ما تأثير السياسات العامة على تطوير المجتمع المدني؟

3 دقيقة
السياسات العامة
shutterstock.com/Andrii Yalanskyi
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

“ترسيخ العدل والسلام وبناء المؤسسات القوية” هدف تنموي طموح يتطلب وجود سياسات عامة تحفز على التغيير وتخلق لمنظمات المجتمع المدني البيئة المناسبة والممكّنة للوصول إلى مجتمعات فعّالة ومسؤولة يشارك فيها الأفراد في صنع القرارات التي تؤثر على حياتهم.

أهمية المجتمع المدني في صناعة التغيير

في الدول النامية، وتحديداً منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تنحاز عمليات صنع السياسات العامة لصالح النخب ما يحدّ من قدرتها على تحقيق التنمية المستدامة، فغياب الإدارة المتمحورة حول المواطن، ومحدودية دور المجتمع المدني والأوساط الأكاديمية ومعاهد البحث في الرصد والتقييم واتخاذ القرارات سيزيد من تحديات الإصلاح والتغيير في المجتمع.

وتأتي أهمية المجتمع المدني من قدرته على فتح الأفق أمام المواطنين للمشاركة بتحسين نمط الحياة والعمل على تشريعات وقوانين تطور مفهوم المواطنة وتعززه، مع الأخذ بالاعتبار خصوصية التنوع الاجتماعي ومدى استجابته لمتطلبات الديمقراطية والتحضر.

ويعمل المجتمع المدني على رصد حاجات المواطنين والوصول إلى أفضل الحلول المبتكرة للمشكلات والتحديات دون إجراءات بيروقراطية مطولة، ويركز على جذب الموارد وبناء القدرات في الجوانب التي يعمل بها، وبذلك تؤدي منظمات المجتمع المدني دوراً مهماً في تشكيل السياسات والقوانين، لأنها تشكل صلة الوصل بين المواطنين والسلطات العامة، وتساعد على نقل احتياجات المواطنين ومشاكلهم وتمكّنهم من المشاركة في إدارة الشأن العام والتأثير في عملية صنع القرار.

عند الحديث عن دور المجتمع المدني في عملية صنع السياسة العامة لا بد أن نربطه بالشريك الأساس في العملية، وهو الدولة، إذ تنتج العملية عن تفاعل عدة أطراف داخلية وخارجية حكومية وغير حكومية، وما يشمل ذلك من تشاورات وضغوط، ففي المجتمعات الديمقراطية تؤثر منظمات المجتمع المدني على عملية صنع السياسة العامة عبر تقديم مقترحات حلول لمشاكل تعانيها شرائح واسعة في المجتمع.

بهذا المعنى فإن دور المجتمع المدني لا تقرره فقط تشريعات وقوانين ونصوص دستورية معينة، بل يجب أن يبرز بوضوح ويواكب التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وسيبقى هذا الدور محدوداً ما لم تدرك السلطات العامة أن منظمات المجتمع المدني أكثر فهماً للاحتياجات المحلية، وأن عملها بالقرب من القاعدة الشعبية أكثر مرونة وفعالية من حيث التكاليف.

إسهامات محدودة في رسم السياسات العامة

خلال العقد الماضي، حققت منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية نقلة نوعية في أدائها وقدرتها على المطالبة بإحداث التغيير في قضايا معينة، ولكن اليونسكو أعدّت تحليلاً مقارناً لمشاركة المجتمع المدني في السياسة العامة وتنظيم حملات المناصرة والحركات الاحتجاجية، وتبين أن هذا التحسن قابله زيادة في قدرة السلطات على الحد من تطور المجتمع المدني واستمرار منظماته عبر وضع القيادات والناشطين في مراكز إدارية ووزارية ودبلوماسية تمنعهم من المطالبة بإدراج مطالب المجتمع المدني في برامج السياسة العامة.

وخلص التحليل إلى أن منظمات المجتمع المدني بحاجة إلى بناء قدراتها المؤسسية والمعرفية وتعزيز كفاءتها في طرح البدائل، لتصبح قادرة على الانتقال من مرحلة الرصد والتحليل إلى مرحلة التحرك والضغط باتجاه التطوير والتغيير.

لنأخذ مثالاً من الكويت، إذ تناولت دراسة بعنوان: “دور المجتمع المدني في المساهمة في صياغة السياسات العامة: التجربة الكويتية في تناول قضية العنف ضد المرأة نموذجاً” طبيعة العلاقة بين الدولة، الحكومة ومجلس الأمة، وبين منظمات المجتمع المدني في الكويت في قضية استحداث سياسات لحماية المرأة من العنف الأسري، وأكدت إسهامات المجتمع المدني الكويتي سواء في الدعوة والمناصرة أو التوعية أو اقتراح الحلول والبدائل أو الرصد والمتابعة والمراقبة.

لكن بحسب الدراسة فإن هذه النتائج لا تزال دون الطموح، وأن تعزيز إسهامات المجتمع المدني وتعميق أثرها في إحداث التغييرات المرجوة، يتطلب من الدولة، بشقيها الحكومي والتشريعي، خلق بيئة ممكّنة وداعمة، تضمن حرية إنشاء المنظمات واستقلالية عملها، وحقها في الحصول على الموارد، وتنظيم تجمعات سلمية وحملات مناصرة لحقوق الأفراد والجماعات.

من جهة أخرى يجب على الجهات الفاعلة في المجتمع المدني تكييف وسائل الضغط على سياسات الحكومة والبحث عن أفضل سبل التعاون وبناء شبكات الدعم كي تصبح قوة موحدة تؤثر بفعالية في السياسات العامة.

ويمكن تعزيز التعاون بين السلطات العامة والمجتمع المدني من خلال:

  • تأسيس بيئة تشريعية مناسبة وإطار قانوني ممكّن يخلق قاعدة من الشركاء الأقوياء والموثوقين في المجتمع المدني، ويتمثل هذا الإطار في حق تأسيس المنظمات وأن تعمل بحرية دون تدخل الدولة، ويوفر لها فرص التواصل والتعاون مع المنظمات الأخرى أو مجتمع الأعمال والحكومات، وكذلك فرص الحصول على الموارد اللازمة لاستدامة عمل هذه المنظمات.
  • تبنّي وثائق سياسات مثل الاستراتيجيات والمواثيق ومذكرات التفاهم بهدف تعزيز التعاون والشراكة الطويلة الأمد، فمثل هذه الوثائق تقدم إطاراً استراتيجياً يحدد رؤية القطاع المدني ودوره ويوضح الأسس والتوجهات للشراكات المستقبلية. على سبيل المثال، تبنّى ممثلو المنظمات غير الحكومية والحكومة والبرلمان في إقليم كردستان العراق ميثاق الشراكة والتنمية بين السلطات العامة والمنظمات غير الحكومية، وذلك بالتشارك مع أكثر من 500 منظمة غير حكومية وغيرها من الشركاء من المجتمع المدني.
  • وضع آليات لتسهيل التعامل مع منظمات المجتمع المدني مثل تأسيس مكتب أو دائرة منفصلة أو إنشاء هيئات استشارية متعددة القطاعات لخلق منصة للحوار المستمر والمستدام الهادف لمعالجة القضايا التي تؤثر على عمل منظمات المجتمع المدني، ومنها شح الموارد المالية. وتضم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عدداً من الوزارات والمكاتب والأقسام لتعزيز التعاون بين منظمات المجتمع المدني والحكومة، إذ توجد في المغرب وزارة مسؤولة عن علاقات البرلمان مع المجتمع المدني، وأسست ليبيا وزارة للثقافة والمجتمع المدني وأنشأت مراكز لدعم المجتمع المدني في عدة مدن.
  • مشاركة منظمات المجتمع المدني في رسم السياسات عبر تجميع آراء المواطنين وتمكنيهم من التعبير عن مصالحهم بكفاءة وفعالية أكبر، ويقتضي ذلك أن تمنح السلطات العامة المواطنين حق الوصول للمعلومة في عملية رسم السياسات، والتشاور لتقديم الآراء حول وثائق معينة، وفتح آفاق الحوار في كل مرحلة من مراحل صنع القرار، بدايةً من وضع الأجندة وصولاً إلى التنفيذ.

إن تعاون السلطات العامة مع منظمات المجتمع المدني يجعلها تستفيد من خبرات هذه المنظمات ومواردها، وفي المقابل، توفير الدعم لمنظمات المجتمع المدني يُمكنها من أداء أدوارها لرسم السياسات وتقديم الخدمات بكفاءة أكبر.