تفرض التحديات المعقدة والمتسارعة على الجميع من أفراد ومؤسسات وشركات وحكومات، الانخراط في العمل الجاد والمسؤول لتصحيح المسار وجعل العالم مكاناً أفضل للعيش، فتجد الشركات نفسها مطالبة بخدمة المجتمع والإسهام في تنميته، ولا تقتصر هذه المسؤولية الاجتماعية على تقديم المساعدات والإعانات الخيرية، بل تتعدّى ذلك لتصبح سلوكاً وممارسات مستدامة تدخل في صلب الثقافة التنظيمية للشركة وقيم العاملين فيها.
معنى الثقافة التنظيمية
برز مصطلح الثقافة التنظيمية أو ثقافة الشركة في سبعينيات القرن العشرين وبحسب الأستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "التصورات التنظيمية والثقافية" (Organizational and Cultural Perspectives)، ستانلي دافيس، يشير المصطلح إلى مجموعة التقاليد والمبادئ الجماعية والقيم الأخلاقية والأعراف السائدة في أي شركة، التي تؤثر بدرجة كبيرة في تشكيل هوية الشركة وتصويب قرارات قادتها وتوجيه سلوك موظفيها وبناء قنوات التواصل.
بهذا المعنى فإن الثقافة التنظيمية هي أسلوب عمل يبدأ بتوضيح استراتيجية الشركة، مروراً بتحديد طريقة عمل الموظفين، وصولاً إلى كيفية تحقيق الأهداف المنشودة. لكن ما علاقة ذلك بالمسؤولية الاجتماعية للشركات؟
الدمج بين الثقافة المسؤولية الاجتماعية للشركات
أثبتت الدراسات أن الوعي بأهمية المسؤولية الاجتماعية للشركات زاد ازدياداً ملحوظاً خلال الأعوام الأخيرة خصوصاً مع صعود جيل زد (Gen z)، فنحو 77% من البالغين يقيّمون ثقافة الشركة قبل التقدم للعمل فيها، وأكد 70% من الموظفين أنهم لن يعملوا في مؤسسة من دون هدف قوي وواضح، وأبدى 77% من المستهلكين حماسهم للشراء من الشركات الملتزمة بجعل العالم مكاناً أفضل، وذكر 73% من المستثمرين أن الجهود التي تبذلها الشركات لتحسين البيئة والمجتمع تسهم إسهاماً كبير في قراراتهم الاستثمارية.
على الرغم من أن الشركات تعمل على دمج المبادرات الاستراتيجية للمسؤولية الاجتماعية في نماذج أعمالها، وتركز على مقاييس الاستدامة من خلال اتباع معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والحوكمة فإن فعالية الجهود في هذا الإطار تتطلب انعكاس الممارسات المسؤولة في ثقافة الشركة ومواءمة أنشطة المسؤولية الاجتماعية مع استراتيجية العمل الشاملة.
مهما كانت القيم التي تركز عليها الشركة؛ يمكن أن تعكسها في أهدافها الداخلية وتدعمها على كل المستويات. على سبيل المثال، يمكن التركيز على إعادة التدوير واستخدام مصادر الطاقة المتجددة لدعم جهود مكافحة التغير المناخي، أو قد يسهم تحديد أهداف التنوع في الفريق في تعزيز هدف المساواة بين الجنسين.
القادة أساس بناء الثقافة
تؤدي المسؤولية الاجتماعية دوراً مؤثراً في إرساء العدالة الاجتماعية وسيادة مبدأ تكافؤ الفرص بالإضافة إلى تحسين جودة الحياة في المجتمع عبر تطوير مجالات الثقافة والبيئة والبنية التحتية، لكن نجاح استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركات تتطلب وجود ثقافة داعمة ومترسّخة من الأعلى إلى الأسفل.
إذ يتعين على القادة والإدارات العليا إدراك أن الأمر أكثر من مجرد تحقيق أرباح، وأن هناك مسؤولية حقيقية تجاه المجتمع والبيئة المحيطة تحتاج إلى اتباع أسلوب أكثر انفتاحاً في إيصال قيم الشركة لموظفيها.
وإليك مثالاً عملياً، فقد كشفت دراسة تحليلية في مصر عن ضعف الثقافة التنظيمية في الشركة العامة للصناعات الدوائية، ما أثر سلباً على التزامها بمسؤوليتها الاجتماعية، وأوصت الدراسة بضرورة ترسيخ قيم الثقافة التنظيمية بأبعادها المختلفة، وعقد دورات تدريبية أو إعداد دليل أو كتيبات لتوعية الموظفين بأهمية المسؤولية الاجتماعية للشركة.
وركزت دراسة أخرى بعنوان: "تأثير القيم الثقافية على تعزيز الإفصاح عن المسؤولية الاجتماعية" على أهمية تبنّي الإدارة العليا للقيم الأخلاقية المتعلقة بالعدالة والمسؤولية وخدمة المجتمع وحماية البيئة من أجل تحسين جودة الإفصاح عن المسؤولية الاجتماعية ومصداقية التقارير المالية والاجتماعية والحد من انتشار المعلومات المضللة.
هل تسير ثقافة الشركة في الاتجاه الصحيح؟
من الصعب توحيد المقاييس التي يجب استخدامها في التحقق من أن النتائج تسير في الاتجاه الصحيح نظراً لاختلاف العوامل المؤثرة في تقييم ثقافة الشركة التي تشمل تاريخ الشركة، والمناخ التنظيمي أو السياسي السائد في الدولة، إضافة إلى المعايير الثقافية وثقافة الأعمال المحلية.
كما يوجد اختلافات في المسؤولية الاجتماعية للشركات بين الدول بحسب حجم الشركة وأدائها، وشدة المنافسة والقوانين المتبعة في دولة معينة، وكثافة عدد المنظمات غير الحكومية وطبيعة الثقافة الوطنية السائدة فيها.
لذا يقع على عاتق كل شركة على حدة تحديد المجالات التي ينبغي التركيز عليها ووضع مقاييس فعّالة تكشف مدى قدرتها على تحقيق أهدافها، وأن تتمتع بالشفافية فيما يتعلق بأنشطة المسؤولية الاجتماعية وتوضيح الأثر الفعلي لمبادراتها كي تثبت لأصحاب المصلحة مدى جديتها في إحداث فرق.
بصورة عامة، وبعيداً عن حجم الشركة وقيمها وأهدافها، فإن النجاح يبدأ من بناء ثقافة تنظيمية سليمة تتوافق مع الأهداف الاستراتيجية للمسؤولية الاجتماعية، وكما يقول المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة إير بي إن بي (Airbnb): براين تشيسكي: "عندما تكون الثقافة قوية، يمكنك الوثوق بالجميع لفعل الشيء الصحيح".