يشعر العاملون في الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر على اختلاف أدوارهم بالإنجاز والفخر بما حققوه من أثر معرفي عميق على امتداد رحلة قيادتهم للمشروع في عامه الثاني. وبالطبع، ليس من الدقيق ولا العادل اختزال رسالة الصندوق في توفير آلية فعالة لتوزيع المنح فقط، لأن ذلك يقلل من قيمة الجهود الجبارة للقائمين على هذا المشروع والمساندين له خلال الفترة الماضية، وأعني بذلك مئات المشاركين الذين استثمروا الوقت والجهد لتقديم مشاريعهم وأفكارهم وطلب دعمنا، أو فريق "دبي العطاء"، المؤسسة الخيرية الممولة للصندوق، أو الناشرون الأعضاء في لجنة الصندوق، والذين واصلوا الليل بالنهار في تمحيص وتدقيق المشاريع المشاركة لتحديد أكثرها استحقاقاً وأعمقها تأثيراً.
ركزنا خلال العام الحالي (2021) على دعم الحلول الرامية للتغلب على التحديات الصعبة التي يواجهها قطاع التعليم في إفريقيا، والتي تفاقمت لأقصى حد بعد إغلاق المدارس في جميع أنحاء القارة بسبب تداعيات الجائحة. أدركت البلدان الإفريقية، في سياق جهودها للتعامل مع تداعيات الأزمة الصحية، أن أمامها تحد مزدوج يتمثل في التحول إلى أنظمة التعلم عن بُعد بجانب خفض ميزانيات التعليم لتوفير التمويل اللازم لمجموعة أخرى من الأولويات الملحة. وقد فرضت قرارات إغلاق المدارس على تلك البلدان نقل أكثر من 250 مليون طالب إلى نظام التعليم عبر الإنترنت بين عشية وضحاها.
وعلى الرغم من أن القارة الإفريقية تعاني بالفعل من أحد أسوأ مستويات عدم التحاق الأطفال بالمدارس في العالم (نحو 100 مليون طفل) حتى قبل ظهور جائحة "كوفيد-19"، فقد شكّل التحول إلى التعليم عبر الإنترنت تحدياً إضافياً تفتقد العديد من المنظومات التعليمية والحكومات الإفريقية المقومات الكافية للتغلب عليه.
لقد سألت المستفيدين من المنح لعام 2021 عن آرائهم حول الوضع في القارة، وقد أدهشني أن الأزمة قوت عزمهم على إحداث تغيير طال انتظاره في قطاعات التعليم في بلدانهم.
وقالت كوموريور أليرا بوشيراتو، الشريك المؤسس لمؤسسة "ليرنيرز غيرلز" (Learners Girls Foundation) المعنية بتعليم الفتيات أن "الطلاب الغانيين الذين انتقلوا إلى أساليب التعلم الإلكتروني في خضم تداعيات جائحة كوفيد-19 واجهوا العديد من المصاعب والعراقيل، التي شكلت عائقاً في سبيل مواصلة دراستهم، مثل قلة توفر أجهزة الاتصال بالإنترنت، وضعف جودة الاتصالات في المناطق الريفية، والتكلفة العالية لخدمات الإنترنت".
وقد سلطت نقاشات المنتديات الإقليمية الإفريقية التي نظمها الاتحاد الدولي للناشرين قبل ظهور الجائحة الضوء أيضاً على مدى تأخر الغالبية العظمى من الناشرين المتخصصين في مجال التعليم والأنظمة التعليمية في إفريقيا في تنفيذ عمليات التحول الرقمي واعتماد التقنيات ذات الصلة. وقد عانى العديد من الناشرين والمعلمين في إفريقيا في سعيهم للتكيف مع التحول إلى أنظمة التعليم عبر الإنترنت
ويرى ويل كلورمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أي كاتابو" (eKitabu)، أنه "نظراً لضعف سياسات دعم التعليم الشامل خلال الفترة الماضية، لم يكن الناشرون وغيرهم من الأطراف المعنية بالتعليم يعتبرون تطوير وتوفير محتوى رقمي يسهل الوصول إليه ضمن أولوياتهم. ولكن مع إقرار السياسات الحكومية الداعمة للتعليم الشامل — والتوجه نحو التعليم عن بُعد — تحت وطأة الجائحة — جعل العمل الجاد على تحقيق ذلك أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى".
ويزداد الموقف تعقيداً بسبب المشاكل المزمنة نتيجة عدم كفاية الإنفاق على مرافق البنية التحتية الاجتماعية، مثل المكتبات، والتي كان من الممكن أن تساعد الطلاب على الانتظام في المدارس. وقد يؤدي الانتقال المفاجئ إلى أنظمة التعلم عن بُعد في الدول الإفريقية إلى ظهور جيل من الأطفال غير القادرين على الوصول إلى التعليم أو الذين يواجهون صعوبات تدفعهم لترك المدارس كلية بسبب الفجوات الرقمية بين المناطق الحضرية والريفية والفوارق الكبيرة بينهما والتي تفاقمت بسبب الجائحة.
الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر
وفي عام 2019، تم تأسيس الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر (APIF) في إطار شراكة بين مؤسسة "دبي العطاء" والاتحاد الدولي للناشرين، لإبراز الابتكارات التي تعالج العديد من التحديات والتي أبرزتها الجائحة بشكل واضح على صعيد الوصول للخدمات وتنمية القدرات. وقد كان من الجلي بالنسبة لنا أن توجه المدارس الإفريقية إلى التعلم عن بُعد بخطى متسارعة يعني أن ملايين الطلاب سيحرمون من حقهم في التعليم، وأن الكثيرين منهم سيتسربون من التعليم.
ولهذا، أعطى الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر هذا العام الأولوية في المنح للابتكارات الرامية لتمكين الطلاب من مواصلة الدراسة وعدم التسرب من التعليم وتزويد المجتمعات التي تفتقر إلى الموارد الضرورية بوسائل للوصول إلى الكتب ووجهات تعزز التضامن المجتمعي والمهارات التعليمية وحب القراءة. وقد اخترنا 5 مبادرات فقط من بين أكثر من 300 مبادرة مُشارِكة، تستهدف ثلاثةَ مجالات اعتبرناها أولوياتٍ قصوى.
1- تمكين الأطفال من الاستمرار ضمن المنظومة التعليمية
تشير الدلائل المستقاة من الأوبئة السابقة في إفريقيا إلى أن الأطفال، وخاصة الفتيات، معرضون بشكلٍ متزايد لخطر التسرب من التعليم والخروج من المدارس دون دعم مناسب. ففي غانا، حيث تبلغ نسبة الأطفال القادرين على الوصول إلى خدمات التعليم عن بُعد أقل من 70% فقط من الأطفال في سن الدراسة، قدم الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر منحة لمؤسسة "ليرنيرز غيرلز" لمساندة 400 فتاة من المعرضات لخطر التسرب من التعليم في المجتمعات الريفية من أجل مواصلة تعليمهن. وستوجه المنحة لدعم التواصل بين الفتيات والمتطوعين لمساندتهن في أداء الواجبات المدرسية، بالإضافة إلى توفير مرشدين وشخصيات قيادية وبرامج تدريبية تهدف إلى معالجة عدم التوازن في التحاق الفتيات بدراسة العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وفي هذا الصدد، يقول تيليسفور نامباجيمانا، من مؤسسة "سيف ذا تشيلدرن" (Save the Children) الرواندية، "المساواة بين الجنسين ودمج أصحاب الهمم في قطاع صناعة الكتب دائماً ما كان محدوداً. ولا شك في أن معالجة هذه القضايا في ظل المصاعب الناجمة عن الجائحة أصبح الآن أكثر أهمية من ذي قبل".
2- دعم الناشرين والمعلمين وأمناء المكتبات للحاق بركب التحول الرقمي
يعاني صناع السياسات والمعلمون والناشرون والطلاب في جميع أنحاء إفريقيا تعقيداتٍ تعرقل جهود التحول إلى التعلم عن بُعد بسبب ندرة المحتوى الرقمي الذي يمكن الوصول إليه. وقد أكد العديد من اتحادات الناشرين الوطنية تلك النتائج في تقرير الاتحاد الدولي للناشرين الذي حمل عنوان "من الاستجابة إلى التعافي: تأثير كوفيد-19 على صناعة النشر العالمية".
كما كشفت دراسات أخرى أن المعلمين الأفارقة لم يكونوا مستعدين لدمج الحلول التكنولوجية في الفصول الدراسية والتحول إلى التعلم عن بُعد لأن غالبيتهم لم يتلقَ أي تدريب في هذا الصدد.
وفي تأكيد على الضرورة المُلِحّة لتوفير التدريب المهني والدعم المستمر للمعلمين من أجل الوصول لمنظومة تعليمية شاملة وذات جودة عالية، يقول كلورمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أي كاتابو"، أن "التعليم عن بُعد ليس مجرد تقديم دروس عبر الإنترنت. ولكي يتمكن المعلمون من الاعتماد بالكامل على الوسائل التعليمية المتاحة عبر الإنترنت، فلا بد أن يكون لديهم الثقة الكافية لإعداد وتطوير وتقديم محتوى يسهل الوصول إليه ويلبي احتياجات جميع الطلاب".
ولمعالجة ضعف المواد التدريسية والوسائل التعليمية الرقمية وتطوير قدرات المعلمين وأمناء المكتبات، قدم الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر منحاً لشركة "أي كاتابو" في كينيا ومؤسسة "سيف ذا تشيلدرن" في رواندا. حيث ستنطلق جهود شركة "أي كاتابو" من كينيا، التي تعتبر أحد أبرز مراكز النشر الإقليمية في منطقة شرق إفريقيا، مع خطط مستقبلية للتوسع في 12 دولة إفريقية أخرى. وتسعى الشركة للتعاون مع الناشرين من أجل إثراء تجربة التعلم عن بعد لأكثر من تسعة ملايين طالب ومعلم بمواد تعليمية رقمية يمكن الوصول إليها بيُسرٍ وسهولة. وبالمثل، ستقوم مؤسسة "سيف ذا تشيلدرن" بتدريب 270 أمين مكتبة في 8 مكتبات مجتمعية على استخدام التكنولوجيا لتعزيز ثقافة القراءة في المجتمعات الريفية والنائية مع توفير مواد للقراءة يمكن الوصول إليها رقمياً بلغة كينيارواندا لتمكين 1.6 مليون طفل من مواصلة متعة القراءة على الرغم من عدم قدرتهم على الذهاب إلى المدارس.
3- تعزيز روح التضامن المجتمعي من خلال المكتبات
لا يقتصر الدور المهم للمكتبات على توفير الكتب فحسب، بل إنها تمثل مراكز للدراسة واكتساب مهارات التطوير المهني وحتى الوصول إلى المياه. ومع ذلك تفتقر المجتمعات الريفية الإفريقية ذات الموارد المحدودة غالباً إلى المكتبات المجتمعية.
وترى سامانثا توماس تشولا، رئيسة البرامج لدى منظمة "بوك إيد إنترناشيونال" (Book Aid International) أن المكتبات تكتسي أهمية كبيرة في المجتمعات الريفية، "فوجود مقار [للمكتبات] يعني استمرار دورها في تطوير المجتمع على المدى الطويل من خلال مجموعة متنوعة من فرص التعلم التي تحتضنها داخل جدرانها".
ونظراً لأن المكتبات غالباً هي الأماكن الوحيدة للوصول إلى أجهزة الحاسوب وشبكة الإنترنت، فإن الطلاب في المجتمعات الريفية يواجهون خطراً متزايداً بخصوص التسرب من التعليم. حيث خَلُصَت دراسة حديثة إلى أن 89% من الطلاب لا يمكنهم الوصول إلى أجهزة الحاسوب، الأمر الذي يبرهن على الأهمية الاستثنائية للمكتبات في توفير خدمات الإنترنت ومساعدة الطلاب الريفيين في إفريقيا على مواصلة التعليم.
وفي منطقة زنجبار شبه المستقلة بتنزانيا، ستقوم منظمة "بوك إيد إنترناشيونال" باستخدام منحة الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر لتحويل ثلاث حاويات شحن إلى مكتبات مجهزة بالكامل بخمسة آلاف كتاب. كما سيتولون أيضاً تدريب أمناء المكتبات على تقديم الدعم للشباب في مواصلة دراستهم ودعم المجتمع ككل في اكتساب مهارات كسب العيش.
وفي زيمبابوي، قدم الصندوق منحة إلى شيريكور شيريكور، أحد أشهر شعراء البلاد، للمشاركة في تأسيس مكتبة في قرية "نيماشاكوي" (Nemashakwe)، بمقاطعة جوتو، لتمكين أكثر من 800 شاب من الوصول إلى الكتب وأجهزة الحاسوب، إلى جانب إنشاء مصدر للمياه لتوفير هذا المورد الطبيعي الحيوي الذي سيعزز التضامن المجتمعي وسيشجع الشباب على الاستفادة من خدمات المكتبة.
وأكد شيريكور شيريكور أن دور المكتبة المزمع إنشاؤها لن يقتصر على توفير المعرفة للطلاب والمتعلمين فحسب، بل ستصبح مؤسسة فاعلة تسهم في تمكين مجتمع القرية وتعزيز الترابط بين مختلف أفراده. وأضاف أن مبادرته ستسعى لتلبية الحاجات الأساسية للقرية بالإضافة إلى توفير الكتب، "فالبئر الذي يمثل أقرب مصدر للمياه في نيماشاكوي يقع على مسافة كيلومتر من مركز القرية، فضلاً عن عدم توفر خدمات الكهرباء والإنترنت هناك. وبمساعدة المنحة التي قدمها الصندوق، سيمكننا تركيب نظام للطاقة الشمسية في المكتبة، والاتصال بالإنترنت من خلال شبكة الجوال".
ترجمة تحديات قطاع النشر إلى حلول مبتكرة
وثَّقَ الصندوق الإفريقي للابتكار في النشر المبادرات السريعة التي اتخذها الناشرون على مستوى العالم لدعم انتقال الأنظمة المدرسية إلى التعلم عبر الإنترنت، وتذليل الصعاب أمام الأبحاث والدراسات المهمة في هذا الصدد، وتوفير ملاذ للمجتمعات حول العالم خلال هذه الأزمة غير المسبوقة. كما تبرهن المبادرات التي يدعمها الصندوق على جهود الناشرين لتقديم ابتكارات واقعية في ظل ظروفٍ صعبة للغاية. وأخيراً، يجسد الفائزون بمنح الصندوق قيمة قطاع النشر ودوره الرائد في التعاون المبدع مع المعلمين والمكتبات والحكومات والمجتمع المدني لتطوير حلول مبتكرة تُحوِّل التحديات إلى فرص.