختلفة؛ إذ تستطيع أن تثري القرارات الحكومية ذات المستوى الرفيع التي تؤثر في الملايين، أو تتوسع من خلال مؤسسات الإرشاد الزراعي واسعة النطاق، أو تطبيقات الهاتف المحمول الموجهة مباشرةً إلى المستهلك.

تشمل الأمثلة على فرص الاستثمار البرامج التي توصي باللوازم الزراعية المصممة خصيصاً أو توجيه السياسة الزراعية الحكومية على الصعيد العام لزيادة الواردات الغذائية أو تخفيضها. كما هو الحال في التطبيقات الأخرى، يمثل نقص البيانات التدريبية عقبة رئيسية أمام التنبؤ بالإنتاجية على نطاق واسع في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة. يقتضي وجود العديد من المؤسسات والباحثين المختلفين الذين يعملون على حل مشكلات ذات صلة بهذا المجال، وجود معايير للتجميع والتصنيف. ستكون المبادرات مثل "مركز إم إل" (ML Hub)، التي أطلقتها مؤسسة "الأرض المتألقة" (Radiant Earth Foundation) مهمةً في استضافة ومشاركة البيانات التي يحتاج إليها جميع بناة النماذج لإنشاء الجيل التالي من نماذج التنبؤ بالناتج المبينة على الذكاء الاصطناعي.

إضافة إلى ذلك، بما أن البيانات التدريبية المستمدة من تجزئة المحاصيل أصبحت متاحة على نطاق أوسع، فإن تمويل إنشاء خوارزميات مدربة مسبقاً تؤدي أداءً جيداً نسبياً و"تلائم" المحاصيل الشائعة سيكون قيماً. على غرار تقنية "بيرت" (BERT) التي طورتها "جوجل" لمعالجة اللغة الطبيعية أو نموذج "في جي جي 19" (VGG19) لتصنيف الصور. تساعد النماذج المفتوحة المصدر المدربة مسبقاً علماء البيانات في التركيز على تعديل النماذج ذات الأداء العالي لتلائم حالة الاستخدام التي يعملون عليها، بدلاً من البدء من نقطة الصفر. وإن الاستثمار الخيري الاستباقي، يمكن الممولين من الإصرار على الحصول على بيانات تدريبية أفضل وأكثر تمثيلاً ونماذج مدربة مسبقاً أنشئت مع الأخذ في الاعتبار احتياجات طائفة متنوعة من المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة.

نحن نقدم إطار العمل والتحليل في هذه المقالة كنقطة انطلاق للحوار وليس كحكم النهائي. إن الذكاء الاصطناعي يبشر بمستقبل واعد لتحسين حياة ملايين الأشخاص حول العالم من خلال إثبات الأدوات اللازمة لمواجهة التحديات الصحية والاقتصادية وفي التواصل على نحو مباشر. ويعد الاستثمار في الحلول التي تعالج المشكلات الاجتماعية المنتشرة على نطاق واسع، والاستفادة من المزايا النسبية الفريدة للذكاء الاصطناعي، ومعرفة مسارات واضحة للتوسع، نقطةً مناسبةً للانطلاق، على الرغم أنها قد تتطلب رأس مال صبور. ويعد تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي المجدية والقابلة للتوسع أمراً صعباً ويتطلب التزاماً مستداماً ببناء مجموعات البيانات والأنظمة والتطبيقات التي تركز على المستخدم، وتساعد في حل التحديات المجتمعية. يستطيع المستثمرون إطلاق العنان لقيمة اجتماعية ضخمة من خلال البقاء على نفس النهج ورؤية الابتكارات التكنولوجية الواعدة بتمعن على نطاق واسع.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي