مع تنامي مبالغ رؤوس الأموال التي تخصص للاستثمار المستدام والمؤثر، الذي أصبح الآن مسؤولاً عن دولار واحد من كل 3 دولارات من إجمالي الأصول الخاضعة للإدارة المهنية في الولايات المتحدة، بات من الضروري أن تتكيف المؤسسات غير الربحية مع عالم يتزايد فيه اختلاط أموال المؤسسات العامة والخاصة والخيرية لمعالجة جميع المشكلات بدءاً من التفاوت وصولاً إلى التغير المناخي.
ليس من المفترض طبعاً أن تصبح المؤسسات غير الربحية مماثلة لمؤسسات وول ستريت، كما أن عدة مؤسسات غير ربحية تعمل في مجالات لا تتأثر بتنامي قطاع الاستثمار المستدام والمؤثر، ولكن تبين نتائج دراسة أجريت في عام 2017 أن اثنين فقط من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر ، وهما تحقيق السلام والعدالة وإقامة الشراكات لتحقيق الأهداف، ليس لهما فرص في الاستثمار الخاص (على الرغم من أن بعض الأهداف الفرعية ضمن الأهداف الخمسة عشر المتبقية لا يلائم رأس المال الاستثماري، فقد تم تحديد عدد لا بأس به من الأهداف الفرعية الجاهزة للاستثمار بالفعل). تساعد الزيادة المتسارعة في استثمارات المحصلة النهائية المزدوجة (double bottom line) في منح الكثير من المؤسسات غير الربحية وسيلةً لجمع أموال من مصادر جديدة، وتتيح لها فرصة ذهبية لتوسيع مجال تأثيرها في هذه الحقبة الجديدة، وابتكار آلية لجمع رأس المال والتأثير في الجهات الفاعلة المالية لمواكبة هذا الزمن المتغير،
بناء على خبرتنا على اعتبارنا متبرعتَين ومستثمرتَين ساعدنا في إنشاء كثير من الابتكارات التي تبلورت نتيجة للتعاون بين أسواق رأس المال والقطاع غير الربحي، نرى أنه من الممكن أن تستفيد المؤسسات غير الربحية من هذا العصر الجديد بأربع وسائل:
1. أدوات سوق رأس المال وابتكاراتها
تستطيع المؤسسات غير الربحية التي تنفّذ برامج لمعالجة التحديات البيئية والاجتماعية تحويل بعض مبادراتها إلى مقترحات قابلة للاستثمار.
على سبيل المثال، اعتمدت مؤسسة حفظ الطبيعة (Nature Conservancy - TNC) حتى وقت قريب على التمويل الخيري لدعم مساعيها المهمة لحفظ الطبيعة في حقول الفحم بجبال أبالاشيا التي تتوسط الولايات الأميركية كنتاكي وتينيسي وفيرجينيا، وكانت تولي في عملها اهتماماً خاصاً بمدينة سانت بول التي تضم حقول فحم في جنوب غرب فيرجينيا على امتداد ضفاف نهر كلينش، وهي منطقة تعد منذ زمن طويل جوهرة التنوع البيولوجي إذ تضم أهم أنهار أميركا الشمالية الذي يحتضن أكبر كمية من أندر الكائنات المائية في العالم. ولكن نظراً لغابات المنطقة الثرية التي يمكن إدارتها على نحو أفضل من أجل الحفاظ على الأخشاب واستدامة إنتاجها (مع خلق فرص عمل جديدة للمجتمعات المحلية التي تعاني أوضاعاً متردية نتيجة تراجع صناعة الفحم)، لجأت المؤسسة إلى أسواق رأس المال.
أنشأت مؤسسة حفظ الطبيعة في عام 2019 شراكة غابة كمبرلاند المحدودة (Cumberland Forest Limited Partnership)، أو مشروع غابة كمبرلاند (Cumberland Forest Project)، وجمعت 130 مليون دولار من مستثمري القطاع الخاص من أجل شراء ما يزيد على 100 ألف هكتار من أراضي الغابات المنتجة في المنطقة، وتمكنت بعرضها من جذب المستثمرين الذين يركزون على الاستثمارات البديلة مثل الموارد الطبيعية الذين سيجنون إيرادات من موازنة الكربون ومبيعات الأخشاب المستدامة المعتمدة، إضافة إلى بيع الأراضي في نهاية مدة الاستثمار. تتيح هذه الهيكلية حصول المؤسسة على رأس مال أكبر بكثير من الذي ستحصل عليه بالاعتماد على التمويل بالتبرعات فقط لتحقيق هدف التأثير المتمثل في حماية المواطن الطبيعية والحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض.
2. نماذج جديدة للعمل الجماعي
حتى إذا لم تمتلك المؤسسات غير الربحية أصولاً أو برامج تجذب رأس المال الاستثماري حالياً، فيمكنها إنشاء بنية السوق التحتية وتسهيل وصول تدفقات رأس المال العالمية إلى الاستثمارات والممارسات التي يمكن قياس حجم أثرها في أهداف برامجها.
على سبيل المثال، يتفق واضعو السياسات مع الأوساط العلمية على أن حماية الغابات الاستوائية على نطاق واسع وإنشاء مسار عمل يتجه نحو إنهاء إزالة الغابات يشكلان الفرصة المثلى الوحيدة لإبطاء عملية التغير المناخي ثم إيقافها. تشير التقديرات إلى أن هذه الغابات تخزن ما لا يقل عن 250 مليار طن من الكربون، أي ما يعادل مجموع الانبعاثات الكربونية التي يتسبب بها البشر على مدى 200 عام. في عام 2019، ساعدت مؤسسة صندوق حماية البيئة (Environmental Defense Fund) في إنشاء منشأة غير ربحية تسمى إمرجنت فورست فاينانس أكسليريتر (إمرجنت) (Emergent Forest Finance Accelerator - Emergent)، بالشراكة مع حكومة النرويج وبرنامج زيرو غاب (Zero Gap) التابع لمؤسسة روكفلر فاونديشن (The Rockefeller Foundation). تعاونت هذه المؤسسات الشريكة في بناء وسيط يمكنه تسهيل الحركات المالية بين الشركات التي ترغب في شراء أرصدة الكربون أو تمويل وسائل تخفيض الانبعاثات من الغابات الاستوائية عالية الجودة، والسلطات القضائية التي تستطيع إنتاج هذه الوسائل.
يتمثل الهدف الأساسي في الحفاظ على الأشجار، وبالتالي الحفاظ على سلامة مصرف الكربون. منذ ذلك الحين، عملت مؤسسة إمرجنت على توسيع شبكة علاقاتها، وتمت مكافأتها مؤخراً من خلال تكليفها بتنسيق تشكيل تحالف تم الإعلان عنه في مؤتمر قمة القادة حول المناخ لعام 2021 بقيمة مليار دولار، وهو تحالف ليف (LEAF Coalition) (تخفيض الانبعاثات بتسريع تمويل الغابات).
3. تأسيس المشاريع القابلة للتمويل
على الرغم من تزايد أصحاب رأس المال الاستثماري الذين يبحثون عن الفرص الاستثمارية المستدامة والمؤثرة، تعاني تدفقات رأس المال غالباً مشكلة نقص المشاريع والأسواق الجاهزة للاستثمار، وبإمكان المؤسسات غير الربحية تلبية هذا الطلب بالاستفادة من خبراتها وشبكات علاقاتها للمساعدة في تصميم المشاريع المؤثرة وتهيئتها.
مثلاً، نحن اليوم بحاجة إلى بناء بنية تحتية حضرية قادرة على التجدد أكثر من أي وقت مضى؛ فمن المتوقع أن يعيش نحو 70% من سكان العالم في المناطق الحضرية بحلول عام 2050، والمدن هي مراكز الابتكار والنشاط الاقتصادي (تمثل 75% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، لكنها أيضاً معرضة بدرجة كبيرة للكوارث الطبيعية والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. لتلبية هذه الحاجة المتزايدة، تم إنشاء مؤسسة تمويل المدن سي 40 (سي إف إف) C40 Cities Finance Facility (CFF)، وهي تعاون بين شبكة المؤسسات غير الربحية في مدن العالم الكبرى الملتزمة بالتصدي للتغير المناخي، والتي تسمى (سي 40)، والوكالة الألمانية للتعاون الدولي (German Agency for International Cooperation). تعمل هذه المؤسسة على تسهيل تمويل المشاريع المعنية بتخفيف التغير المناخي وبناء القدرة على التجدد في المدن، مثل مشاريع الحماية من الفيضانات وإدارة مياه الصرف الصحي في مدينة دار السلام، من خلال تقديم المساعدة الفنية لإنشاء مشاريع قابلة للتمويل. وأقامت مؤسسة تمويل المدن شراكة أعلنت عنها مؤخراً مع الجمعية البرازيلية للطاقة الشمسية الكهروضوئية (Brazilian Solar Photovoltaic Energy Association) لدعم المدن البرازيلية كوريتيبا وريو دي جينيرو في إعداد المشاريع وابتكار آليات سياسية تحفز زيادة استخدام الطاقة الشمسية، وهي أول المشاريع في أميركا اللاتينية من هذا النوع تركز على تركيب أنظمة الطاقة الشمسية في مكبات النفايات السابقة وساحات مواقف الحافلات.
4. الدعوة إلى تحقيق الأثر الاجتماعي والبيئي في أسواق رأس المال
إذا ركزت المؤسسات غير الربحية على قوة رأس المال الاستثماري في إحداث أثر إيجابي على المجتمع والبيئة فستتمكن من التشارك مع المستثمرين والشركات لإنشاء منتجات مالية تدعم الدعوة إلى التغيير.
خذ مثلاً جمعية الشابات المسيحيات (YWCA)، وهي مؤسسة عالمية غير ربحية رائدة في مناصرة المرأة منذ أكثر من 160 عاماً، إذ ساعدت في عام 2018 على تطوير شراكة استثمارية مبتكرة لتوجيه رأس المال الاستثماري نحو الشركات المستدامة ومساعدتها على تحسين سياسات أعمالها، حيث تشاركت مع مؤسسة إمباكت شيرز (Impact Shares)، وهي مؤسسة غير ربحية لإدارة الأموال، وأطلقتا صندوق نقد متداول بعنوان تمكين النساء المشترك بين جمعية الشابات المسيحيات وإيمباكت شير (Impact Shares YWCA Women's Empowerment)، وأدرِج في بورصة نيويورك للأوراق المالية برمز وومن (WOMN). كي يقوم صندوق وومن باستثماراته يعمل على تتبع قائمة من قرابة 200 شركة أميركية ذات رأسمال سوقي كبير ومتوسط تستوفي مجموعة معايير مصممة لقياس تمكين المرأة، مع مراعاة ممارسات الشركة وسياساتها في مواضيع مثل التكافؤ بين الرجل والمرأة، والمساواة في الأجور، والتوازن بين الحياة والعمل. تستفيد جمعية الشابات المسيحيات من خبرتها في هذه الشراكة بعدة طرق، وتخوض حواراً مع الشركات حول طرق تنفيذ سياسات محكمة لتحقيق المساواة بين الجنسين والحفاظ عليها. وفي المقابل، تتبرع مؤسسة إمباكت شيرز بجميع أرباحها من إدارة صندوق وومن لجمعية الشابات المسيحيات، وقال رئيسها التنفيذي، إيثان باول، عند طرح المنتج: "توفر إيرادات صندوق النقد المتداول الأدوات التي تحتاج جمعية الشابات المسيحيات إليها من أجل توسيع تأثيرها وإيصاله إلى القطاع الخاص، ومساعدة الشركات في قيادة الجهود المتعلقة بقضايا المرأة".
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.