المؤسسات الصغيرة: التغيير الذي يحتاج إليه تغيير الأنظمة

المؤسسات الصغيرة
(الرسم التوضيحي: آيستوك/ماستر سيرجانت)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في حال بدأت العمل في مجال الأعمال الخيرية من مدة تزيد على أسبوع، فلا بد من أنك قد قرأت تقريراً أو تحليلاً أو مقالاً حول تغيير الأنظمة، ستجد مَن يتحدث عنها في كل مكان. فثمة جمعيات، ومؤتمرات، وندوات عبر الإنترنت، ومدونات، حتى كليات مخصصة لتغيير الأنظمة. وثمة العديد من التعريفات والنظريات وأطر العمل النظرية لتغيير الأنظمة، والكثير من المقالات حول هذا الموضوع.

يشير تقييم مبادرة تغيير الأنظمة “إس إس آي” (SSI) الذي أصدرته مؤسسة روكفلر فيلانثروبي أدفايزورز (Rockefeller Philanthropy Advisors) مؤخراً إلى أن تغيير الأنظمة مفهوم مفرط الاستخدام وغير مفهوم في العمل الخيري. ويشير التقرير إلى أن الاهتمام المتزايد به يحمل إيجابيات وسلبيات. إذ يزداد الحديث بين الممولين عن تغيير الأنظمة ودعمه، وهو أمر جيد. ومن ناحية أخرى، كلما زاد عدد الأصوات المؤيدة، أصبح هذا المجال “أكثر فوضوية”. أسفرت هذه الفوضى عن درجة من التقاعس عن العمل، والإحباط، والاستياء، ما حال دون انضمام المزيد من الممولين. ووفقاً للتقييم، كان هناك “الكثير من الكلام والقليل من العمل”.

ونظراً لمشاركة مؤسستنا رودينبيري (Roddenberry) المتكررة في حوارات الممولين ومجموعات عمل المانحين، فقد خبر فريقنا “الإجهاد الناجم عن تغيير الأنظمة” من قرب ومباشرة. تجاهل العديد من الممولين هذا المجال تماماً بسبب تعقيده أو شُغلوا فيه كثيراً لدرجة أن انشغالهم الشديد عاق العمل. وكأن الوقت الذي أمضيناه في تعريف تغيير الأنظمة ووصفه وتحليل ماهيته وطرق التعامل معه قد عاق قدرتنا على تمويله.

في عام 2020، تغيّر فهمنا لتغير الأنظمة بطريقة غير متوقعة على الإطلاق. إذ أطلقنا منصة +1 غلوبال فاند (+1 Global Fund)استجابةً لجائحة كوفيد-19، وهي منصة شبكية تستفيد من ترشيحات الأقران لاكتشاف المؤسسات الصغيرة التي ما تزال في مراحلها المبكرة في دول العالم النامي. بدأنا نلاحظ سريعاً أن العديد من المبادرات ذات القيادة المحلية والصغيرة جداً في الغالب تؤثر في الأنظمة الراسخة بغض النظر عن المنطقة أو القضية. كان ذلك مفاجئاً، وأدركنا أن القطاع تجاهل الدور الذي تؤديه المؤسسات الصغيرة في تغيير الأنظمة وقلل من قيمته.

وبناءً على خبرتنا، يتطلب تسهيل عملية تمويل تغيير الأنظمة من الممولين إعادة تعريف كيفية حدوث تغيير الأنظمة وإعادة تحديد قادة التغيير.

تحيّز المعايير

من الواضح في تقييم “إس إس آي” أن هناك عدداً قليلاً من المعايير أو الأبعاد المحددة بوضوح أو المتفق عليها في مجال تغيير الأنظمة. وإحدى سلبيات ذلك هو استمرار الافتراضات الأساسية التي تضر ولا تنفع. والأكثر ضرراً منها هي السردية المتعلقة بالمؤسسات الصغيرة ذات القيادة المحلية وتوقعاتنا المنخفضة منها (ولا يقتصر ذلك على قطاع التغيير الاجتماعي وحده).

نسمع كثيراً أن المؤسسات الصغيرة لا يمكنها سوى تقديم الخدمات المباشرة وأنها تعاني نقص الموارد بدرجة لا تسمح لها بالعمل نحو تحقيق هدف نهائي طويل المدى. وتعتمد هذه الحجج في العادة على فكرة أن العمل على تغيير الأنظمة يخص المؤسسات الكبيرة ذات الميزانيات الكبيرة (من دول العالم المتقدم). يتضمن المستند (A) من التقييم دراسات الحالة التي يستشهد بها المستشارون والمختصون والممولون في أغلب الأحيان، والتي صدر أغلبها عن مؤسسات كبيرة تمتلك عدداً جيداً من الموظفين وتتجاوز ميزانياتها 5 ملايين دولار (أو أضعاف ذلك).

هل ذلك بسبب ضيق الأفق؟ أم نتيجة تصور (خاطئ) مفاده أن هذا المجال يحتاج إلى استجابة ضخمة من قِبَل المؤسسات الكبيرة بسبب ضخامة قضايا تغيير الأنظمة، ولن يجدي نفعاً أقل من ذلك؟ أم نتيجة “للنماذج الذهنية في العمل الخيري حول التغيير؟” والافتراضات المسبّقة حول التأثير؛ والتقليل من قيمة المعرفة المحلية في الدول النامية” كما يشير تقييم “إس إس آي” بخصوص تقاعس الممولين؟ كانت النتيجة النهائية أن طبيعة عصرنا الحالي التي تتميز باستخدام التكنولوجيا والمشاريع الكبيرة ألقت بظلالها على الأنظمة، ربما دون قصد، وهذا جعل النطاق الواسع للتغيير شرطاً مسبّقاً للنجاح في تغيير الأنظمة.

من المؤكد أننا لسنا الوحيدين الذين لاحظوا ذلك، وقد قدم آخرون حججاً مقنعة للتفكير فيما هو أبعد من الافتراضات المعتادة، ولكن الفكرة نفسها تتكرر دائماً، وهي أنه في حال كنت من الممولين المهتمين بتغيير الأنظمة، فقدّم المال إلى مؤسسة كبيرة. شاركنا في عشرات الاجتماعات، وحضرنا ورشات عمل عدة، وقرأنا الكثير من الدراسات، وما زلنا نواجه هذا التحيز. والنتيجة هي أن العقليات السائدة في العمل الخيري تؤمن بالمشاريع الكبيرة فقط، وذلك يؤثر بشدة في حوارات تغيير الأنظمة.

صنّاع التغيير الصغار الأقوياء

أطلقنا منصة +1 غلوبال فاند معتمدين على الشبكات الموثوقة وترشيحات النظراء للعثور على المؤسسات ذات القيادة المحلية ودعمها في الدول النامية. قدمنا منذ ذلك الحين منحاً لمئات المؤسسات التي تقل ميزانياتها عن 500,000 دولار في عشرات البلدان. تعمل تلك المؤسسات على تحسين توافر المياه والصرف الصحي، وجودة التعليم، والأمن الغذائي، والمساواة في مجال الصحة، وتتبنى أغلبية كبيرة منها أساليب تغيير الأنظمة في عملها.

نجري محادثات منتظمة مع مؤسسات تمويل من جميع أنحاء العالم بهدف التعاون مع شركاء تمويل متعددين، ويفاجؤون عندما نصف لهم أنواع المؤسسات التي نكتشفها. ونسمع عبارة “لا تستطيع تلك المؤسسات تغيير الأنظمة”. ويبدو الأمر كما لو أن طرق المؤسسات الصغيرة في تغيير الأنظمة نسخ مقلدة وليست أصلية.

على مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية، شهدنا مؤسسات صغيرة الحجم ذات قيادة محلية تقود تغيير النظام بكل ميزات نظيراتها الأكبر حجماً. تمتلك تلك المؤسسات فهماً عميقاً للنظام المراد تغييره، ورؤية واضحة لكيفية تحول أولئك الذين يسيطرون على المشكلة، واستراتيجية سليمة لتحقيق هذه التحولات، ونهجاً تعاونياً يشرك العديد من أصحاب المصالح ويأخذ في الحسبان جداول الأعمال ووجهات النظر المتنوعة. لنأخذ على سبيل المثال 5 حاصلين على جوائز مؤخراً في منطقة جنوب الصحراء الكبرى بميزانيات تقل عن 300,000 دولار.

  • يعمل معهد باثويز بوليسي (Pathways Policy Institute) في مدينة نيروبي بكينيا على إنشاء مساحات آمنة لمناصري الشباب وللمجتمعات المحلية للمشاركة في سياسات الصحة العامة والبيئة والتأثير فيها من خلال البحث والتدريب وتعزيز القدرات.
  • في أوغندا، يحشد أكثر من 40 عضواً في مؤسسة فود رايتس ألايانس (Food Rights Alliance) جهود المجتمعات وينظمها من أجل العمل الجماعي لتعزيز قضية القضاء على الجوع وسوء التغذية. ويتعاونون على معالجة العوائق التي تحول دون اتباع نظام غذائي آمن وصحي من خلال بناء القدرات والتعاون الاستراتيجي والدعوة إلى زيادة الموارد وتحسين السياسات وتحسين تحمل الحكومة للمسؤولية.
  • تجمع مؤسسة زيمبابوي لاند آند أغراريان نتورك (Zimbabwe Land and Agrarian Network) بين مؤسسات المجتمع المدني والزعماء التقليديين والمزارعين والسلطات المحلية ومجموعات أخرى في قطاعي الأراضي والزراعة. ويتعاونون لمعالجة تحديات الأمن الغذائي المتعلقة بالتغير المناخي وحيازة الأراضي والإنتاجية الزراعية التي يواجهها المزارعون أصحاب الحيازات الصغيرة.
  • تعمل مؤسسة شاهيدي وماجي (Shahidi wa Maji) على تسهيل إدارة موارد المياه المستدامة ذات القدرة على تحمل المناخ وخدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في تنزانيا من خلال الشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني والتحالفات والشبكات والصحفيين والمجتمعات لتعزيز الإدارة المستدامة والوصول العادل واستخدام موارد المياه بكفاءة.
  • تتواصل مؤسسة غوزاكوزا (Guzakuza) مع النساء اللاتي يواجهن تحديات في النظام الغذائي وتدعمهن في جميع أنحاء إفريقيا. وتساعد مؤسسة غوزاكوزا أعضاءها على تأسيس الأعمال التجارية الزراعية وتنميتها، والوصول إلى الأسواق التي يصعب الوصول إليها، والدفاع عن السياسات الداعمة للمزارعين، وذلك من خلال برامج الإرشاد وحاضنات الأعمال واللجان الاستشارية.

وبالنظر من قرب إلى المؤسسات الخمس، نرى أن لكل منها ميزانية صغيرة، وتستهدف الأسباب الجذرية الأعمق للمشكلة، وليس الأعراض، وتدرك تعقيد الأنظمة التي تؤثر فيها وتعقيد العاملين عليها. وجميعها عازم بطموح على السعي إلى تغيير جذري ودائم.

الفوائد الميدانية لدعم المؤسسات الصغيرة

يقدم تقييم “إس إس آي” توصيات متعددة لتحسين هذا المجال، ونود أن نسهم بتوصية أخرى، وهي دعم المؤسسات الصغيرة ذات القيادة المحلية لإطلاق إمكاناتها المذهلة للتأثير في الأنظمة. من الأسهل تتبع عمل المؤسسات الكبرى ذات الأهمية الكبيرة في هذا المجال وتحليله، لكننا نرى أن ثمة فرصاً ضائعة. إذ يسهم الممولون الذين يتجاهلون المبادرات الصغيرة والمحلية في إبقاء هذه المبادرات في مأزق التمويل، والمفارقة أن ذلك يعوق قدرتها وقدرة القطاع برمته على تغيير الأنظمة.

إعادة النظر في دور المؤسسات الصغيرة يمكن أن يقدم الآتي:

  • خط إمداد أكبر. ينبغي أن يكون الهدف الطبيعي إنشاء مجموعة واسعة من المؤسسات لتمويلها ودعمها واستخلاص الدروس منها. وغني عن القول إن عدد المؤسسات الصغيرة في العالم يفوق عدد المؤسسات الكبيرة إلى حد بعيد. لا يوجد سبب وجيه لرفض مؤسسة تستخدم استراتيجيات تتماشى بكل الطرق مع نهج تغيير الأنظمة لأنها صغيرة. وبدلاً من انتظار نموها وإثبات قدرتها على صناعة تغيير الأنظمة، يمكن للممولين رعايتها ودعمها وبناء خط إمداد قوي.
  • عمل أكثر. في الوقت الحالي، تشبه السردية السائدة التي تحرك مساعي تغيير الأنظمة عملية البحث عن خيل أصيلة؛ إذ يواجه القطاع صعوبة في العثور على هذا النوع من الخيول ويشعر بخيبة الأمل عندما لا يجد إلا أنواعاً أخرى من الخيل. صحيح أن الخيل الأصيلة ليست كباقي الخيول، وأن الخيل النادرة تستحق عناء البحث، ولكن إذا كان المسعى مهماً جداً وكان البحث مرتبطاً بنوع واحد من المؤسسات، فسوف يفوّت القطاع الكثير من الفرص المهمة. يؤدي تغيير فكرة القطاع عن طبيعة المؤسسة القادرة على تغيير الأنظمة وتوسيع نطاق هذه الفكرة إلى تنوع أكبر في الأساليب، والمزيد من التعلم، والتحول من “الكلام إلى العمل”.
  • تمويل أكبر. بالنسبة إلى المؤسسات المانحة الصغيرة المهتمة بتغيير الأنظمة، كان الاختيار محصوراً بين تقديم المنح الكبيرة للمؤسسات الكبيرة أو عدم فعل شيء، سواء علمت بذلك أو لم تعلم. إن توسيع نطاق المستفيدين من المنح ليشمل مؤسسات صغيرة الحجم سيؤدي إلى زيادة عدد الممولين الذين تتوافق المنح الصغيرة مع قدرتهم على العطاء، كما تعمل المنح الصغيرة المقدمة إلى المؤسسات الصغيرة على التخلص من مخاطر عدم اليقين المتأصل في تغيير الأنظمة، ما يؤدي أيضاً إلى زيادة عدد المنح والأموال المقدمة لها.
  • بيئة عمل أقوى. يتطلب تعزيز مجال تغيير الأنظمة وتنميته ضمه لمزيد من المؤسسات والقادة والمختصين. سيؤدي انضمام المؤسسات الصغيرة، وبالتالي انضمام مجموعة واسعة من الممولين واستراتيجيات التغيير إلى مشاركة أكثر نشاطاً وفهم أكثر ثراء لكيفية إحداث التغيير. كما أنه يمكّن المنظور الفريد للمؤسسات الصغيرة ذات القيادة المحلية من التأثير في عقلية هذا القطاع، عبر فهمها العميق للتحديات والفرص المحلية، وقربها من مجتمعاتها، ورشاقتها التنظيمية.

يتوصل تقييم “إس إس آي” إلى استنتاج قاطع بأن مجال تغيير الأنظمة لا يزال في تحول و”لم ينتج أعمالاً مهمة ترسم له حدوداً واضحة”. كما أنه يسلط الضوء على الحاجة إلى أصوات أكثر تنوعاً، وجهود محلية، ومصادر تمويل متنوعة. لذا، هذا هو الوقت المثالي للبدء بالعمل. لدى الممولين فرصة فريدة لتوسيع فهمهم المشترك لطرق التأثير في الأنظمة عبر إدراج المؤسسات الصغيرة في حواراتهم وتمويلهم. إذا صُحح مسار القطاع الآن، يمكنه بناء بيئة عمل قوية ومتفاعلة جداً من ممولي تغيير الأنظمة ومختصيها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.