الأزمات ليست أحداثاً عرضية تأتي مرة واحدة وتمضي، بل تتكرر مرة تلو الأخرى، ومع ذلك نشعر أنها تباغتنا في كل مرة، ويجب ألا نسمح لها بذلك. سيمنحنا إدراك أن الأزمة أمر حتمي القدرة على الاستعداد لها، والوقت مناسب الآن لنستعد للأزمة التالية، وسيكون مناسباً دائماً.
نتحدث في كتاب "القائد المستعد: اخرج من أي أزمة بقدرة على التحمل أكبر من ذي قبل" (The Prepared Leader: Emerge from Any Crisis More Resilient Than Before)، عن أن القائد يحمل على عاتقه مسؤولية الاستعداد للأزمة التالية التي تلوح في أفق مؤسسته بالفعل، ويتعين عليه في عمله القيادي تطوير القواعد والإجراءات وتوفير التنوع في وجهات النظر وعقلية التعلم التي ستمنحه القوة لاجتياز المحنة الوشيكة والخروج من الأزمة التالية بحال أفضل من حاله الأول.
المقال التالي مقتطف معدل من كتابنا نشرح فيه ضرورة أن يصبح الاستعداد للأزمات عادة قيادية راسخة، ونوضح ضرورة أن تتعامل مع القيادة المستعدّة على أنها العنصر الرابع في محصلتك النهائية.
البشر بطبيعتهم ليسوا مهيأين لمواجهة الأزمات، فنحن نعاني صعوبة في فهم التهديدات والفرص النظرية أو الغامضة المتمثلة في الخسائر والمكاسب المبهمة التي تنذر بها الأزمات. كما أننا لا نتمتع بالكفاءة في التعلم؛ نحن بطيئون في استيعاب الدروس والعمل بناءً عليها، لا سيما عندما تأتينا من أحداث غريبة ومباغتة وغير مألوفة. إلى جانب أننا ننسى بسرعة، ونشعر برغبة شديدة في العودة إلى حياتنا العادية لأنها تمنحنا شعوراً براحة كبيرة، ولذلك ننجرف بسهولة في دوامة الذعر والإهمال؛ فنهمل تحصين أنفسنا ونرضخ لضعفنا في مواجهة الأزمة التالية التي بدأت تتشكل من حولنا بالفعل. وكل ذلك لأن الأزمات واقعة لا محالة.
حتى في أثناء قراءتك هذا المقال، ثمة أزمة تتشكل فعلاً في الأفق، ومهما كان ما تعمل على إدارته الآن، سواء كانت عقابيل جائحة كوفيد-19 أو أعمالك الاعتيادية، فثمة ما يتربص بك من مكان ما، وقد يكون أمراً جللاً أو حدثاً عابراً، وقد يؤثر في قسم واحد من مؤسستك أو يتلف شركتك بأكملها. مهما كان هذا الأمر، فتذكر نصيحتنا لك: إياك والتخلي عن الحذر.
علمتنا أحداث عام 2020 أنه في ظل العولمة السائدة في عالمنا أصبحت الأزمات تتطور بصمت وسرعة عجيبين، وفي ظل الترابط الفائق في مجتمعاتنا وأنظمتنا الاقتصادية والتطور الكبير في البنى التحتية والتعقيد في سلاسل التوريد، يمكن للحدث الذي يبدأ في إحدى زوايا كوكبنا الانتشار إلى أماكن أخرى من العالم في غضون أشهر أو أسابيع أو حتى أيام. خذ مثلاً الأمراض المعدية وانعدام الاستقرار المالي والتغيرات الجيوسياسية والتفاوت والفساد والتغير المناخي وموجة الاستقالة الكبرى والعالمية؛ تتمتع الأزمات اليوم بقدرة غير مسبوقة في التاريخ على الانتشار في العالم، بغضّ النظر عن نشأتها.
قد يبدو ذلك باعثاً على الكآبة والتشاؤم، إلا أنه في الواقع ليس كذلك على الإطلاق، فأنت بوصفك قائداً تتمتع بالقدرة على تحديد مسار الأزمة التالية وتحديد أثرها ونتائجها وآفاقها بالنسبة لمؤسستك. يمكنك رصد الإشارات واحتواء الضرر أو حتى دفعه في مسار معاكس وتحفيز التعافي وتوجيه كل ذلك نحو التعلّم؛ التعلّم الذي سيمدّك وموظفيك بالقوة اللازمة لمواجهة التحديات المستقبلية. يمنحك دورك القيادي القدرة على السيطرة، وأنت قادر على تحويل مجرى الأمور، بشرط أن تكون مستعداً.
الإنسان والكوكب والأرباح، والقيادة المستعدّة
نشهد اليوم درجات هائلة من التغيير وانعدام اليقين، وعلى الرغم من أن أزمة كوفيد-19 بدأت بالانحسار فثمة مخاطر وتحديات وفرص كبيرة تلوح في الأفق، يمكننا توقع بعضها ولكن البعض الآخر مجهول تماماً. تستمر التكنولوجيا والابتكارات مع حب الإنسان للاستطلاع بتعزيز التقدم وتحقيق نقلات نوعية باتجاه مستقبل يفوق التصور، ولكن ذلك يترافق مع مخاطر تهدد رفاهتنا ووجودنا بحد ذاته على الكوكب، وقد بلغت هذه المخاطر اليوم ذروتها.
نحمل اليوم على عاتقنا مسؤولية مهمة تتمثل في صنع قادة وشركات ومواطنين مؤسسيين أفضل، وهي أكبر من أي مسؤولية حملتها أجيال القادة السابقة قطّ؛ لطالما فهمنا مسؤوليتنا تجاه المساهمين في قطاع الأعمال بصورة واضحة، ولكننا نحمل أيضاً مسؤولية تلبية متطلبات أصحاب المصالح الآخرين في مجتمعاتنا المحلية والمجتمع الأوسع وبيئتنا ككل.
يفهم كثير منا هذه المسؤولية بصيغة المحصلة النهائية الثلاثية (triple bottom line)، التي تعني أنه لم يعد يكفي أن نركز على تحقيق النتائج المالية فقط، وأن القيادة الجيدة والفعالة تمنح الأولوية لاحتياجات الإنسان والكوكب إضافة إلى النتائج المالية وتدمجها كلها في المحصلة النهائية؛ هذه هي عناصر المحصلة النهائية الثلاثية التي تدعم رؤيتك واستراتيجيتك وقراراتك والثقافة التي تغرسها في مؤسستك.
في الأعمال العادية تكون المحصلة النهائية الثلاثية، بعناصرها الثلاثة، دليلاً مرشداً وخارطة طريق وإطار عمل للإدارة الرشيدة التي تعينك على تحقيق أهدافك وأهداف مؤسستك. ستساعدك العناصر الثلاثة على القيام بمهام التخطيط والتوجيه في أثناء تنفيذ استراتيجيتك في الأوقات العادية.
ولكن الأعمال العادية هي مجرد وهم، وهي في أفضل الأحوال متقطعة ومؤقتة، ويمكن مقاطعتها وزعزعتها في أي وقت، ولها تبعات يصعب عليك تخيلها.
خذ مثلاً جائحة كوفيد-19 التي سادت العالم بأسره في أقل من شهرين؛ تمكنت في أقل من 6 أسابيع من تدمير أنظمتنا الاقتصادية وإفراغ مدننا وأجوائنا وإغلاق حدودنا ومدارسنا وكلياتنا وتفكيك سلاسل التوريد، وقلبت عالمنا رأساً على عقب وأدخلته في حالة ركود، وأغرقتنا في بحر من انعدام اليقين بشأن مستقبلنا. ولكنها في نفس الوقت منحتنا رؤية جلية لحقيقة أنه من الممكن أن يحدث ما لا نتوقعه، بل هو مؤكد وسيحدث مجدداً على الأرجح.
مهما كان شكل هذه الأزمة أو حجمها، سواء كانت تتسلل بصمت في إحدى زوايا عملك أو توشك على الانفجار فجأة وبقوة، فثمة أزمة تدنو منك ومن مؤسستك في كل وقت، ويجب عليك الاستعداد للتعامل مع جميع الاحتمالات أياً كانت من الآن فصاعداً، وأن تحصن نفسك ومؤسستك لمواجهة المحنة المقبلة واجتياز أسوأ ما فيها واستقبال عقابيلها بقدرة أكبر على التحمل.
في عالم مثالي ومتوقع سيكفيك التركيز على محصلتك النهائية وعناصرها الثلاثة المتمثلة في الإنسان والكوكب والأرباح، ولكن في عالمنا المضطرب والعشوائي والمتغير وواقعنا المتقلب، ثمة عنصر رابع للمحصلة النهائية يتعين عليك منحه الأولوية ودمجه في جميع نواحي رؤيتك واستراتيجيتك وقراراتك وثقافتك وعملك القيادي، وهو أن تكون مستعدّاً للأزمة التالية.
استعدادك هو ما سيقرر نجاتك أو سقوطك عندما يحدث ما هو غير متوقع. والأهم هو أن استعدادك بصفتك قائداً سيحدد قدرتك على اجتياز المحنة. ستكون القيادة المستعدّة العامل الحاسم في قدرتك على الاستمرار في تلبية متطلبات الإنسان والكوكب والأرباح، لأنك من دونها ستواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع الفوضى وانعدام اليقين واحتمالات وقوع الكوارث الحقيقية التي ترافق الأزمات.
القيادة المستعدّة هي ما سيحدد في نهاية المطاف نجاحك وقدرتك على الاستمرار وطول عمر عملك أو فشلك عندما ترمي الأزمة التالية أوزارها عليك وعلى شركتك. ولذا، يجب أن تضع القيادة المستعدّة محوراً لإطار العمل القيادي الذي تتبعه بوصفها العنصر الرابع الذي سيدعم الأولويات الثلاثة الأخرى ويعززها؛ الإنسان والكوكب والأرباح.
القائد المستعد ليس قائداً يتوقع الأسوأ وينتظر وقوعه ببساطة، بل هو الذي يطور رؤية واضحة عن طبيعة الأزمات وطرق ظهورها، ويختبر تفكيره وطريقته في صناعة القرار وينمي مجموعة محددة من المهارات التي ستمنحه القوة حينما يسود الغموض ويصبح الوقت المتاح للعمل محدوداً. القيادة المستعدّة هي استخدام الأدوات المتاحة من خبرات وتجارب ووجهات النظر المتنوعة في كشف جميع أبعاد الأزمة ووضع خطط للمسارات المختلفة التي تؤدي إلى الحلول، وطرح الأسئلة والاستماع إلى الأجوبة واغتنام فرص التعلم التي تخلقها الأزمة، والإقبال على التجارب والأساليب الجديدة وتقبّل المخاطر والمكاسب في آن معاً.
نؤمن بأن القيادة المستعدّة تنطوي في جوهرها على التفاؤل، والإيمان بأن الإنسان والمؤسسات على حدّ سواء قادرون على الخروج من الأزمات بقوة وقدرة على التحمل أكبر وأفضل من ذي قبل.
كيف تصبح قائداً مستعدّاً؟
ليس بالإمكان معرفة الأزمة القادمة، ولكننا نعرف أن الاستعداد لما لا نتوقعه ينطوي على الاستمرار في التخطيط له. قد تبدو هذه المهمة صعبة جداً، ولكنها في الواقع سهلة ويمكن أن تصبح عادة مكتسبة.
إذاً كيف تخطط لما لا تتوقعه؟
أولاً، يجب أن تنتبه للإشارات وتتحرى علامات التغيير في البيئة المحيطة بك، وذلك يستدعي منك توحيد العقلية والسلوك وجمع الإجراءات والآليات والمهارات القيادية في المؤسسة كي تتمكن من إدراك محيطك وتخطيط التصورات على نحو يتيح لك تمييز الإشارات وفهمها على حد سواء.
ثم يتعين عليك تطبيق الإجراءات والأنظمة المناسبة كي تتمكن أنت وفرق مؤسستك من اتخاذ إجراءات المراوغة لتفادي الأثر السلبي إن أمكن، وإذا لم يكن ذلك ممكناً فاحرص على توفير الوقت والمجال اللذين تحتاج إليهما أنت وموظفوك للتحصن منه بما يكفي.
ما إن تحط الأزمة رحالها يجب أن يكون المزيج المناسب من القدرات جاهزاً ومتاحاً للمساعدة في احتواء أي ضرر تحدثه أو تخفيفه والحدّ من انتشاره؛ من المهم أن يكون بإمكانك الحصول على المعلومات والمعارف من أكبر قدر ممكن من المصادر كي تتخذ قرارات مستنيرة فورية وتضمن أن يتم تنفيذها، ومن الضروري أيضاً أن يبقى التواصل مستمراً دون انقطاع ويجب أن تعدّ أنظمته وقواعده كي تضمن ذلك.
يجب أن تبدأ من احتواء الضرر كي تبني طريقك باتجاه التعافي، وهذا يعني أن تستخدم المعلومات والمعارف والقدرة على التحمل والإمكانات الإبداعية لتحديد الغايات المنشودة والأهداف النهائية والنظر إلى المدى البعيد دوماً.
والأهم هو أن تكون جاهزاً ومستعداً للتعلم من الأزمة، يجب أن ترسخ في مؤسستك ثقافة التعلّم المدعومة بالإجراءات والقواعد اللازمة لاستخراج المعلومات ومشاركتها ومعالجة العقبات الأساسية التي تعيق تدفق المعارف، وأن تطبق الإجراءات اللازمة لفهم جميع الدروس ودمجها في عمليتَي صنع القرار والتخطيط في أثناء تقدمك.
ولأجل القيام بهذه الخطوات على النحو الصحيح سيتعين عليك بناء فرق وعلاقات مجبولة بالثقة والانفتاح، وتوفير المهارات والمعارف ووجهات النظر المتنوعة كي تتمكن من رؤية الصورة الكاملة قدر الإمكان، كما سيتعين عليك اتخاذ خطوات مدروسة لتطوير تفكيرك النقدي ووعيك الذاتي، والاحتراز من التحيز في عملية صناعة القرار، والأخذ بخبرات الآخرين، وبناء الثقة اللازمة كي تفوض العمل إليهم حسب الضرورة، وتمكين العمل التعاوني الإبداعي من أجل التعامل مع المشكلات على أنها فرص عند الإمكان. هذا يعني أن تمنح الأولوية للتعلّم من الأخطاء أو الإخفاقات في حينها، والتخلي عن الأشياء غير المجدية وتغيير مسار العمل وتكييفه حسب الحاجة وتعزيز المؤسسة بأكملها لتتمكن من اتخاذ الإجراءات الإصلاحية بصورة جماعية.
بعض القادة يفعلون كل ذلك بصورة فطرية، في حين يحتاج البعض الآخر إلى بذل جهد مدروس لتعلمه، ولكنه بالنسبة لنا جميعاً ينطوي على الجهد والعزم على القيام بما يلزم اليوم لدعم أنفسنا ومؤسساتنا والصمود في وجه ما يرمينا به الغد، أياً كان.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.