يرى القطاع الاجتماعي في تطوير القيادة استثماراً جيداً وبخاصة عندما يتعلق بالتغيير على مستوى الأنظمة. لكن عندما نسأل مطوري برامج القيادة ومقيّميها "ما القيادة؟" سنحصل على إجابات غامضة مليئة بالتحيزات المحتملة مثل "لا تخفي نفسها"، أو "مزيج خاص"، وهما إجابتان شائعتان إلى درجة تدعو إلى الدهشة.
لكن التعريف الواضح للقيادة أمر ضروري لتقييم جودة برنامج التنمية وفعاليتها، فهو يحدد الأهداف الواضحة التي ترشدنا إلى معرفة مدى نجاح العمل.
فلماذا إذاً يصعب علينا تعريف القيادة؟ يرجع السبب في ذلك إلى طبيعة قيادة التغيير الاجتماعي المعقدة والدائمة التغير التي تعتمد على سياق العمل الاجتماعي. يضمن أسلوب تقييم تنمية القيادة باعتماد منظور النظريات التقليدية أن يكون التقييم ذا أهداف واضحة وقائماً على أسس متينة. وبإضافة منظور نهج "الظهور" نوسّع دائرة التركيز لتشمل السياقات والتكيفات والأفكار التي تنشأ من واقع العمل داخل الأنظمة المعقدة. والجمع بين هذين الأسلوبين في التقييم يعطي المقيّمين صورة أكثر ثراء وديناميكية لطريقة ممارسة القيادة وطرق دعمها لتغيير الأنظمة.
وكما أوضحت مقالات أخرى في هذه السلسلة، فالأساليب التقليدية لتطوير القيادة التي تركز على مسار خطي لتحويل الفرد من "غير قائد" إلى "قائد" أصبحت قديمة. وبدلاً من الاستمرار في العمل وفقاً لنموذج التصنيف الثنائي "غير قائد، قائد"، على المؤسسات النظر إلى تطوير القيادة كسلسلة من الحلقات المتصلة. فممارسة القيادة تتغير بمرور الوقت على خلاف ثبات وجود القادة. وتختلف ممارسة القيادة في السياقات المختلفة، وتتطلب التعاون، حتى إنها تشمل التخلي عن السلطة لآخرين. لذا لا يسمح نهج الظهور للخبراء بالنظر فيما خططوا ونظرّوا له ليكون نتيجة لأعمال تطوير القيادة الخاصة بهم فحسب، بل بالنظر في العمليات والنتائج التي تظهر بالفعل، مثل النتائج الواقعية غير المتوقعة عن العمل المعقد للقيادة وتغيير الأنظمة.
يمثل دمج نهج الظهور في برامج تنمية المهارات القيادية تحديات وفرصاً في تقييمها. فهو يتيح تعريفات متعددة للنجاح، وتهيئة أفضل للسياق، ما يرفع من مستوى الدقة والأفكار والتحسن. وضع كتاب "دليل تقييم تطوير القيادة" (The Handbook of Leadership Development Evaluation)، الذي نُشر في عام 2006 أساساً متيناً لنهج التقييم العام. ومنذ ذلك الحين أصبح المقيمون أكثر تقبلاً للتعقيد والأساليب التشاركية (مثل إشراك أصحاب المصلحة المباشرين في جميع جوانب التقييم) والأطر المتعددة الأساليب (مثل استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب في التقييم نفسه). بالإضافة إلى ذلك ثمة 4 ممارسات يمكن أن تساعد المؤسسات على مواكبة التعقيد والفوارق الدقيقة ونهج الظهور في تصميم برامج تطوير القيادة. وتشمل هذه الممارسات تكييف النماذج المنطقية للبرنامج، ومزج طرق تقييم ذات أهداف مختلفة، وإعادة النظر في الفائدة المرجوة من التقييم، وإعادة هيكلية التقييمات.
كيّف ولا تلغِ نموذجك المنطقي
يحدد النموذج المنطقي العلاقات السببية المفترضة بين موارد البرنامج وأنشطته والنتائج المرجوة منه. يشمل استخدامنا للمصطلح المصطلحات المناسبة له مثل نظرية الفعل (كيف تؤدي الإجراءات المحددة إلى التغيير) ونظرية التغيير (كيف يحدث التغيير على نطاق أوسع). تحلل النماذج المنطقية الافتراضات التي تكمن وراء البرامج عبر دراسة أسئلة مثل: بالنظر إلى مواطن القوة الحالية للمشاركين المحتملين، لماذا نعتقد بضرورة تطوير القيادة؟ هل نتوقع أن يتمكن المشاركون من استخدام المهارات التي يطورونها في أثناء البرنامج في سياقهم الحالي، أم أنهم بحاجة إلى مساعدة لتسهيل استخدام هذه المهارات؟ في بيئات العمل المعقدة، كيف يساعد تدخلنا المشاركين على تجاوز التعقيد؟ والأهم من ذلك، عندما نقول قيادة أو شبكة أو مجتمع فماذا نقصد بالضبط؟
يضعف تأثير المؤسسات التي لا تأخذ الوقت الكافي للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة غالباً. على سبيل المثال، إذا كان أحد البرامج يهدف إلى تغيير المجتمعات ولكنه مصمم بشكل أساسي لبناء مهارات القادة الفرديين، فمن المحتمل أن يصاب مصممو البرنامج بخيبة أمل بسبب نتائج البرنامج التي تُظهر التغيير الفردي على نحو غير متناسب. في المقابل ستكشف البرامج التي تستخدم نموذجاً منطقياً عدم التناسب هذا من البداية. لذلك نشجع المؤسسات على استخدام النماذج المنطقية كأدوات لربط الأهداف عبر برامجها مع مراعاة 3 نقاط.
أولاً، لا تتردد بتغيير نموذجك المنطقي لتحسين الفهم فيه. يشعر بعض المختصين أن النماذج المنطقية تلزمهم بطريقة واحدة في التفكير وذلك يحد من قدراتهم. في حال أدركت أن العمل لن ينجح لا تغير برنامجك فحسب، بل غيّر نموذجك المنطقي والافتراضات ذات الصلة. على سبيل المثال، في حال لم يستخدم المشاركون وحدات التدريب النمطية الخاصة بالبرنامج، بدلاً من التخلص منها، ابحث في أسباب ذلك وفكر في إجراء تعديلات على نموذجك المنطقي حتى تولد الوحدات النتائج المرجوة.
ثانياً، ادعُ المشاركين في البرنامج لمشاركتك في تطوير النموذج المنطقي. إذ يمكنهم تقديم رؤى مهمة حول طرق حدوث التغيير، وستساعد هذه العملية على مواءمة توقعات الجميع بخصوص البرنامج والنهج المتبع. على سبيل المثال، تعلم المشاركون في أحد البرامج التي قيّمناها أن بناء شبكة يعد هدفاً مهماً للمصممين. كما حددوا طرقاً إبداعية لبنائها لم يفكر بها مصممو البرنامج مسبقاً، ثم وضعوا أهدافهم الخاصة للنجاح.
أخيراً، بدلاً من التركيز على الرؤية الشاملة، قسمها إلى أجزاء. كيف يبدو النموذج المنطقي من منظور المجتمع؟ وكيف يبدو من المنظور الفردي؟ كيف يبدو من منظور المؤسسة؟ ما الذي يسهم به الممول بالإضافة إلى التمويل؟ في نهاية هذا العمل، وبدلاً من اختيار نموذج واحد، فكر في دمج نموذجين. طلبنا في أحد التقييمات من الفريق الذي ينفذ البرنامج أن يصف ما يعتقد أنه النموذج المنطقي للممول. أظهر هذا التمرين البسيط أن الممول لا يستغل موارده غير المالية بدرجة كافية وسلط الضوء على طرق جديدة لدعم البرنامج.
استخدم أساليب متعددة
يرسم دمج مجموعة متنوعة من الأساليب التي تخدم أغراضاً مختلفة صورة أكمل للمهام الناجحة وغير الناجحة ولما يهم جميع المعنيين. إذ تساعد الأساليب التقليدية والاستنتاجية مثل الاستقصاءات السابقة واللاحقة، ومقابلات المشاركين، وتحليل الشبكة الاجتماعية، على تقييم تحقيق البرنامج للنتائج المرجوة، بينما تكشف الأساليب الفهمية عن السياق المهم وعن عناصر البرنامج وفرصه التي لم يأخذها مصممو البرنامج في الحسبان. وتمنح الأساليب الفهمية فرصة التعبير لمجموعة أكبر من المتعاونين، من ضمنهم المشاركون، وتحافظ على مشاركتهم حتى مع تطور البرنامج. فيما يلي بعض الأمثلة على الأساليب واستخداماتها المحتملة.
- تقييم الكفاءة (استنتاجي): يتضمن هذا الأسلوب استخدام الرؤى الذاتية أو أفكار الأقران أو المدراء لتحديد مواطن القوة أو الثغرات في المهارات والمعرفة والقدرات ذات الصلة بالفرص. وهو أداة تعليمية للتطوير المهني ومواءمة الفرص وتكوين الفرق.
- مقابلات مع شركاء المجتمع (استنتاجي): يجمع هذا الأسلوب وجهات نظر أعضاء شبكة أحد المشاركين حول دور المشارك في المجتمع و(أو) التغييرات في بيئة العمل المشتركة التي يؤثر فيها عمل المشارك. ملاحظة: لا نشجع على سؤال أعضاء الشبكة إذا ما كانوا يعدون المشارك قائداً أو عن مدى تحسنه.
- تقرير ذاتي عن العمل القيادي (فهمي): يتضمن ذلك فهم تعريف المشاركين في البرنامج للقيادة في سياقاتهم بناءً على سؤال محدد مثل "ما هي الإجراءات التي تفتخر بها في المواقف التي أديت فيها دوراً قيادياً خلال العام الماضي؟" فهو يركز على آراء المشاركين ويشير إلى أنواع القيادة التي يعتقدون أنها جديرة بالاهتمام.
- التغيير الأهم (فهمي): يسأل هذا الأسلوب المشاركين عما تغيّر نتيجة للبرنامج، ثم يراجع الإجابات بطريقة منهجية لفهم التغيير المهم بنظر منفذي البرنامج ومموليه والمشاركين فيه. ويسمح لهم بالتأمل وتحديد سبب اعتقادهم أن قصص المشاركين تشكل نجاحاً، ومقارنتها بآرائهم حول النجاح. يوفر هذا الأسلوب الفرصة للمجموعات المختلفة لتعزيز الإجماع والوضوح حول غاية البرنامج، ثم إعادة التركيز وإعادة التوافق حول أهداف البرنامج.
- دورة التعلم السريع (فهمي): يجمع هذا الأسلوب البيانات الآنية التي تسمح بالتحسين المستمر للبرنامج والتكيف مع البيئات المتغيرة. ويتضمن أدوات مثل اختبار أ/ب ومراجعات ما بعد العمل التي تختصر حلقة الملاحظات التقييمية وتوفر ملاحظات فورية للبرنامج.
ادمج النتائج على نحو مستمر
يتيح استخدام هذه الأساليب وبخاصة الأساليب الفهمية للمؤسسات تفسير ما يحدث في بيئة عمل البرنامج وإجراء التعديلات لتحقيق التأثير المطلوب.
عندما تفهم المؤسسات كيف يصف المشاركون أنشطتهم القيادية يمكنها تصميم برامجها بشكل أكثر فعالية. على سبيل المثال، بدأت مبادرة تغيير القيادة التابعة لمؤسسة روبرت وود جونسون (Robert Wood Johnson Foundation) دمج الاجتماعات الإقليمية لتعزيز التعاون مع العمل لتحقيق أهداف العدالة الصحية الأوسع استجابةً لملاحظات المشاركين. ويستخدم برنامج تطوير القيادة في مجال الصحة لمؤسسة غلوبال هيلث كوربس (Global Health Corps) أساليب مماثلة لإيصال البرامج واستهدافها وفرزها بحيث يمكن للمشاركين تحقيق النمو في مجموعة متنوعة من مجالات القيادة.
كما يمكن أن تساعد هذه الأساليب مدراء برامج تطوير القيادة على فهم تغيّر احتياجات المشاركين. على سبيل المثال، أعطى استخدام أساليب التعلم ذات الدورة السريعة لمؤسسة روبرت وود جونسون الأفضلية في أثناء جائحة كوفيد-19 واكتسبت حركات العدالة العرقية زخماً في عام 2020. وأظهرت البيانات أن العديد من المشاركين في برنامج القيادة يؤدون أدواراً جديدة، مثل تقديم خدمات الرعاية الصحية عن بُعد، وزيادة الوعي بالجائحة، والدعوة إلى المساواة في التعليم والرعاية الصحية، والدمج المتعمد لمفاهيم العدالة العرقية في عملهم. سمحت هذه البيانات لمنفذي البرامج المؤسسية والقيادية بالنظر في التغييرات التي تطرأ على تدخلاتهم، مثل زيادة الدعم المالي وربط المشاركين الذين يعملون على تحديات مماثلة أو في مناطق جغرافية مماثلة.
أخيراً، تساعد هذه الأساليب في الحفاظ على توافق الآراء بين المشاركين ومنفذي البرامج والممولين حول تركيز البرنامج والغرض منه، وذلك لأنه يتكيف مع التغيير والتعقيد. توصلنا في أحد التقييمات إلى أنه بمرور الوقت طور الفريق الذي يدير البرنامج ومموليه فهماً مختلفاً تماماً لنجاح البرامج، ما أدى إلى إرباكهم وإحباطهم. استخدمنا أسلوب التغيير الأهم لمساعدة كلتا المجموعتين على توضيح معنى النجاح من منظورنا، وباستخدام الأمثلة الملموسة قرّبنا وجهات النظر.
إعادة هيكلية التقييمات
حتى مع وجود إيمان قوي بأهمية جمع البيانات واستخدامها، ما يزال إجراء التقييم عملاً شاقاً، وبخاصة بالنسبة إلى المؤسسات الصغيرة. وبالإضافة إلى ذلك، قد تغرق المؤسسات في دورات متكررة من التقييمات التي تلبي طلبات المانحين أو برامج التعلم دون فهم تأثير جهودها أو مواضع التكيف. ومع أن التقييم الفعال من منظور نهج الظهور في متناول أي برنامج لتطوير القيادة، ليست كل الأساليب مناسبة. إذ يجب أن يتناسب حجم التقييم وأسلوبه ونطاقه مع عدد الموظفين ومستوى الاستثمار المالي والطلب على المشاركين والأطر الزمنية للتدخل.
تتمثل إحدى طرق التخطيط لتقييم متكيف وذي جدوى بأي حجم كان في تأطيره كجزء من التدخل. تعزل المؤسسات عملية التقييم، وتقلل من استخدامها كمورد. وبدلاً من إجراء مقابلات حول قضية واحدة مثل كفاءة البرنامج أو توقعات المشاركين، يمكن للمقيّمين التفكير في إذا ما كان لدى الآخرين في مؤسستهم أسئلة ذات صلة مثل التوعية بالعلامة التجارية أو اتصالات إدارة التغيير القادمة، وفي حال كان ذلك ممكناً، أدرجها بنفس العملية. ومن المفيد أيضاً التفكير في مشاركة ملاحظات المشاركين حول تأثير البرامج مع فريق التطوير أو التواصل (ضمن قيود اتفاقيات السرية). كما يمكن للمؤسسات جمع البيانات كجزء من تجربة البرامج. وتساعد تقييمات الكفاءة في قياس تأثير البرنامج على مهارات المشاركين، بالإضافة إلى منح المشاركين فرصة للتفكير في مواطن قوتهم والثغرات في مهاراتهم وفي تنميتهم. أخيراً، يمكن أن يسفر التحليل المشترك لنتائج التقييم الذي يشمل المشاركين ومنفذي البرنامج عن رؤى تقييمية ونمو فردي.
ومن المهم أيضاً التركيز على أسئلة التقييم. وبدلاً من محاولة تقييم جميع الجوانب الممكنة للبرنامج، يجب على المقيّمين التركيز على الأسئلة التقييمية ذات الأهمية. على سبيل المثال، قد يتوصل البرنامج الذي يطمح إلى إنشاء شبكات إلى أن التوثيق الدقيق لكل علاقة داخل الشبكة يحقق فائدة قليلة مقارنة بمستوى الجهد المبذول.
القيادة معقدة ومتغيرة، وتحتاج برامج التنمية التي تتطلع إلى دعم التغيير الاجتماعي إلى العثور على طرق جديدة للاستجابة للسياقات الواسعة النطاق وبيئات العمل المتغيرة التي يعمل ضمنها القادة. ويعد التقييم المستمر للبرامج وتحسينها جزءاً أساسياً من هذا العمل. ويوفر منظور نهج الظهور الديناميكية للتقييمات، حالها كحال القادة والأنظمة الذين يعملون ضمنها. عبر الاستفادة من ممارسات التقييم مثل تكييف النماذج المنطقية للبرنامج، والجمع بين الأساليب التقليدية وأساليب نهج الظهور، وتوسيع الفائدة من استخدام التقييمات، والتركيز الاستراتيجي على نطاق التقييم، يمكن لمطوري برامج القيادة، والمشاركين، والممولين بلورة صورة أكمل وأدق لعوامل إحداث تغيير على مستوى الأنظمة ثم العثور على طرق أكثر فعالية لتحقيقها.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.