إياكم والمؤسسة غير الربحية ذات الأداء المتوسط

مواطن القوة
(الرسم التوضيحي لآيستوك/ سوباتشوك نوثيب)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يجب أن تنطلق عملية بناء القدرات في المؤسسات غير الربحية من مبدأ أن كل مؤسسة لديها مَواطِن قوة أساسية يمكن البناء عليها بدلاً من تركيز عملية بناء القدرات على تقوية مواطن الضعف في هذه المؤسسات.

“تفضل وتناول الطعام في مطعمنا، فمستوى مطعمنا متوسط!” هل يبدو ذلك شعاراً جيداً لمطعم ناجح؟

بالطبع لا، وهو شعار فاشل في مجال العمل الاجتماعي أيضاً. لماذا إذاً يعتمد الكثير من عمليات بناء قدرات المؤسسات غير الربحية على تعزيز مَواطِن الضعف بهدف تحقيق أداء متوسط؟

فلنفكر بتمعن في سيناريو بناء القدرات التقليدي الآتي: تسعى مؤسسة غير ربحية إلى تعزيز قدراتها وربما بطلب من الممولين. يقوم الموظفون وربما أصحاب المصالح الخارجيون بملء واحد من عشرات النماذج المتاحة لمساعدة المؤسسات غير الربحية على تحديد احتياجاتها بهدف تعزيز قدراتها وبالتالي يُطلب من المشاركين تقييم أداء المؤسسة عبر قائمة القدرات القياسية. يدرس صانعو القرار النتائج مع التركيز على التقييمات ذات الدرجات المنخفضة، وعندها قد يقول أحد صانعي القرار: “أعتقد أن مجلس الإدارة لا يقوم بعمله على أكمل وجه” أو “من الواضح أننا بحاجة إلى رفع مستوى التأثير”، وبعدها يوظفون المستشارين لمساعدتهم على سد هذه الثغرات من خلال تنفيذ أفضل الممارسات في مجلس الإدارة أو لمساعدتهم على تحديد المقاييس. وقد تختفي مواطن الضعف بعد عامين لكن من دون تغير ملموس في التأثير. وتتكرر القصة عاماً بعد عام وتتشتت الموارد على الكثير من الاحتياجات مع إجراء بعض التحسينات الإضافية في أحسن الأحوال.

مع العلم أن المؤسسات غير الربحية تحتاج إلى براعة استثنائية وقدرة تشغيلية عالية المستوى لمعالجة المشكلات الاجتماعية الراسخة بموارد محدودة. ومع وجود أكثر من 1.5 مليون مؤسسة غير ربحية في الولايات المتحدة وحدها، من الصعب على المؤسسات التي تسعى إلى الحصول على التمويل لبناء قدراتها أن تصل إلى مستوى مميز. وغالباً ما يدفع حجم التمويل المخصص لبناء القدرات المؤسسات ضمنياً إلى اتباع معايير ذات جودة مقبولة من خلال توجيه التركيز إلى سد الثغرات كي لا تعيقها في سبيل تحقيق مهمتها، لكن حتى المهارات ذات الجودة المقبولة في جميع المجالات لا تكفي للتغيير.

بناء القدرات القائم على مواطن القوة

في المقابل، ينطلق نهج بناء القدرات القائم على تعزيز مواطن القوة من فرضية أن كل مؤسسة لديها مواطن قوة أساسية يمكنها البناء عليها. فبدلاً من مجرد التركيز على معالجة مواطن الضعف التي يراها الباحثون لا تؤدي عملها على نحو جيد، يمكن للأفراد والمؤسسات الاستفادة من مواطن قوتهم لتحقيق النجاح وسد ثغرات الأداء. حيث يتنامى الاعتراف بالنهج القائم على مواطن القوة على أنه أفضل ممارسة لمساعدة الأفراد والمنظمات على التطور في عدة مجالات مثل رفاهة الطفل وتقييمات الأداء وتنمية المجتمع.

لا يمكن الاستغناء عن بعض القدرات بشكل عام بخاصة لدى المؤسسات الجديدة. فمن الأهمية بمكان أن يوجد بشكل أساسي برنامج جيد بالإضافة إلى فريق جيد، ويجب على المؤسسات تبيان كيفية استخدام التمويل. وغالباً ما يمكن للمؤسسات غير الربحية بمجرد تأمين هذه الأساسيات زيادة تأثيرها على نحو أكثر فاعلية ليس من خلال التحسينات التدريجية في مواطن الضعف بل عبر تقديم قيمة مميزة لأصحاب المصالح والشركاء. ولا يعني ذلك بالضرورة تجاهل مواطن الضعف، ولكنه يقترح وضع مفهوم جديد لكيفية تركيز المؤسسات لجهودها في بناء القدرات والسعي إلى سد الثغرات.

فكر في نموذجين اثنين على سبيل المثال تم تصميمهما لاستخدامهما لقياس عملية بناء القدرات. يسرد كل منهما عشرات المعايير التي يقيم المستجيبون مؤسساتهم عبرها على مقياس من 1 إلى 4 أو من 1 إلى 5. قد يكون الميل الطبيعي بالنسبة إلى معظم المؤسسات هو التركيز على القدرات التي تتلقى تقييم 1 أو 2 مع افتراض أن القدرات التي تم تقيّمها بـ 4 أو 5 يمكن أن تستمر كما هي.

نتفق على أن الوصول إلى تقييم أساسي لا يقل عن 2 أو 3 من 5 مهم للمؤسسات بشكل عام. ولكن الانتقال من المستوى المنخفض إلى المتوسط في العديد من القدرات التي تعتبر هامشية لرسالة المؤسسة وعملياتها قد يولد تأثيراً أقل من انتقال القدرات الأساسية من المستوى العالي إلى مستوى أعلى من سقف التوقعات. ويمكن للمؤسسات استغلال مواطن قوتها التي تتخطى سقف التوقعات لتعزيز مواطن ضعفها بالطرق التي تناسب احتياجاتها على أفضل وجه.

وتختلف مواطن القوة الأساسية بحسب نوع المؤسسة. ولتحديد مواطن القوة الأساسية، على المؤسسات غير الربحية أن تطرح على نفسها وعلى أصحاب المصالح بعض الأسئلة البسيطة على غرار:

  • بماذا نتميز؟ على ماذا يعتمد تأثيرنا؟ لماذا يقصدنا العملاء والمتبرعون وغيرهم بدلاً من نظرائنا من المؤسسات الأخرى؟
  • كيف نستغل مواطن القوة هذه على أفضل وجه، وما الذي يساعدنا على استغلالها على نحو مستمر؟
  • كيف يمكننا استغلال بناء القدرات في إجراء تلك التغييرات في أثناء تلبية الاحتياجات المؤسسية؟

عملنا مع مؤسسة كوميونيتيز ثرايف تشالينج “سي تي سي” (Communities Thrive Challenge (CTC)) لتجربة هذا النهج في العام الماضي. ومؤسسة سي تي سي ثمرة العمل التعاوني بين مبادرة تشان زوكربيرغ (Chan Zuckerberg) ومؤسسة روكفلر (Rockefeller) لتوسيع نطاق الأساليب المطورة محلياً لتحسين الفرص الاقتصادية لذوي الدخل المنخفض والذين يعانون من انعدام الأمن المالي. وتلقت عشر مؤسسات غير ربحية من بين أكثر من 1,800 متقدم دعماً تشغيلياً عاماً وتمويلاً لبناء القدرات من مؤسسة سي تي سي. من بين هذه المؤسسات كانت ذي إنداستريال كومونز “تي آي سي” (The Industrial Commons (TIC)) ومقرها مورغانتون في ولاية نورث كارولاينا، وبينيفت داتا ترست “بي دي تي” (Benefits Data Trust (BDT)) ومقرها فيلادلفيا. تطور تي آي سي مشروعات مترابطة تعمل على حل المشكلات الصناعية للشركات والعمال. وتستخدم بي دي تي البيانات والتوعية الهادفة وتغيير السياسات والتقنيات الجديدة لربط الناس بالمساعدات والخدمات.

توضح كلتا المؤسستين غير الربحيتين كيف يمكن للمؤسسات تنفيذ بناء القدرات القائم على مواطن القوة والاستفادة منها باستخدام الأسئلة الثلاثة أعلاه.

اعرف بماذا تتميز

رغم الاختلاف في التاريخ والحجم والموقع والنموذج، استخدمت تي آي سي وبي دي تي تمويل بناء قدرات سي تي سي للبناء على مواطن القوة الفريدة لديهما. وكخطوة أولى، استغرق كل منهما وقتاً لمعرفة مواطن القوة هذه مع تحديد الثغرات التي يجب سدها.

استخدمت تي آي سي تقييماً ذاتياً منظماً مع مناقشات داخلية لصياغة صورة مشتركة عن مواطن القوة في المؤسسة وأولويات بناء القدرات. وكشفت هذه الإجراءات بسرعة عن إجماع وجهات النظر على أن قيادة العاملين في الخطوط الأمامية الذين يعملون داخل المؤسسات التي تدعمها تي آي سي هي القوة الرئيسية التي يعتمد عليها تأثير تي آي سي. حيث قاد عمال الخطوط الأمامية الذين تم تنظيمهم في مجموعات من 8 إلى 10 أشخاص تعرف باسم “اللجان العمالية” منذ فترة طويلة الكثير من عمليات التنظيم اليومي والتوعية وتطوير المؤسسات. وهو نهج مناسب لأن نظرية التغيير في المؤسسة لا تعتمد على التنمية الاقتصادية فحسب بل على قوة العمال مسؤوليتهم عن بناء الثروة المتأصلة في المجتمعات المحلية والحفاظ عليها أيضاً. وعلى العكس من ذلك، حدد موظفو تي آي سي عملية قياس التأثير كثغرة.

ورأى أعضاء فريق بي دي تي من خلال المناقشات الداخلية والتقييم الذاتي المنظم والتواصل المستمر مع العملاء أن قدرة المؤسسة على توفير تجربة عميل مخصصة لحالته وميسرة عبر برنامج قائم على التكنولوجيا تمثل موطن القوة الأساسية لأنها مكّنت بي دي تي من خدمة مجموعة من الاحتياجات مع الحفاظ على المساعدة الخاصة بحالة كل عميل. لكن في الوقت نفسه أدى تخصيص الحالات المختلفة في بي دي تي إلى خدمات وميزات متباينة عاجزة عن التكامل فيما بينها. ونتيجة لذلك، لمست بي دي تي الحاجة إلى توضيح جهود تطوير النظام الأساسي وتوحيدها ومواءمتها للاستفادة من أوجه التآزر بين الخدمات وتعظيم إمكانات كل خدمة تقدمها المؤسسة.

وبتوافر هذه المعلومات بدأت تي آي سي وبي دي تي في صياغة جهود بناء القدرات لزيادة التأثير الذي يعزز قوتهما لمعالجة الثغرات.

استعد لاستغلال مواطن قوتك

بمجرد أن يكون لدى مؤسستك صورة واضحة عن مواطن قوتها فإن الخطوة التالية هي التفكير في كيفية تمكين المؤسسة من التحليق عالياً عبر هذه القوة. وكما تقول عالمة النفس التنظيمي لورا مورغان روبرتس (Laura Morgan Roberts) التي قادت تطوير النموذج القائم على مواطن القوة المسمى “تبيان أفضل ممارسة ذاتية”: “ما أنواع التغييرات التي أحتاج إلى إجرائها حتى أكون في أفضل حالاتي؟”

على سبيل المثال، سعت تي آي سي إلى البناء على قوتها في القيادة العمالية من خلال إشراك القادة العماليين وأصحاب العمل المرتبطين بهم بشكل كامل في عملية صنع القرار الاستراتيجي عالية المستوى للمؤسسة. فقيادة العاملين في الخطوط الأمامية للكثير من الأنشطة اليومية لتي آي سي وصياغتهم للأولويات الطويلة الأجل سوف تساعد على تعزيز رؤية المؤسسة للثروة المتأصلة في المجتمعات المحلية والتوظيف الهادف مع تمكينها من نشر قوى القيادة العمالية هذه بشكل أكبر.

وللإجابة عن سؤال روبرتس، لمست بي دي تي الحاجة إلى تغيير هيكلها التنظيمي وأسلوب عملها لرفع مستوى التنسيق بين فرقها، ما يؤدي إلى مساعدة الموظفين على تجنب الابتكار بشكل منعزل عن زملائهم وضمان تكامل عملهم مع عمل الفرق الأخرى في وقت مبكر من دورة حياة المشروع. كما سيحرر هذا النهج المصقول إبداع الفرق ويقلل من الوقت الذي تقضيه في محاولة حل التداخلات والتعارضات بين أعمال الأقسام المختلفة في المؤسسة.

وعبر تنفيذ هذه الخطط استخدمت تي آي سي وبي دي تي عملهما في بناء القدرات لتلبية احتياجاتهما والنهوض برسالتيهما.

استغل بناء القدرات لإطلاق العنان لقوتك في أثناء تلبية الاحتياجات

قد يكون نهج بناء القدرات التقليدي لرفع مستوى مؤشرات التأثير قد دفع تي آي سي إلى استخدام أحد النماذج لتخطيط المؤشرات الجاهزة والمعدة سلفاً: استعن بخبير فني للمساعدة على تطوير مؤشرات الأداء الرئيسية، ثم اطلب من الموظفين والشركاء جمع البيانات اللازمة. وقد تحصل على بيانات مفيدة. لكن العملية يمكن أن تقوض قوة تي آي سي في حال فُهمت على أن تنفيذها يتدرج من أعلى لأسفل وعبر المكاتب ليتم تسليمها في النهاية إلى العمال بدلاً من إشراكهم في تطويرها، ما يتعارض مع تركيز تي آي سي على الدور القيادي للعمال.

بدلاً من ذلك رأى الفريق فرصة لإشراك العمال والشركات والمجتمع بشكل أعمق في صياغة عمل المؤسسة. وإدراكاً لأهمية إشراك الخبرات لدراسة عوامل نجاح قيادات العمال في الخطوط الأمامية في عدة حالات متنوعة، أشركت تي آي سي عالم الاجتماع بجامعة ولاية كارولاينا الشمالية وخبير بناء القدرات مايكل شوالبي (Michael Schwalbe)،. وتعاون شوابلي وتي آي سي مع اللجان العمالية لتطوير نهج اجتماعي دقيق بقيادة العمال لتوثيق أنشطة اللجان العمالية ذات الفاعلية في تعزيز صوت العمال ورفاههم. وتعاونت اللجان العمالية مع موظفي تي آي سي وأصحاب العمل حول طرق استغلال هذه المعلومات لرفع مستوى جهودهم وتحسين أداء استراتيجية تي آي سي. وبدلاً من التركيز على مواطن ضعفها وسعت تي آي سي إمكاناتها لاستغلال قوتها في مشاركة العمال مع تلبية الحاجة إلى قياس التأثير.

أما بالنسبة إلى مؤسسة بي دي تي، فيركز النهج المعياري لبناء القدرات على توضيح الأولويات على المدى القريب بالإضافة إلى تركيزه على البنية التنظيمية بهدف معالجتها. ومع ذلك، خشيت بي دي تي من تقليل مرونة المؤسسة اللازمة للحفاظ على الاستجابة وقابلية التخصيص لمنصتها في مواجهة احتياجات العملاء المتغيرة عبر استخدام هذا النهج. وبالتالي، فإن جهود بناء القدرات التي تركز على أوجه القصور لتوضيح التصميم التنظيمي قد تعالج موطن الضعف (التواصل الضعيف بين الفرق) لكن مع إضعاف القوة الأساسية (تطوير المنتجات الذكية).

وللحصول على مساعدة قائمة على مواطن القوة، دخلت بي دي تي في عالم الشركات الناشئة وعملت مع استوديو تصميم المنتجات الرقمية بيغ هيومان (Big Human). وتعاونا على تطوير دليل للعمل ومعاييره لوضع هياكل فرق مرنة مستمدة من جميع أقسام المؤسسة قادرة على إعادة تشكيل نفسها بسرعة حسب تغير الأولويات. إن نهج “دليل الإنتاج” هذا يجعل مرونة وإمكانية تخصيص النظام الأساسي التكنولوجي لبي تي دي أكثر فعالية، بدلاً من تقويض مواطن القوة بهيكل تنظيمي تقليدي صارم.

المؤسسات تغير العالم بقدرات خارقة وليس بجهود متواضعة

يحتاج العالم إلى مؤسسات غير ربحية تتمتع بمهارات فريدة لإحراز تقدم في القضايا التي يتعثر فيها المجتمع. لدينا جميعاً المجال للتحسن، ولا شك في أن العمل المتضافر لمعالجة مواطن الضعف عمل يستحق الإعجاب. لكن ترميم مواطن الضعف لا يكفي لإنشاء مؤسسات غير ربحية فعالة على النحو الفريد الذي نحتاج إليه.

ببساطة وكما يقول المبشر المستند على مواطن القوة ماركوس باكنغهام (Marcus Buckingham): “طريق التميز لا يحتاج إلى إصلاحات”.

ينبغي للمؤسسات معرفة ما يجعلها أكثر فاعلية والحرص على تخصيص الوقت والموارد لتطوير مواطن القوة تلك. ومن الممكن الاعتماد المفرط على مواطن القوة في حال لم تجد المؤسسة سبل أخرى. لكن التجربة تشير إلى أن مواطن القوة في المؤسسات غير الربحية غالباً ما يتم استغلالها بشكل كافٍ كأدوات للتطوير التنظيمي.

من خلال النهج القائم على مواطن القوة، يمكن لمناقشات بناء القدرات أن تتجاوز إصلاح عيوب المؤسسة لتحولها من مؤسسة “لا بأس بها” إلى مؤسسة عظيمة بصورة فريدة.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.