كيف تدافع عن أحلامك وتحوّل مشاريعك الإبداعية إلى حقيقة؟

الاندفاع الإبداعي
shutterstock.com/DOKKAEW
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في عالم تُملي فيه ظروف نشأتك ومكان ميلادك وحجم ثروتك ولون بشرتك المسار الوحيد الذي يُتوقع منك أن تسير عليه، تحتاج إلى الإلهام ووضع الاستراتيجيات لاكتشاف قدرتك على تجاوز تلك الظروف وخلق تأثير أكبر. في كتابنا الذي يحمل عنوان “الاندفاع الإبداعي: أنِر طريقك وأنجز أعمالاً عظيمة” (Creative Hustleنبحث كيف نتجاوز الحدود التي تعيقنا في مسار حياتنا، بما فيها الحدود التي يضعها لنا الآخرون والحدود التي نضعها لأنفسنا. فقد تميز جنسنا البشري في حل المشكلات بطرق إبداعية على مر العصور. وبخلاف المنطق، تتراجع هذه الميزة مع تقدمنا في العمر، ويرجع ذلك إلى أن العديد من المؤسسات في مجتمعنا تثنينا عن التصرف بناءً على الخيال الجامح الذي كنا نتمتع به عندما نكون أطفالاً. وغالباً ما يستهان بالأحلام الكبيرة بحجة أنها “غير واقعية” أو “ساذجة”. ولكننا إن أردنا التحرر من القيود الراهنة وبناء عالم أكثر جمالاً، فنحن بحاجة إلى صقل ذلك الإبداع الطفولي ودمجه بطبيعتنا الريادية، وتلك المهمة ليست بالسهلة. فهي تتطلب منا أن نرسي مبادئ صلبة، وأن نتعاون مع شبكات متنوعة من الشركاء، وأن نخلق جواً خاصاً من الطقوس الإبداعية.

ولإرشادك في رحلتك للنجاح في هذه المهمة، نقدم لك قصصاً ملهمة ودروساً مستقاة من مبدعين بارزين في حل المشكلات وهم الذين تميزوا بدمج شغفهم وقيمهم مع أهدافهم المهنية، على غرار الكاتبة والمخرجة الحائزة جائزة الأوسكار عن فيلمها “كودا” (CODA) في عام 2022 سيان هيدر. ستساعدك هذه القصص على تحديد مسارك وصقل المهارات التي تحتاج إليها لتحقيق أهدافك. أولاتوند سوبوميهين وسام سيديل

* * *

نعتقد أن الاندفاع الإبداعي يشكل أداة لتحقيق الأهداف ببراعة. فهو يدفعنا لعيش حياة تتسم بالنزاهة قائمة على القيم والعلاقات والسلوكيات الأصيلة التي تفضي إلى الإسهام في تقدم العالم بطرائق بنّاءة. ويدور الاندفاع الإبداعي حول الأحلام الكبيرة في كل المجالات. دعونا نتناول العنوان بالتفصيل لنتعمق أكثر في المعاني الذي يحملها.

فالإبداع كلمة تزخر بالمعاني. لنتخيل أننا جالسون في غرفة وطلب أحدهم ممن يعتبر نفسه فناناً رفع يده. ففي حال كنا في غرفة مليئة بأطفال في سن الخامسة، سترتفع كل الأيادي عالياً. أما في غرفة مليئة بالكبار، فقد يُرفع عدد قليل من الأيادي الخجولة. ما السبب؟ لماذا تصبح غالبيتنا أقل قدرة على الإبداع أو أقل قدرة على الاعتراف به كأحد مكونات شخصيتنا؟ مع أن عقولنا تنمو وتتطور!

ذكر المخرج السينمائي ذو النظرة المستقبلية إرفين ماكمانوس في كتابه “روح الفنان” (The Artisan Soul)أنه بعد ثلاثين عاماً من دراسة طبيعة الإبداع، بأنه يعتقد أن “الفرق الكبير ليس في أن تكون فناناً أو لا تكون، بل في إيمانك بنفسك كفنان أو عدم إيمانك”. إذ صُمم الكثير من جوانب المجتمع لثني الناس عن التصرف بناءً على خيالهم. لكننا نعتقد أن العالم يمكن أن يكون مكاناً أكثر عدلاً وجمالاً، وأن الوصول إلى ذلك العالم سيتطلب منا جميعاً الاستفادة من الثقة الإبداعية التي كانت لدينا عندما كنا أطفالاً.

أما كلمة الاندفاع فهي أيضاً تعج بالمعاني والتفسيرات المختلفة: فقد تعني الرقص بجنون، وقد تعني الجموح، أو استخدام الحيلة على أحدهم للحصول على مبتغانا، أو استعجال أنفسنا والآخرين، وقد تحمل بعض المعاني السلبية، لكن أحد أهم معاني هذه الكلمة تتمثل في أخلاقيات العمل الصلبة وطاقة لا تعرف الكلل.

أعادت ثقافة الهيب هوب على مدى العقود العديدة الماضية تعريف الاندفاع وذلك للإشادة به بوصفه الدافع الحاسم المطلوب للازدهار والتقدم في مواجهة أنظمة متشابكة صُممت لفرض القيود على الناس. فالاندفاع تمرد على الظروف الراهنة. وقد يعني الاندفاع الافتقار إلى الحكمة، لكنه يعني أيضاً تأليف المقطوعات الموسيقية أو افتتاح متجر لبيع أحذية رياضية أو بناء المدارس. ونحن نرى في الاندفاع قدرته الإيجابية على تجسيد أي فكرة والمثابرة لإنجاحها.

وعندما نقرن كلمة الإبداع بكلمة الاندفاع يصبح معناهما أعمق وأوسع. حيث يمثل الاندفاع الإبداعي تركيبة من الخيال والطموح تمكننا من تفعيل مواهبنا وتحقيق أهدافنا. تتعدى ممارسة الاندفاع الإبداعي الأساليب التقليدية مستخدمة طرق تفكير ومناهج عمل جديدة؛ والمبدع المندفع هو من يسعى إلى العيش خارج الحدود الموضوعة له مسبّقاً.

لطالما كان البشر مبدعين ومندفعين، فكر كيف تعاون أسلافنا القدامى في البرد والظلام لاكتشاف طرق إشعال النار لأول مرة. ونرى اليوم أمثلة على الاندفاع الإبداعي عندما يصمم العلماء طرقاً جديدة للاستفادة من الطاقة المتجددة، أو حين يستكشف الموسيقيون سبلاً لإيصال فنهم للناس في جميع أنحاء العالم من خلال قنوات التواصل الاجتماعي. كونك إنساناً يعني أنك تشع خيالاً وطموحاً.

تروي كاتبة السيناريو والمخرجة سيان هيدر في المقطع الآتي دروساً خاصة من تجربتها التي تُعد مثالاً يحتذى به للاندفاع الإبداعي الذي مارسته في أفضل أعمالها.

عندما تجري أبحاثك ابحث أيضاً في تجربتك الشخصية: دروس من تجربة المخرجة السينمائية سيان هيدر

عندما باعت سيان هيدر أول نص سينمائي من تأليفها، قدم لها وكيل أعمالها زجاجة عطر لتُفتح عندما يبدأ التصوير الرئيسي للفيلم. وعلى الرغم من أهمية الخطوة المتمثلة ببيع النص السينمائي، فلم تغفل سيان عن الحاجة إلى العديد من الخطوات اللازمة لإنتاج الفيلم فعلياً. وتعثرت تلك الخطوات عاماً بعد عام، ولم يبصر الفلم النور لسنوات وتراكم الغبار على تلك الزجاجة.

تستذكر سيان ضاحكة: “كان يطلب مني زوجي في كل ليلة من ليالي رأس السنة فتح تلك زجاجة العطر”. ومع أنهم انتقلوا إلى منازل كثيرة، أصرت سيان على الامتناع عن فتح تلك الزجاجة. قالت لنا: “كانت زجاجة العطر تحدق في وجهي وتشعرني أنها رمز للفشل، رمز لمهمة لم تكتمل”.

وفي النهاية سافرت سيان بعد ستة أشهر من حملها بطفلها الثاني إلى نيويورك لتبدأ تصوير ذلك النص السينمائي، الذي كان فيلمها الأول “تالولاه” (Tallulah). أحضر زوجها زجاجة العطر وفتحها وتبادلا التهاني في الساحة الخلفية للتصوير بعد تسع سنوات من حصولها عليها.

وفي السنوات التسع تلك لم تكتف سيان بتطوير الشخصيات والأماكن والأحداث في فيلمها “تالولاه” فحسب، بل أضافت تعاطفاً إضافياً مع الشخصية الشريرة في قصتها وهي الأم التي تعاني في رعاية طفلها، لأنها أصبحت هي نفسها أماً وعرفت مدى صعوبة التربية. كل هذا دفع سيان إلى إعادة كتابة النص 65 مرة.

علمتها تجربتها في تطوير فيلم “تالولاه” أن البحث هو جزء أساسي من عملها. “أنا باحثة مجتهدة والبحث شغلي الشاغل، أقرأ كثيراً لكن معظم أبحاثي تستند إلى العلاقات والمحادثات والتجارب”، هكذا وصفت لنا سيان نفسها. ويروي فيلم سيان الأخير ،“كودا”، قصة عائلة الوالدان فيها مصابان بالصمم. وسيان ليست بالصماء، لذا عندما فكرت في تولي المشروع شرعت في تعلم كل ما يمكنها تعلمه عن لغة الإشارة الأميركية (ASL)، وثقافة الصم، وتجارب الصم.

حيث قامت بحضور دروس لتعلم لغة الصم (ASL). وقد تعلمت الكثير من خلال التعرف على الصم، ليس من خلال المستشارين أو مجموعات التركيز، بل من خلال تكوين صداقات معهم.

بدأت علاقات الصداقة هذه على نحو محرج. “لقد تواصلت مع أصدقاء أصدقائي الصم وطلبت منهم احتساء القهوة معي”. تقبلت سيان إحراج الموقف حيث قالت لنا: “يخشى الكثير من القادرين على السمع من حاجز التواصل، فنحن معتادون على التواصل بسهولة مع الآخرين، لكننا نخشى عندما نتواصل مع الصم من عدم فهم شيء ما أو ارتكاب خطأ محرج”.

لم تتعلم سيان من خلال بناء العلاقات فحسب، بل قرأت كتباً لمؤلفين صم وحضرت عروضاً مسرحية للصم أيضاً. كما ساعدتها دروس لغة الإشارة على فهم لغة الصم وأتاحت لها التواصل مع الممثلين في فيلم “كودا”. وساعدتها الكتب على فهم ثقافة الصم وقضايا العدالة الاجتماعية المتعلقة بالتمييز ضد ذوي الاحتياجات الخاصة. وساعدتها مشاهدة العروض المسرحية على رؤية إمكانيات التعاون بين الفنانين الصم وغير الصم ومتعة القيام بعمل يمكنه مد الجسور بين المجتمعين ومخاطبتهما كليهما.

وأجرت سيان ضمن تحضيراتها لكتابة فيلم “كودا” عملية بحث عميقة في الذات لتسبر مواطن ضعفها وقوتها. قالت لنا سيان: “اعتبر الكتابة تدريباً لي على التعاطف بصفتي ممتهنة للفن، وأتعلم عبر وضع نفسي مكان الآخرين”.

وبالإضافة إلى وضع سيان نفسها في مكان الآخرين، دفعها كتابة فيلم “كودا” إلى أن تسبر بعمق أغوار ذاتها. ولأن الفيلم عبارة عن نسخة أميركية لفيلم فرنسي فقد وفر ذلك بعض الفرص لاقتباس أحداث من الفيلم الأصلي وتطويرها. حيث كان أفراد الأسرة في النسخة الفرنسية مزارعين عطوفين ومرحين يعيشون في الريف. لقد كان بإمكان سيان أن تذهب وتبحث عن مجتمع كهذا، وكان بإمكانها العيش مع عائلة مرحة. لكنها لجأت إلى تجاربها الخاصة وتعمقت بها. حيث نشأت سيان في ولاية ماساتشوستس وقضت مدة طويلة من حياتها في مجتمع صيادي السمك في مدينة غلوستر، الذي اختارته إطاراً مكانياً للنسخة الجديدة للفيلم. وصاغت شخصيتي الوالدين في الفيلم على غرار شخصيتي والديها المرحتين والمتحررتين. والفضول الذي دفعها لفهم حياة الآخرين دفعها أيضاً لفهم حياتها هي حيث تقول: “باتت قصة الفيلم ذات بعد شخصي أكثر فأكثر كلما تعمقت في التفاصيل”.

حصد فيلم “كودا” منذ إطلاقه الجوائز السينمائية الكبرى في مهرجان صاندانس السينمائي (Sundance Film) وأتبعها بالفوز بجوائز الأوسكار بما فيها جائزة أفضل فيلم وجائزة أفضل نص سينمائي مقتبس. وحتى مع الفوز بكل هذه الجوائز، لا تنفك سيان تطرح أسئلة عميقة عن نفسها. ولا ينتهي سبر أغوار ذاتها عند التعمّق في تاريخها للبحث عن شخصيات وقصص، بل يمتد إلى طرح الأسئلة على نفسها عن دورها كفنانة وما قصصها التي يجب أن تُكتب وتُمثل وتُعرض على الجمهور. “أسأل نفسي طوال الوقت: قصة من التي يجب أن تُروى؟” تتساءل سيان. “ففي حال كنت تحظى بخلفية مرموقة، فمن المرجح أن تسقط في فخ تعزيز الصور النمطية. وفي حال كنت لا تدري بأنك تحمل نظرة ذكورية متحيزة إلى ذوي البشرة البيضاء وضد ذوي الإعاقة وأقدمت على رواية القصص، فستحمل قصصك تلميحات وإشارات مؤذية. وهذا هو سبب تصوير الأفلام لشخصيات ذوي الاحتياجات الخاصة على أنها دائماً مصدر لإثارة الشفقة أو النبالة في شخصيات ليس لديها إعاقات”.

يتمثل جزء من ممارسة سيان الفنية في النهج الذي أنشأته للبحث في الذات بمستويات عميقة. تتساءل سيان: “ما الجوانب التي أعجز عن رؤيتها ومن أين آتي بمن يمكنه مساعدتي على رؤيتها؟” “أنا أعود للوراء أكثر فأكثر، ربما وضعتني الأقدار هنا لأخرج مسلسل “ليتل أميركا” (Little America) وأدعمه”، مشيرة إلى مسلسل تدور أحداثه حول الهجرة كانت تعمل فيه لصالح شركة أبل، “وربما مكاني ليس هنا لكتابة حلقات جديدة. أفضلُ دعم الكتَّاب الجدد”.

ربما كان من الأسهل على سيان أن تكتفي بالكتابة عن الأشخاص والمواقف الأكثر شهرة، لكنها ترغب في صناعة فن يساعدها ويساعد جمهورها على التعلم. ويرجع ذلك إلى معرفتها للآخرين ولنفسها بشكل عميق. وكما تقول: “إذا لم يضف الفن إلى حوار البشرية شيئاً فما نفعه؟”

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.