تأسيس بنية تحتية للأعمال التجارية ذات الأهداف الاجتماعية (الجزء الثاني)

تغيير بيئة عمل الشركات
shutterstock.com/Brian A Jackson
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الثاني من سلسلة “تأسيس بنية تحتية للأعمال التجارية ذات الأهداف الاجتماعية” التي تحدثنا في جزئها الأول عن كيفية تأسيس بنية تحتية للأعمال ذات الأهداف الاجتماعية. واليوم في هذا المقال سنتحدث عن تغيير بيئة عمل الشركات في سبيل بناء بنية سليمة للأعمال التجارية.

في سبيل بناء بنية تحتية لعالم الأعمال التجارية؛ يتطلب الأمر تغيير بيئة عمل الشركات ويتطلب هيكليات قانونية مُحسّنة تتحمل المسؤولية، إلى جانب معايير استدامة وأنظمة مساءلة، وزيادة في فُرص التمويل.

الهيكليات القانونية

حتى وقت قريب، كان هناك عدد قليل من الهيكليات القانونية المصممة خصيصاً للشركات الاجتماعية، لكن تغيّر هذا الأمر خلال السنوات القليلة الماضية. يختلف الشكل الدقيق الذي تتخذه هذه الهيكليات القانونية الجديدة من دولة إلى أخرى، ومنها: شركات المصلحة المجتمعية في المملكة المتحدة، و شركات المهمة (sociétés à Mission) في فرنسا، والمؤسسات الاجتماعية في كوريا الجنوبية، وشركات المنفعة في بعض الولايات في الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال لا الحصر.

ومع ذلك، فإن المقابلات التي أجريتُها مع قادة الشركات الاجتماعية تشير إلى أن عدم الإلمام بهذه الهياكل القانونية الجديدة وعدم اليقين بشأنها لا يزالان يجعلان الاستفادة منها أمراً صعباً. لذلك، توجدُ حاجةٌ إلى إجراء تقييمٍ منهجي لِما إذا كانت هذه الهيكليات تساعد الشركات الاجتماعية بالفعل على تحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية والمالية بشكلٍ أفضل. يجب على صانعي السياسات النظر في المزايا التي قد تكسبها المؤسسات من خلال استخدام هذه الهيكليات القانونية، وذلك من أجل ضمان تحفيز الشركات بشكل صحيحٍ على تبنّيها.

إن وضع هذه الأنماط القانونية خطوة مهمة في تغيير البيئة المؤسساتية، لكنها لا تكفي وحدها. إن تبنّي هذه الأنماط بالطبع لا يضمن الدعم العمليّ للسعي المستدام نحو الأهداف المشتركة. كما يتضح من الإطاحة برئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة “دانون” التي حصلت مؤخراً – وهي شركة منتجات غذائية متعددة الجنسيات والتي أصبح فرعها في الولايات المتحدة شركة ذات منفعة في عام 2018 وأصبحت الشركة ككل شركة لمهمة (société à mission) في فرنسا اعتباراً من عام 2020. ببساطة، إن تبني واحدة من هذه الأشكال القانونية الجديدة لا يضمن لك الدعم المطلوب للقيادة المؤسساتية كي تستطيع السعي نحو الأهداف الاجتماعية والبيئية إلى جانب الأهداف المالية على المدى الطويل. يتطلب القيام بذلك تغييراً في العقلية، ليس فقط بين قادة الشركات، ولكن أيضاً بين المستثمرين والسلطات العامة. ولتسهيل هذا التغيير، نحتاج إلى إنشاء معيار جديد؛ معيار يفرض علينا تقييم أداء الشركة ليس فقط بناء على نتائجها المالية، ولكن أيضاً بناء على آثارها الاجتماعية والبيئية.

معايير الاستدامة وآليات المساءلة

في حين أن الأمر يستحق الثناء من الناحية النظرية، فإن إعلان الشركات عن نواياها لتحقيق أهداف تتجاوز تعظيم أرباح المساهمين أثبتت أنها غير كافية لإحداث تغيير حقيقي. على سبيل المثال، قد تكون الشركات التي كانت جزءاً من جمعية “بزنس راوند تيبل في الولايات المتحدة” (US Business Roundtable) في عام 2019 قد وقّعت على اتفاقية عامة مشتركة للنظر في مصالح موظفيها وأصحاب المصلحة وليس مصالح المساهمين فقط، لكن ثبت أنها من المرجح ستقوم بطرد موظفيها في بداية جائحة “كوفيد-19” أكثر بـ 20% من شركات أخرى لم توقع هذه الاتفاقية. كما أنها أقل احتمالاً من غيرها أن تساهم بالتبرع لجهود الإغاثة، وتقديم تخفيضات للزبائن، وتحويل الإنتاج إلى بضائع متعلقة بالجائحة. على عكس التصريحات المليئة بالنوايا الحسنة، أظهرت الأبحاث أن آليات ضمان المساءلة التنظيمية هي المفتاح لقيادة التغيير الحقيقي داخل بيئة العمل للأعمال التجارية.

تتمثل إحدى طرق إنشاء آليات المساءلة هذه في تطوير معايير الاستدامة التي تُقيّم عمل جميع الشركات، وليس فقط الشركات الاجتماعية، بناءً على أدائها الاجتماعي والبيئي جنباً إلى جنب مع أدائها المالي. وضعت المؤسسات والمبادرات التي طورت معايير الاستدامة وحرصت على تطبيقها مثل (المبادرة العالمية لإعداد التقارير، ومجلس معايير المحاسبة المستدامة (SASB)، ومبادرة الحسابات الموزونة المؤثرة)، الأساس لإعداد تقارير أكثر شمولاً. ومع ذلك، فإن إنشاء هذه المعايير ليس سوى الخطوة الأولى. ستكون هناك حاجة إلى إجراء حكوميّ لضمان اتخاذ المؤسسات بدورها خطوات جوهرية لتتبع آثارها الاجتماعية والبيئية والإبلاغ عنها وتحسينها.

بينما يمكن للحكومات في جميع أنحاء العالم مراقبة تقارب معايير الاستدامة ضمن إطار عمل عالميّ شاملودعمها، يجب اتخاذ إجراءات احترازيةٍ أيضاً، مثلاً يجب أن تكون عملية تطوير مثل هذه المجموعة المتقاربة من المعايير وصيانتها عملية متطورة باستمرار، ويجب أن نكون حذرين بشأن كيفية استخدام هذه المقاييس وتحديثها بالضبط، وذلك لأن قضايا الاستدامة قضايا ديناميكية بطبيعتها. دعماً لهذه النقطة، أكّد الممارسون مثل جان روجرز؛ المؤسس والرئيس التنفيذي السابق لشركة “إس أيه إس بي” (SASB)، على أهمية الحاجة إلى وضع معايير لتمكين الصناعات وتحفيزها لمعالجة المشاكل الناشئة قبل أن تترسخ بالكامل.

من خلال الإنشاء الدقيق لإطار عمل شامل والمحافظة عليه، يمكن للدول دعم نمو الشركات الاجتماعية من خلال تبني نظام ضريبي تصاعدي يأخذ في الاعتبار التأثيرات الاجتماعية والبيئية. يمكن أن يساعد فرض نظام ضرائب على الشركات بشكل تدريجي على تمهيد الطريق للتغيير الجذري الضروري في بيئة الأعمال، عندما يقترن بالتطبيق الفعال للتشريعات الحالية.

الوصول إلى التمويل

الحاجة لرأس المال مهمة لبدء أي شركة اجتماعية ونموها، حتى في بيئة تتمتع بهيكليات قانونية مُحسّنة ومعايير استدامة أفضل من غيرها، مجتمعة مع نظام مساءلة فعال. إلا أن الشركات الاجتماعية تواجه تحديات مستمرة في الوصول إلى رأس المال الضروري هذا، وذلك لأنها لا تندرج تحت تصورات المؤسسة الاجتماعية الربحية التقليدية أو المنظمة الاجتماعية التقليدية. قد يكون صعباً عليها أن تكون حاضرة في مجالين مختلفين تماماً وإقناع المستثمرين بشرعيتها في بيئة عمل مصممة لتدعم إما هذا المجال أو ذاك.

ساعد تطوير ونمو الاستثمار المؤثر على تلبية الحاجة إلى شركات التمويل ذات التأثيرات الاجتماعية والبيئية الإيجابية. ويُقدّر الاستطلاع السنوي لعام 2020 لشبكة “غلوبال إمباكت إنفستنغ” (Global Impact Investing) أن سوق الاستثمار المؤثر العالمي الحالي يبلغ حوالي 715 مليار دولار. ولكن على الرغم من النمو المطرد لسوق الاستثمار المؤثر، يشعر العديد من أصحاب المصلحة بالقلق من أن الشركات ستضع علامة تجارية مزيفة على منتجاتها كاستثمارات مؤثرة، دون أي اعتبار لتأثيراتها الاجتماعية والبيئية الفعلية. في الواقع، وجد استطلاع منظمة “جي آي آي إن” (GIIN) لعام 2020 أيضاً أن مخاوف المستثمرين الاجتماعيين بشأن هذه الممارسات الخادعة، التي يطلق عليها اسم “غسل الأثر”، كانت العقبة الأكثر انتشاراً التي توقع المشاركون في الاستبيان مواجهتها في السنوات الخمس المقبلة.

تتضمن بعض الاستراتيجيات الممكنة للمساعدة في التخفيف من هذه العقبات تطويرَ نظام الحوافز ودعم البنية التحتية لدفع النمو المستمر للقطاع، بالإضافة إلى وضع خط أساس موحد للشفافية بين المستثمرين المؤثرين والمؤسسات التي يمولونها. ستساعد هذه التغييرات على خلق المزيد من الثقة، إلى جانب استخدام معايير الاستدامة التي يمكن استخدامها لمحاسبة الشركات، وستقطع شوطاً طويلاً نحو تهدئة المخاوف بشأن “غسل الأثر” والاستثمار المؤثر على نطاق أوسع.

أدت عيوب النموذج المتمحور حول المساهمين – والتي تفاقمت بسبب الأزمة الاقتصادية لعام 2008 وجائحة “كوفيد-19” الحالية – إلى نشوء مجتمع غير متوازن وكذلك ساهمت في التدهور المستمر والمتزايد بسرعة للبيئة. من الواضح أن الوضع الراهن غير مستدام إطلاقاً. ضمن هذا السياق، يمكن أن تكون الشركات الاجتماعية في طليعة بيئة العمل الأكثر وعياً اجتماعياً وبيئياً والتي تضع الإنسانية والكوكب نصب عينيها. ومع ذلك، كما رأينا، لا يمكن للشركات الاجتماعية أن تقود هذا التغيير بمفردها. يجب أن يتغير أيضاً السياق المؤسسي الذي تعمل فيه المؤسسات، وتحتاج الحكومات إلى اتخاذ إجراءات لتغيير قواعد اللعبة وتحفيز جميع الشركات على تبني الأهداف الاجتماعية والبيئية جنباً إلى جنب مع الأهداف المالية. ونحن، كمواطنين ومستهلكين، نحمل المسؤولية للقيام بما في وسعنا في سبيل تسهيل هذه التغييرات الحاسمة.

الوقت عامل أساسي، وجائحة “كوفيد-19” هي نقطة انعطاف مهمة. يمكننا إما أن نقرر التعلم من هذه الأزمة أو مواصلة العمل كالمعتاد بمفردنا ونترك كوكبنا عرضة للخطر. بينما لا نستطيع إحداث تغيير بيئة عمل الشركات على النطاق المطلوب عندما نعمل وحدنا؛ يمكننا توحيد القوى للضغط من أجل التغيير من خلال الحركات الجماعية، كما أوضحتُ أنا وتيزيانا كاسيارو في كتابنا القادم القوة، للجميع: كيف تعمل حقاً ولماذا الأمر يهم الجميع (Power, For All: How It Really Works And Why It Is Everyone’s Business). يمكننا معاً، من خلال التحكم في الموارد القيمة، سواء عبر أصواتنا الانتخابية أو أصواتِنا أو مَحافِظَنا، ممارسةُ القوة اللازمة لتغيير نظامنا الاقتصادي. الأمر منوط بنا لنكون على قدر التحدي لضمان أن الشركات التي تتعرض للمساءلة لا تتعرض للمساءلة فقط حول تأثيرها المالي بل أيضاً حول تأثيرها الاجتماعي والبيئي ليصبح ذلك مع مرور الوقت الأمر التقليدي الشائع وليست الاستثناء.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.