3 دروس مستفادة من الأزمات عن التعاون وتحقيق التأثير

6 دقائق
العمل التعاوني وتحقيق الأثر

الضغط مرهِق لكن أدمغتنا قادرة على التكيف معه بصورة جيدة. في الواقع، يقول خبراء في علم نفس الصحة مثل لوريل ميلين: "إذا دربنا أدمغتنا على التكيف مع فترات الضغط الشديد التي نمر بها فستتحسن جميع جوانب حياتنا تقريباً". بعبارة أخرى، يمكننا الاستعاضة عن العقليات التي تثبطنا بأفكار واستراتيجيات تهيئ عقولنا للعمل والقدرة على التحمل.

أرى أن ذلك ممكن بالنسبة لمؤسسات الأثر الاجتماعي أيضاً؛ إذ يؤدي إتقان الاستراتيجيات التي تعيننا على تجاوز الأزمات إلى تحسين جذري في طريقة عمل مؤسساتنا حتى بعد انتهاء الأزمة بزمن طويل.

شاركت العام الماضي في تنفيذ مبادرتين للاستجابة لجائحة كوفيد-19: الأولى هي صندوق لتمويل الاستجابة للجائحة، كوفيد-19 آكشن فَند فور آفريكا (كاف-آفريكا) (COVID-19 Action Fund for Africa - CAF-Africa)، وهي عمل تعاوني بين أكثر من 30 شريكاً لتوفير معدات الحماية الشخصية للعاملين في قطاع الصحة المجتمعية في إفريقيا؛ والثانية هي شبكة بانديميك آكشن نتوورك (Pandemic Action Network)، التي أسهم من خلالها أكثر من 120 عضواً في تسريع الاستجابة العالمية لجائحة كوفيد-19 وتهيئة العالم للجوائح المستقبلية.

أجبرتنا الجائحة مثل كثير غيرنا على العمل في حالة استنفار لمواجهة الأزمة، واضطررنا إلى تشكيل الفرق وحشد الشركاء بسرعة كبيرة والعمل بأساليب غير تقليدية، لكن وعلى الرغم من التحديات تمكنت المبادرتان من شراء أكثر من 81 مليون وحدة من معدات الحماية الشخصية في إفريقيا وتوضيح أهمية ارتداء الكمامات لأكثر من 3.5 مليار شخص في 117 دولة.

اتبعنا عدة أساليب تميزت 3 منها بفعاليتها، وهي تشكيل الشراكات الفضفاضة وتنحية الأنانية والعمل بعقلية تلبية الضرورات الملحّة، ومع أن هذه الاستراتيجيات ليست جديدة على قطاع الخدمة الاجتماعية فقد أثبتت أهميتها الحيوية لنجاحنا في أثناء الجائحة. أعتقد أنها تتمتع بنفس القدر من الأهمية بالنسبة للمؤسسات الأخرى أيضاً، إذ إن تضافرها في فترات الرخاء يسرع تقدم المؤسسات في مختلف القضايا التي تتعامل معها.

1. عقد شراكات فضفاضة

يكون كثير من الأعمال التعاونية محدوداً بسبب أحد المكونات الرئيسة؛ في بعض الأحيان يضيّق القائد أو المتبرع منظور المجموعة وجدول أعمالها، في حين تعمل مجموعات أخرى بناءً على إجماع أعضائها، ولكنهم لا يتفقون سوى على عدد قليل من الإجراءات. في مثل هذه الحالات لن تستفيد المبادرات من كامل مجموعة الخبرات والأنشطة المتاحة لها.

إحدى الطرق للتخلص من هذه القيود هي تشكيل شبكات أو شراكات "فضفاضة" توازن بين الاستقلالية والدعم، إذ يسهم الأعضاء كل حسب استطاعته ويعتمدون على المجموعة عند الضرورة، لكن لا يوجد قائد محدد للمجموعة وهي لا تمثل أياً من أعضائها بصورة دائمة.

تطبق المجموعات التعاونية الفنية هذا النموذج باستمرار؛ في الستينيات من القرن الماضي مثلاً، جمع مسرح جدسون للرقص (Judson Dance Theater) في مدينة نيويورك عدداً من مصممي الرقصات والموسيقيين والمؤلفين والفنانين التشكيليين تحت مظلة نهج فني مشترك. لم يكن للمجموعة مدير ولم تتبع سوى عدد قليل من القواعد الرسمية، بل تعاون أعضاؤها على إجراء التبديلات التي تحقق أهدافهم المشتركة في استكشاف النمط والهيئة الفنيين. كان بعض الأعضاء مثل مصممة الرقصات، تريشا براون، نشطين جداً وألفوا عشرات الأعمال المختلفة وشاركوا فيها، في حين كان بعضهم الآخر مثل آندي وورهول يقدم إسهامات قليلة في بعض الأحيان، وعلى الرغم من تناوب الأعضاء بإسهاماتهم فقد كان حضورهم ونتائجهم الجماعيان دائمَين، ما جعل المسرح غزير الإنتاج ومؤثراً. أنتج مسرح جدسون نحو 200 عمل مسرحي على مدى العامين اللذين عمل فيهما وشكّل علامة فارقة في تعريف فن الرقص في عصر ما بعد الحداثة في الولايات المتحدة.

للحصول على المستوى ذاته من النشاط، كان على شبكة بانديميك آكشن توحيد مجموعة خبراء في السياسة والصحة العامة والمساواة والتواصل وفي عشرات المجالات الأخرى، واتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة على عدة جبهات في الوقت نفسه. ولذلك حرصنا على أن تكون المبادرة مرنة بطبيعتها، وحرصنا على أن يتمكّن الأعضاء من اختيار الأنشطة التي يشاركون فيها، مثل التوقيع على وثيقة تتعلق بالسياسات أو استخدام منصاتهم لنشر رسالة ما، لكن الأهم هو أن الشبكة تنشئ منتدى يتعلم الأعضاء فيه بعضهم من بعض ويدعمون احتياجاتهم الآنية. كما توضح شروط العضوية أن قيادة المبادرة تستطيع التصرف من دون إجراء المشاورات الموسعة التي تستغرق وقتاً طويلاً، ولا يحقّ للأعضاء استخدام حق النقض ضد أنشطة المبادرة، وهم غير مسؤولين عن كل ما تفعله.

أتاح هذا التراخي للمبادرة مواجهة مجموعة من التحديات بسرعة وقوة، وساعدنا على صياغة سياسات الاستجابة للجائحة التي أقرها الرئيس بايدن، ودعم حملات التوعية العامة الكبرى على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعزيز أكبر مبادرة في العالم لإمداد الدول منخفضة الدخل باللقاحات. تتيح الاستفادة من مكامن قوة كل عضو عند الحاجة تحقيق تأثير واسع وعميق.

2. تنحية الأنانية

لا تحتاج إلى أزمة لتتعلم أنه "لا مكان للأنا" في الفريق، لكن الضغط الذي تسببه الأزمة يكشف عن تنوع السبل التي تُدخِل الأنانية حتى في العمل على إنجاز مهمة محددة. تتنافس المؤسسات على المكانة أو الشهرة كي تؤمن التمويل الذي يتطلبه استمرارها، ويتنافس الأفراد على فرص التحدث وأشكال التقدير المختلفة الأخرى. بعبارة أخرى، تتطلب تنحية الأنانية قدراً كبيراً من الانضباط، فهي تعني التخلي عن العادات القديمة وتبنّي عادات جديدة، ولعلها تعني أن يتحمل الفرد تكلفة على الصعيد الشخصي في سبيل الصالح العام، أي "التضحية من أجل الفريق" كما يُقال.

ولاعب كرة السلة كيفن غارنيت هو خير مثال على ذلك؛ كان أفضل هدّاف في فريق مينيسوتا تمبر ولفز (Minnesota Timberwolves) على مدى 10 أعوام، ثم انتقل إلى فريق بوسطن سيلتيكس (Boston Celtics)، الذي كان يضم لاعبين لامعين آخرين، فانخفض أداؤه في تسجيل الأهداف وتدنى زمن اللعب بدرجة كبيرة، لكن بدلاً من أن يتذمر أو يتمرد ركز على اكتشاف أفضل طريقة ليحقق الفائدة لفريقه الجديد؛ اللعب في خط الدفاع. ساعد بذلك الفريق على الفوز ببطولة الدوري وحصل على جائزة أفضل مدافع في تكريمات ذلك العام، ليثبت أن "التضحية في سبيل الفريق" تعود بالنفع على المستوى الشخصي أيضاً.

ساعدت تنحية الأنانية في أثناء الجائحة أعضاء مبادرة بانديميك آكشن نتوورك على تعزيز عملهم التعاوني فضلاً عن أنها عززت تعاون المبادرة نفسها مع مؤسسات أخرى خارج مجموعتنا. مثلاً، للحد من انتشار الإصابات بفيروس كوفيد-19 في العالم أواخر صيف عام 2020، أطلقنا حملة أسبوع الكمامات العالمي (World Mask Week) التي جمعت عدداً كبيراً من شركاء القطاعين العام والخاص لتركيز رسالة الحملة على التوعية بأهمية ارتداء الكمامات. قدمت المبادرة للمجموعة عدداً من الأدوات ولكن شجعنا الشركاء أيضاً على اتباع أي أسلوب يناسبهم لزيادة الوعي حول هذه القضية.

لم يكن مهماً تحديد صاحب الوسم (هاشتاغ) الأكثر انتشاراً، بل المهم هو أنه بحلول نهاية ذلك الأسبوع عرف مليارات من الناس أن ارتداء الكمامة هو أحد أبسط وأهم التدابير التي يمكنهم اتخاذها لحماية أنفسهم والآخرين، ولو اهتمت كل مؤسسة بمنح الأولوية لحملتها الخاصة لما حققنا هذا الانتشار.

نحّى أعضاء مؤسسة كاف-آفريكا أنانيتهم في السياق الأكثر حساسية، وهو المال؛ للمساعدة على انطلاق عمل التحالف، شارك الأعضاء معلومات حول المؤسسات المانحة التي تمولهم مع المجموعة، ما أدى إلى جمع 100 عميل محتمل تقريباً. وأعاد بعض الأعضاء توجيه العروض الفردية التي تلقَّوها من المؤسسات المانحة وطلبوا منها تقديم التبرعات لمؤسسة كاف-آفريكا.

الأنانية مخادعة وعلينا توخي الحذر لإبعادها عن مشاريعنا التعاونية، وسنتمكن من إطلاق العنان لأعظم إمكانياتنا لتنفيذ مشاريعنا وإحراز التقدم المنشود من خلال منح الأولوية للمهمة المشتركة دائماً ومع جميع شركائنا.

3. العمل بعقلية تلبية الضرورات الملحّة

تعني الاستجابة الفعالة للأزمة مجاراة المشكلة في سرعة تطورها، لكن العمل بعقلية تلبية الضرورات الملحّة يساعد في التغلب على التحديات طويلة الأمد أيضاً. بنى قطاع التكنولوجيا سمعته على فكرة الابتكار السريع هذه، ويقول مؤسِّس مؤسسة كود ناو (CodeNow)، رايان سيشور: "تستطيع المؤسسات غير الربحية العمل بوتيرة مماثلة، إلا أننا لا نريد التحرك بسرعة وإفساد الأمور بل التحرك بسرعة وتقديم المساعدة".

بالنسبة للعمل التعاوني في مجال الأثر الاجتماعي، يعني العمل بعقلية تلبية الاحتياجات الملحة أن نواجه التحديات دون انتظار أن تتولى المؤسسات العالمية الكبرى معالجتها أو انتظار أن تدعونا للانضمام إليها لمعالجة تلك التحديات، وأن نحدد مواعيد نهائية صارمة ونبذل قصارى جهدنا مع المعطيات الحالية المتاحة بدلاً من انتظار الحصول على الإجابة أو الخطة المثالية.

يوضح نقص الأوكسجين الطبي في الهند مؤخراً أهمية العمل بعقلية تلبية الاحتياجات الملحة؛ ما إن تصدرت هذه المشكلة عناوين الصحف في شهر أبريل/نيسان من عام 2021، سارع الخبير الاقتصادي رامانان لاكسمينارايان لتأسيس مؤسسة أوكسجين فور إنديا (Oxygen for India) تعمل على توصيل أسطوانات الأوكسجين وأجهزة توليده إلى مزودي الخدمات الطبية والمرضى مجاناً. لم ينتظر رامانان توفر الحد الأدنى المطلوب من الأموال أو الأعضاء أو المستفيدين، بل سارع لجمع التبرعات من شبكة علاقاته الشخصية، وبالتالي تمكنت المجموعة من تقديم بعض المساعدة الفورية ولفت الانتباه إلى المبادرة. وفي غضون شهر واحد فقط جمعت مؤسسة أوكسجين فور إنديا أكثر من 20 مؤسسة شريكة وسلمت 2,500 أسطوانة أوكسجين وأكثر من 1,500 جهاز توليد أوكسجين للمحتاجين.

كانت مؤسسة كاف-آفريكا سباقة أيضاً في معالجة نقص معدات الحماية الشخصية للعاملين في قطاع الصحة المجتمعية، إذ كانت عدة مؤسسات، مثل كوميونيتي هيلث إمباكت كواليشن (Community Health Impact Coalition - CHIC) مدركة لجوانب المشكلة، واجتمعت في شهر أبريل/نيسان عام 2020 لتحليل المشهد العام وجمع الأموال وإرسال معدات الحماية الشخصية على متن طائرات الشحن إلى ليسوتو وزيمبابوي ودول أخرى، ولكن هذه القضية لم تُطرح في جداول أعمال الهيئات العالمية الكبرى إلا بعد عام. لو انتظرنا دعوة أو مبادرة ما لبقي نصف مليون عامل من دون معدات الحماية الشخصية حتى الآن، ولكن بحلول نهاية عام 2020 كانت مبادرتنا خامس أكبر مشترٍ لمعدات الحماية الشخصية في العالم.

ما بعد مواجهة الأزمة

تجبر الأزمات مثل جائحة كوفيد-19 المؤسسات على تنحية تفضيلاتها وعاداتها التقليدية جانباً، واعتماد الخطط والشراكات التي تساعدها على اتخاذ إجراءات هادفة وفورية. وعلى الرغم من أن الضرورة دفعتنا إلى اتباع الاستراتيجيات الموضحة في هذا المقال، فبإمكان المؤسسات اعتمادها حينما تشاء.

كل طرف في قطاع الخدمة الاجتماعية يعمل على تلبية حاجة ملحّة؛ توفير الأمن الغذائي مهم بغضّ النظر عن وجود مجاعة، واتخاذ الإجراءات المناخية ضروري بغضّ النظر عن مساحة الأراضي المشتعلة. مهما كانت المهمة، فالقيود الهيكلية والدوافع الأنانية ستعيق التقدم فيها، ولذلك يجب أن نعمل على إزالتها.

وبالتعاون فيما بيننا على العمل بعقلية تلبية الاحتياجات الملحة بمنأى عن الأنانية سنتمكّن من الوفاء بالتزامنا تجاه تحقيق الأثر المنشود والتركيز على ما يهم فعلاً. نحن نعتمد هذه الاستراتيجيات حين تجبرنا الأزمة على ذلك، لكنها في الواقع مناسبة لكل الأوقات.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي